عناصر الخطبة
1/ حال الأمة وبعدها عن مصدر عزتها 2/من العقوبات الإلهية: عدم استجابة الدعاء، أو تأخر الاستجابة 3/ من شروط استجابة الدعاء 4/أكل الحرام وأثره على الدعاء 5/من آداب الدعاء الإلحاح والتضرع والتذللاهداف الخطبة
اقتباس
لابد أن تكون الخطوط بيننا وبين الله موصولة حتى يستجيب الله لنا, وأول ما يصل من الخطوط بيننا وبينه –سبحانه- وتعالى "الإخلاص" إخلاص النية لله وإخلاص العمل لله, أن نجدد القلوب لله وأن نطهرها من حب الدنيا وحب الذات, وأن نعلقها بالآخرة وبالله -تبارك وتعالى-. إذا ظللنا نركض وراء الدنيا عبيدا لها نسعى وراء حطامها وشهواتها فلن يستجيب الله لنا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا, وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا, وذكاه روحًا وجسمًا, وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى, صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى, وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: إن أصحاب الفراسة من أهل الإسلام ليرون أن الأمة الإسلامية اليوم تعيش وبشكل أكثر من ذي قبل في فتن ملتهبة, فتن أصبح فيها الحليم حيرانا كما أخبر بذلك سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فقد أحاط بها الأعداء من كل جانب وبثوا فيها من أسباب الخلاف والفرقة ما لا يخفى, ويحاولون إسقاطها وإسقاط هيبتها ولحمتها وصورتها في العالم, وهم سائرون في منهجهم الذي رسموه, لا يتخلفون عنه ولا يحيدون عنه قيد أنملة.
أما الأمة فقد تخلت عن أسباب العزة, وتخلفت عن ميادين النصر ولم تأخذ بالأسباب التي تمكنها من مواجهة أعدائها, وأصيبت بالخلل في كل الجوانب, التي منها تستشرف النصر وتدرك الكرامة, من أسباب علمية واقتصادية وصناعية إلى غير ذلك...
وكل ذلك بسبب تفريطها في دينها وبعدها عن سنة نبيها سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-, وهذان الأمران الكتاب والسنة هما منبع النصر والعزة والكرامة, يقول الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي".
وبسبب هذا البعد عوقبت الأمة بألوان من العقوبات من أشدها وأخطرها: "عدم استجابة الدعاء، أو تأخر الاستجابة" يتساءل الواحد منا لماذا لا تزال الأمة تحت الحصار؟, لماذا لا تزال تضرب من يمين ويسار؟, ولماذا يظل أعداؤها يتحكمون فيها تحكم السادة في العبيد؟, أليست هذه هي الأمة القائمة على الدين والحق الشهادة على الناس؟, أليس هذه هي الدعوة التي يدعو بها الكثير من المسلمين صادرة من قلوب مخلصة؟!. إنها أسئلة تدور في نفوسنا وتضج مضاجعنا, فماذا يقول شرعنا في هذه القضية, قضية عدم استجابة الدعاء أو تأخر الاستجابة.
إن استجابة الدعاء لها شروط هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى استجابة الدعاء لها مدى معلوم ووقت محدد, يجيب الله فيها الداعي في الوقت الذي يريد وبالكيفية التي يريدها -سبحانه وتعالى-. قلنا للدعاء شروط فيا ترى هل نفذنا هذه الشروط شروط الدعاء؟.
إن من شروط الدعاء على الأعداء أن تدعو الله وأنت تواجه الأعداء وأنت في الميدان, لا تتخلى عن الجهاد ولا تتخلى عن البذل والتضحية, هذا ما فعله المسلمون يوم بدر حينما واجهوا المشركين وكانوا أقل عددا وأضعف عدة واستعدادا.
كان المشركون حوالي 1000 وكان المسلمون 300 يزيدون قليلا, كان مع المشركين مائة فرس والمسلمون لم يكن معهم إلا فرسان, المشركون خرجوا للحرب والمسلمون خرجوا للقاء القافلة ,ولكن حينما فرض على المسلمين أن يواجهوا المعركة استغاثوا بالله ودعوا الله -عز وجل-, قال الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:9]. استغاثوا بالله فأغاثهم ونصرهم لأنهم دعوا وهم في ميدان التضحية والفداء, النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو الله ويلح عليه في الدعاء ويقول: "اللهم أنجز ما وعدتني, اللهم إن تهلك هذه العصابة –من أهل الإسلام– لا تعبد في الأرض". فما زال يهتف به مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط ردائه عن منكبيه, فأته أبوبكر -رضي الله عنه- فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من وراءه فقال: "يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك". هذا هو الدعاء, الدعاء في قلب المعركة.
يحدثنا القرآن عن أصحاب طالوت وكانوا قلة كانوا في عدد أهل بدر, وحينما رأوا جنود جالوت وهم أكثر عددا وأقوى عدة, قال بعضهم: (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:249] (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ..) أصبحوا وجها لوجه وصفا لصف (قَالُواْ رَبَّنَا) هنا الدعاء (أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:250]. هكذا دعوا وهم في قلب المعركة فمتى كانت النتيجة (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء) [البقرة:251].
المشكلة -أيها الأحباب- أننا ندعو الله ونحن بعيدون عن المعركة, ندعو الله أن ينصر الإسلام ويعز المسلمين ونحن قعود وعلى جنوبنا, ولا نريد أن نبذل أنفسا ولا أموالا ولا أن نضحي بغالٍ ولا رخيص, وما هكذا يستجاب الدعاء.
لقد تركنا لأعدائنا اللجام يفعلون ما يشاءون ويمررون ما يريدون, تخلينا في جميع المجالات: سياسيا, اقتصاديا, فكريا, وإعلاميا, نعم وإعلاميا, الإعلام الذي كان من المفترض أن يكون وسيلة من وسائل نشر الدين والتعريف بسيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-, ومقارعة الجاحدين والمعاندين, إذ به إعلام يمكن للرذائل ويحارب الفضائل.
فيا أيها المسئولون عن الإعلام في بلاد المسلمين: اتقوا الله في المسلمين واتقوا الله في أبناء المسلمين, لقد دمرتم الأخلاق بالمسلسلات بتركيها وهنديها, والأفلام شرقها وغربها, لقد بعتم للمسلمين الوهم بما تسمونها بحثا عن المواهب غناءها ورقصها. زيفتم للناس البطولة في سوق الوهم حتى اشتبه على الكثيرين الأمر فلم يعدوا يميزون بين بطلها وبصلها.
أيها الأحباب: إنما يستجيب الله الدعاء من قوم بذلوا ما يستطيعون وتركوا لله ما لا يستطيعون, الله هو الذي يكمل النقص ويسد الثغرات لأن النصر من عنده.
من الشروط كذلك لاستجابة الدعاء: أن يكون الخط موصول بينك وبين الله, فنحن قطعنا غالب الخطوط بيننا وبين الله بما نفعله من معاصي بما نرتكبه من موبقات, بالإعراض عن شرع الله وحكمه بتهاوننا بفرائض الله, بتركنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قال -صلى الله عليه وسلم- "لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم" (رواه الترمذي وقال حديث حسن).
الله تعالى يقول (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40], فمن هم الذين ينصرون الله ؟ (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:41] هؤلاء هم الذين يستحقون نصر الله. قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7], من استنصر بالله فلن يغلب, من اعتز بالله فلن يذل, من استكثر بالله فلن يقل, من استغنى بالله فلن يفتقر (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:160].
لابد أن تكون الخطوط بيننا وبين الله موصولة حتى يستجيب الله لنا, وأول ما يصل من الخطوط بيننا وبينه –سبحانه- وتعالى "الإخلاص" إخلاص النية لله وإخلاص العمل لله, أن نجدد القلوب لله وأن نطهرها من حب الدنيا وحب الذات, وأن نعلقها بالآخرة وبالله -تبارك وتعالى-.
إذا ظللنا نركض وراء الدنيا عبيدا لها نسعى وراء حطامها وشهواتها فلن يستجيب الله لنا, الله تعالى يقول (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186]. انظر إلى قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي) هذه الإضافة (عِبَادِي) هذه الإضافة لها معنى, لابد أن تكون عبدا لله, أن تشعر بالعبودية له وحده, أما إذا كنت عبدا للشيطان, عبدا للهوى, عبدا للدرهم والدينار, عبدا للشهوة والغريزة فلن يستجيب الله لك. واستشعارك لمعنى عبوديتك لربك تجعلك تعرف قدر نفسك, وتجعلك تمتثل أمر ربك إذا قال: افعل قلت لبيك, وإذا قال: لا تفعل قلت لبيك وسعديك، وإذا نزلت بك ضائقة قلت مناجيا ربك: الخير بيديك. فمن معاني الإسلام الاستسلام لربك عن طواعية (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:71], بهذه المعاني عاش السابقون الأولون من هذه الأمة, كان إذا دعا أحدهم ربه قال الله له: "لبيك عبدي", فمن أرد حذوهم فليحتذي حذوهم.
جعلني الله وإياكم ممكن ذكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سرا وجهرا, أمين, أمين
والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي دعا عباده للدعاء ووعدهم بالإجابة, ودعاهم إلى طاعته وحسن الإنابة, والصلاة والسلام على من بين للناس شروط الدعاء وأوضح لهم آدابه, سيدنا محمد -صلى الله عليه- وعلى آله والصحابة, ومن تبعهم بإحسان من أهل الفضل والنجابة.
معاشر الصالحين: ومن شروط استجابة الدعاء أن تكون متطهرا من الحرام في مأكلك ومشربك وملبسك ومعيشتك, أما إذا كنت تأكل الحرام وتشرب الحرام وتلبس الحرام وتتغذى بالحرام فهيهات هيهات أن يستجيب الله لك.
لقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51], وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172]", ثم ذكر الرجل أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب, يا رب ومطعمه حرام , ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لذلك".
فكيف يستجاب لذلك؟!, عيشه حرام في حرام, وهو يطيل السفر, والسفر من مقدمات الاستجابة خصوصا مع الشعث والغبرة, ولعله سفر حج أو عمرة أو طلب رزق أو طلب علم مع هذا السفر, ومع أنه أشعث أغبر ومع أنه يرفع يديه إلى السماء ومع قوله :يا رب يا رب والإلحاح على الله, هذا كله من مرشحات الاستجابة فمع هذا كله يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فأنى يستجاب لذلك" هيهات أن يستجاب له. ولذلكم لما سأل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله: "ادعوا الله لي أن يجعلني مستجاب الدعوة", فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أطب طعمتك يستجاب دعوتك" .
هؤلاء الذين يدعون الله كم منهم من يحرص على الحلال الخالص لا يأكل الحرام, لا يأكل الفوائد الربوية, لا يتعامل بمعاملات محظورة, لا يطمع في حقوق الآخرين, لا يظلم عماله ولا موظفيه, لا يأكل عرق أجير, لا يأخذ مال بغير حق, كم من الناس يحرص على أن يطهر رزقه ويطهر دخله من كل حرام أو رشوة أو شبهات.
ثم لتعلم -أخي المسلم- رعاك الله أن في أعظم الإحسان إلى أبناءك أن تطعمهم الحلال, فوالله الذي لا رب سواه من أراد أن يبارك له في أولاده وأن يكونوا من النجباء ومن الأخيار فليحرص على أن يطعهم الحلال. وأعرف رجلا بسيطا يحرص على الحلال ويطعم أولاده من الحلال ولا يقبل الشبهة أبداً، رزق بتسعة أولاد وبنتان كلهم يحفظون القرآن, وهذا من نتائج الحلال وثمراته وبركاته, ومع النقيض ما أكثر الذين يتخبطون في الحرام ويأكلون حقوق الناس انظر إلى أبناءهم وأموالهم ترى العجب العجاب, أسأل الله أن يرد الجميع إلى الصواب.
لكي يستجيب الله دعاءنا لابد أن نصل ما بيننا وبين ربنا بتحري الحلال والبعد عن الحرام, بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, بإخلاص النية لله -تبارك وتعالى-, بالوقوف عند أمر الله ونهيه, بأن نكون كما أراد الله لنا مخلصين له الدين ندعوه رغبا ورهبا, كما وصف الله أنبياءه الصادقين وعباده الصالحين: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90].
نحن في حاجة -أيها الأحباب- إلى تطهير هذه القلوب ووصلها بالله, حتى إذا دعونا الله دعونا بحرقة وحرارة موقنين بالإجابة, كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت, اللهم ارحمني إن شئت, ليعزم مسألته فإنه لا مكره له" (متفق عليه).
فهذا إبراهيم بن أدهم, وما أدراكم ما إبراهيم بن أدهم ذهب إلى سوق البصرة اجتمع عليه الناس, وقالوا: يا أبا اسحاق, ما لنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: "لأن قلوبكم قد ماتت بعدة أشياء, أولها: أنكم عرفتم الله ولم تؤدوا حقه, وثانيها: أنكم زعمتم أنكم تحبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتركتم سنته، وثالثها: أنكم زعمتم أن الموت حق ولم تستعدوا له، رابعها: علمتم أن الجنة حق ولم تستعدوا لها, خامسها: أيقنتم أن النار حق ولم تهربوا منها، وسادسها: أنكم قمتم من نومكم فاشتغلتم بعيوب الناس ونسيتم عيوبكم".
أيها الأحباب الكرام: نحن ندعو الله كثيرا ولكنا في حاجة إلى أن نحقق شروط الدعاء حتى يستجيب الله لنا. ومع محاولتنا تحقيق شروط استجابة الدعاء علينا أن نستمر في الدعاء وأن نلح على الله -جل وعلا- ولا نيأس ولا نستعجل, قال -صلى الله عليه وسلم-: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل, يقول: دعوت دعوت فلم يستجب لي" (رواه البخاري ومسلم). ألح على الله باستمرار لا تيأس من روح الله (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87].
فالدعاء مطلوب لأنه عبادة قال -صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء هو العبادة" ثم تلا قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60] أي عن دعائي فوضع كلمة العبادة موضع الدعاء.
ومن ناحية أخرى فإنا لا ندري كيف يستجيب الله لنا, وفي الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يدعوه ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته, وإما أن يدخرها له في الاخرة, وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" فقال الصحابة : إذاً نكثر؟ فقال -صلى الله عليه وسلم- "الله أكثر" (رواه أحمد والبزار).
وفي الحديث القدسي: "يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنساكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر" (رواه مسلم).
ثم إنه يجب على الداعي أن يقدم بين يدي دعاءه فقره وذلته وحاجاته وتوبته, وأن يسكب دموعه على ما كسبت يداه, فالتذلل من أعظم الأسباب المقربة من الاستجابة, فهذا النبي الصالح يونس -عليه السلام- لما جرى عليه القضاء وألقي من السفينة والتقمه الحوت العظيم, أمر الله الحوت ألا يكسر له عظما ولا يهشم له لحما, فبقي يونس -عليه السلام- في تلك المشاهد العجيبة وتلك الظلمات ظلمات البحر والليل وبطن الحوت, فتذكر ربه وتبرأ حوله وقوله وتذلل لربه واعترف بذنبه ففتح الله عليه ذلك الدعاء العظيم (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) بهذه الكلمات الموجزة ناد ذو النون ربه وهي كلمات تتضمن التوحيد (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ) والتنزيه (سُبْحَانَكَ) أي ينزهك عن الظلم أن الذي ظلمت نفسي, والاعتراف ( إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فنجاه الله من الغم وأخرجه من الكرب ولفظه الحوت على الشاطئ, بسبب هذا الدعاء الخالص (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88], إذا وقعوا في مثل ما وقع فيه يونس -عليه السلام- ودعوا الله بحرارة وإخلاص وأمل.
ولذلكم يقول -صلى الله عليه وسلم- "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فإنه لم يدعو بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له". وفي رواه فقال رجل: يا رسول الله هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا تسمع إلى قول الله -عز وجل-: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)".
فما أحوج الأمة جمعاء إلى هذا الدعاء, خصوصا وهم يروا إخوان لنا في الشام قد التقمهم الظلم وأدخلهم في ظلمات ثلاث, وانقطعت الأسباب وأغلقت الأبواب, وتواطأ المكر واشتد الكيل وزاغت الأنفس, وبلغت القلوب الحناجر.
فما أحوجنا أن نستغيث الله بهذا الدعاء العظيم, رجاء أن ينفس الله كربهم (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنا كُنا مِنَ الظَّالِمِينَ).
اللهم أصلح أحوالنا ..
التعليقات
عبدالنصير رحيمي
17-06-2020جزاكم الله خيرا كثيرا