عناصر الخطبة
1/ فَضل الُّلغةِ العَرَبِيَّةِ وَمَكانَتها 2/ محاولات المُستَعمِر فرض ثَقافَتَهُ ولُغَتَهُ على الشُّعُوب 3/ الأزمة المعاصرة أَزمَة عِزَّةٍ لا أَزمَة لُغَةٍ 4/ كيف تَبقى لُغَتُنا العربية شَّامِخَة؟اهداف الخطبة
اقتباس
لَمَّا كانَت لُغَةُ قُرآنِنا بهذه القُوَّةِ والمَقدِرَةِ، فَلا غَرابَةَ أنْ يَستَهدِفَها أعدَاؤُهَا، ويَعبَثَ بِها المُستَعمِرُ المَاكِرُ الخَبِيثُ بِالتَّهَجُّمِ تارةً وبِالتَّهوِينِ مِنْ شَأْنِهَا تارةً، وبِالسُّخرِيَةِ مِنها ومن المُشتَغِلينَ بِها تارةً أخرى، عَبْرَ وسائِلِ إعلامِهم، وقَصَصِهم، ورِواياتِهم، ومَسرَحِيَّاتِهم، حتى مع الأسفِ بِتنَا نَعرفُ شُعُوباً عَرَبِيَّةً إسلامِيَّةً لا تَكادُ تُميِّزُ حَرفَهمُ العَرَبِيُّ مِن الفرَنسيِّ, وَبِتنَا نسمعُ مِن أَبنَائِنَا عباراتِ الُّلغةِ الأجنَبِيَّةِ مُختَلِطَةً بِلُغَتِهُمُ اليَومِيَّةِ! بل إنَّ عَدَداً مِن المَحَلاَّتِ والمَلابسِ تَحمِلُ عباراتٍ أجنَبِيَّةٍ ولَطالَمَا حَمَلَتْ عِباراتٍ بَذيئَةٍ ومَشينَةٍ ومع ذالكَ تُباعُ وتُلبسُ !...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي جَعَلَ العَرَبِيَّةَ لَنا لِسانًا، وَزادَها شَرفًا وجَمالاً وَبَيانًا، أَنزَلَ بِحروفِها الذِّكرَ قُرَآنًا، نَشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهَ كَرَّمَ الإنسَانَ، وهَداهُ بالقُرآنِ، وعلَّمهَ البَيانَ، ونَشهدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ ورَسُولُهُ، أَفصَحُ النَّاسِ لِسَانَا وأجمَلُهم بَيانَاً، وَهبَهُ رَبُّهُ جَوامِعَ الكَلِمِ فَفاقَ النَّاسَ فَضْلاً وَجَمالاً، فالَّلهمِ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارِكْ عليه وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ فهم في الُّلغَةِ والبَيانِ فُرساناَ، وعلى التَّابعينَ وَمَنْ تَبِعَهم إحسَانا وإيمَانَاً.
أمَّا بعدُ: يا مسلمون، أطيعُوا ربَّكم واتَّقُوهُ، فإنَّ التَّقوى خَيرُ زَادٍ في المَعاشِ والمَعَادِ: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
أيُّها المُؤمنونَ: لكلِّ أُمَّةٍ شِعَارٌ, وقَد أَنعَمَ اللهُ -تَعالى- على أُمَّةِ العَرَبِ بِأفْصَحِ لِسانٍ، وأَقوى بَيَانٍ، ثُمَّ كانَ تَاجُها وفَخَارُها مَنْ أوتِيَ جَوَامِعِ الكَلِمِ القائِلِ: "إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا"، فلقد مَنَّ اللهُ تعالى علينا بأَفضَلِ لُغةٍ في الأكوانِ إنَّها لُغةُ القرآنِ الكَريمِ فهيَ أَسَاسُ الُّلغَةِ وَتَاجُها وشِعَارُها.
وإذا طلبتَ من العلومِ أجلَّها*** فأجلُّها منها مُقيمُ الأَلْسُنِ
الُّلغةُ العَرَبِيَّةُ: زَهرةُ التَّأريخِ، وَشَهَادَةُ الأَجيَالِ، وَالمَنهَلُ العذبُ، والبيانُ السَّاحِرُ, ومِفتَاحُ الحقِّ المُبينِ.
لغةٌ إذا وقعَت على أسمَاعِنا *** كانت لَنا بَرْدًا على الأَكبَادِ
سَتَظَـلُّ رَابِطَةً تُؤلِّفُ بَينَنَا *** فهيَ الرَّجاءُ لِناطقٍ بالضَّـادِ
الُّلغةُ العَرَبِيَّةُ: حَامِلةُ رِسَالِةِ الإسلامِ، وأدَاةُ تَبليغِ الوَحيَينِ, مَحفُوظَةٌ بِحفظِ القُرآنِ الكَريمِ، واللهُ تعالى قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون)[الحجر: 9]، هي لُغَةُ الإعجَازِ الإِلَهيِّ والإبْدَاعِ الأَدَبِي. والعَرَبُ عامَّةً وقُريشٌ خاصَّةً تَعرِفُ قِيمَةَ الُّلغةِ ومَدْلُولاتِها ومآلاتِها.
ولَمَّا ضَاقتْ قُريشٌ بالقُرانِ الكريمِ وبأُسلُوبِهِ وبَيَانِه ذْرعاً, طَلَبَت من الوليدِ ابنِ المُغيرةِ أنْ يَقولَ في القُرآنِ قَولًا يَبْلُغُ قَومَهُ أنَّهُ كَارِهٌ لَهُ، ومُنكِرٌ لهُ! فقَالَ الوليدُ: وَمَاذَا أَقُولُ فَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلاَوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاَوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاَهُ, مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ!
أسمِعتم هذا الوَصفَ البَليغَ من أهلِ البلاغَةِ والُّلغةِ؟! ألا يَحِقُ لَكم يا عرَبُ أنْ تَفخَروا بِلُغَتِكم وتُحافِظوا عليها وَتَذُودوا عن حِياضِها؟! فالقُرآنُ الكَريمُ نَزَلَ بها، فَقَالَ سُبحانَهُ: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 192- 195].
وَرَبَطَ -سُبحانَهُ- بينَ الِّلسَانِ العَرَبِيِّ وَبينَ إعمَالِ العَقلِ فَقَالَ -تَعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2] فَبِحمدِ اللهِ تَفَاعَلَ المُسلِمونَ مَعَ القُرآنِ فَأعمَلُوا عُقُولَهم وأنتَجُوا حَضَارَةً لا تُنكَرُ.
عباد الله: وَرَبَطَ اللهُ -تَعالى- بين الُّلغةِ العَرَبِيَّةِ وبينَ الدَّعوةِ إلى العِلمِ، فقال تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[فصلت: 2]، فَنَطَقَ بِها المُسلِمُ وغَيرُهُ، وَصَارَتْ اللُّغَةُ ضَرُورَةً في كُلِّ فَنٍّ فَأَلَّفُوا المَعاجِمَ التي سَهَّلت لِلنَّاسِ النُّطقَ بِها.
وَجَعلَ -سُبحانَهُ- الُّلغةَ العَرَبِيَّةَ سَبِيلاً إلى العِلمِ والتَّقوى فَقَالَ -سُبحانَهُ-: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر: 27- 28].
أيُّها الأكارِم: لقد تَحدَّث أعلامُ الأُمةِ عن فَضلِ الُّلغةِ العَرَبِيَّةِ وَمَكانَتِها فقد قَالَ الخليفةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ، فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ وتُثَبِّتُ الْعَقْلَ".
وكتبَ كاتبٌ لأبي موسى الأشعريِّ -رَضِيَ اللهُ عنه- خطابًا لعُمرَ عَنْهُ فَبَدَأَهُ بِقولِهِ: (مِنْ أبو مُوسى)، فَكَتَبَ إليه عُمرُ أن اضرِبه سَوطًا، واستبدِلُه بِغيره! ما أعظمَ غَيرَتَهم على لُغَةِ القُرآنِ! فَلِلَّهِ دَرُّهُم!.
وقَالَ عبدُ المَلِكِ بنِ مَروانَ: "أَصلِحُوا أَلسِنَتَكُم فَإنَّ المَرءَ تَنُوبُهُ النَّائِبَةُ فَيستَعِيرُ الثَّوبَ والدَّابَةَ ولا يُمكِنُه أنْ يَستَعيرَ الِّلسانَ، وَجَمَالُ الرَّجُلِ فَصَاحَتُهُ".
وَقالَ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: اعلم أنَّ اعتِيادَ الُّلغَةِ يُؤثِّرُ في العقْلِ والخُلُقِ والدِّينِ تَأثِيراً قَويِّاً بَيِّناً، ويُؤَثِّرُ أَيضَاً فِي مُشَابَهةِ صَدْرِ هذهِ الأمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ والتَّابِعينَ، ومُشَابَهَتُهُم تَزِيدُ العَقلَ والدَّينَ والخُلُقَ، والُّلغَةُ العَرَبِيَّةُ مِنْ الدِّينِ، وَمَعرِفَتُها فَرضٌ واجِبٌ، فإنَّ فَهمَ الكتَابِ والسنَّةِ فَرضٌ، ولا يُفهمانِ إلاَّ بِفَهمِ الُّلغَةِ العَرَبِيَّةِ، ومَا لا يَتِمُّ الوَاجِبُ إلاَّ بِهِ فَهو واجِبٌ.اهـ.
لُغتُنا يا كِرامُ: دَقِيقَةُ المَبنى واسِعةُ المَعنى! بِحرفٍ واحدٍ, بل بِحَرَكَةٍ واحِدَةٍ يَتَغَيَّرُ كُلُّ شيءٍ تَأمَّلُوا قَولَهُ -تَعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، ومعناها أنَّ الْعُلَمَاءَ بِسَبَبِ مَعرِفَتِهم باللهِ وبِشَرعِهِ وأحكامِه فهُم أكثَرُ النَّاسِ خَشيَةً وَمَحبَّةً وإجلالاً لِلهِ تعالى. ولو قَرأها أحدٌ فَقالَ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ، لَصَار معناها فَاسِدَاً فَاحِشَاً قَد تُبطِلُ صَلاتَهُ.
وبعدُ أُمَّةَ الإسلامِ: فإنَّما هذهِ ذِكرى لِلذَّاكِرينَ، وهَتْفَةٌ لِتَنبِيهِ الغَافِلِينَ؛ فَتَمسَّكُوا بلُغةِ القُرآنِ والدِّينِ، وربُّوا عليها أبناءَكم؛لِتَظفَرُوا بالحُلَّةِ والكَرَامَةِ,في الدُّنيا ودَارِ المُقَامَةِ.
أَئِمَّةَ الُّلغَةِ الفُصحى وقادتَها *** ألا بِدارًا فإن الوقتَ كالذَّهَبِ
ردُّوا إلى لُغةِ القرآنِ رَونَقَهَا *** هيَّا إلى نَصْرِها فِي جَحفَلِ اللَّجِبِ
حفِظَ الله لُغَتَنا مِن كُلِّ مَكرُوهٍ، وحيَّا اللهُ أَهلَهَا وأبَقَاهُم ذُخرًا يَصُونُونَ عِرضَها، ويَرُدُّونَ مَجدَها، أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجِيم: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [إبراهيم: 4].
بارك الله ولي ولكم في القُرآنِ العَظِيمِ، ونَفَعَنِي وإيَّاكم بِما فيهما من الذِّكرِ الحَكيمِ، وأستغفرُ الله العظيمَ لي ولَكُم ولِلمُسلِمِينَ فاستغفِروهُ إنَّهُ غَفُورٌ رَحيمٌ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ خلقَ الإنسانَ,علَّمَهُ البيانَ، نَشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شرِيكَ لَهُ الملك الدَّيانُ، ونَشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ، سَيَّدُ الأَنَامِ أرسَلَهُ ربُّهُ بلسانٍ عربِيٍّ مُبينٍ لِيكونَ هدًى ورحمةً لِلعالَمينَ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ علَيه وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ والتَّابعينَ لهم ومَن تَبعَهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ: فَأُوصِيكم يا مُسلِمونَ ونَفْسِي بِتقوى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهِي الوَصِيةُ الجَامِعةُ، والذَّخِيرةُ النَّافِعَةُ.
قَالَ ابنُ فَارِسٍ وهو مِن أهلِ الُّلغَةِ عندَ قَولِه تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 3، 4] قَدَّمَ اللهُ -عزَّ وَجَلَّ- ذِكرَ البَيَانِ على جَمِيعِ مَا تَوَحَّدَ -سُبحانَهُ- بِخلْقِهِ، مِن شَمسٍ، وَقَمَرٍ، ونَجْمٍ، وشَجَرٍ، لِبيانِ أهمِّيةِ الفصَاحَةِ والبيانِ!
أيُّها الأكارِمُ: الُّلغةُ العَرَبِيةُ هي أَعظَمُ الُّلغاتَ ثَرَاءً لِلمَعنى، وأَدَقُّها في التَّعبِيرِ وأَطرَبُها للآذَانِ وأجمَلُها في النَّظمِ والخَطِّ وأكثَرُها مُفرَدَاتٍ وجُذُورا, وفي شَوَاهِدِ التَّأريخِ ما أَثبَتَ أنَّها استَطَاعت أنْ تُحَقِّقَ كُلَّ مُتَطَلَّبَاتِ المُجتَمَعَاتِ عِلمِيَّاً واقتِصَادِيَّاً وَسِياسِيَّا وعَسْكَرِيَّاً وتَقَنِيَّاً!. ولِلهِ دَرُّ حَافِظْ إِبراهِيمَ ورَحِمَهُ حينَ أنشَدَ:
وسعْتُ كتابَ اللهِ لَفظاً وغَايَةً *** ومَا ضقْتُ عنْ آيٍ بهِ وعِظَاتِ
فكيفَ أَضِيقُ اليَومَ عنْ وصفِ آلَةٍ *** وتَنسِيقِ أَسمَاءٍ لِمُختَرَعَاتِ
أنَا الْبَحْرُ فِي أَحشَائهِ الدُّرُ كامنٌ *** فهَلْ سَاءَلُوا الغَوَّاصَ عنْ صَدَفَاتِي
أيُّها الإخوةُ في اللهِ: ولَمَّا كانَت لُغَةُ قُرآنِنا بهذه القُوَّةِ والمَقدِرَةِ، فَلا غَرابَةَ أنْ يَستَهدِفَها أعدَاؤُهَا، ويَعبَثَ بِها المُستَعمِرُ المَاكِرُ الخَبِيثُ بِالتَّهَجُّمِ تارةً وبِالتَّهوِينِ مِنْ شَأْنِهَا تارةً، وبِالسُّخرِيَةِ مِنها ومن المُشتَغِلينَ بِها تارةً أخرى، عَبْرَ وسائِلِ إعلامِهم، وقَصَصِهم، ورِواياتِهم، ومَسرَحِيَّاتِهم، حتى مع الأسفِ بِتنَا نَعرفُ شُعُوباً عَرَبِيَّةً إسلامِيَّةً لا تَكادُ تُميِّزُ حَرفَهمُ العَرَبِيُّ مِن الفرَنسيِّ, وَبِتنَا نسمعُ مِن أَبنَائِنَا عباراتِ الُّلغةِ الأجنَبِيَّةِ مُختَلِطَةً بِلُغَتِهُمُ اليَومِيَّةِ! بل إنَّ عَدَداً مِن المَحَلاَّتِ والمَلابسِ تَحمِلُ عباراتٍ أجنَبِيَّةٍ ولَطالَمَا حَمَلَتْ عِباراتٍ بَذيئَةٍ ومَشينَةٍ ومع ذالكَ تُباعُ وتُلبسُ !
عبادَ اللهِ: لَيسَ مِن المُستَغرَبِ أنْ يَفرِضَ الأجنبِيُّ المُستَعمِرُ ثَقافَتَهُ ولُغَتَهُ على شَعبٍ من الشُّعُوبِ إنَّما الأَسَفُ والأَسى أنْ يَصدُرَ ذَلكَ وَيَتَبَنَّاهُ بِني قَومِنا، مِمَّن تَعلَّقَ بِالأجْنَبِيِّ، وَوَلَّى وَجَهَهُ شَطرَهُ، وَنَظَرَ إلى ثَقَافَةِ الإِسلامِ بِازدِرَاءٍ، وإلى لُغَةِ القُرآنِ بِاحتِقَارٍ!
حَقَّاً يا مؤمِنونَ: إنَّ الأَزمَةَ التي نَعِيشُها أَزمَةَ عِزَّةٍ لا أَزمَةَ لُغَةٍ، وأزْمَةَ نَاطِقينَ لا أَزمَةَ كِلمَاتٍ، فَلَمْ تَضعُف لُغَتُنا يَومَاً وَلَمْ تَعجَزْ، ولَكِنَّنا ضَعُفْنا وَقَصَّرْنا. مِسكينٌ هذا المُثَقَّفُ المُستَغْرَبُ المُستَعْمَرُ فقد ضَعُفَ وتَخَاذَلَ، وَشَرَّقَ وغرَّبَ، يُفتِّشُ لَعَّله يَجِدُ لَهُ مَلجَأً أو مُدَّخَلا وما عَلِمَ أنَّهُ ذَلَّ وَخَنَعَ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ -رَحِمهُ اللهُ-: "ما ذَلَّت لُغَةُ شَعْبٍ إلاَّ ذَلَّ، ولا انحَطَّت إلاَّ كانَ أَمرُهُم في ذَهَابٍ وإِدبَارٍ, ولِهَذا يَفرِضُ الأَجنَبِيُّ لُغَتَهُ فَرْضَاً، ويَركَبُهُم بِها، ويُشعِرُهم عَظَمَتَهُ فِيها، فَأَمرُهُم مِن بَعدِهِ لأَمْرِهِ تَبَعٌ".
عبادَ اللهِ: لا بد أنْ تَبقى لُغَتُنا هيَ الشَّامِخَةُ، ولا بُدَّ مِن تَحصينِ أَبنَاءِ الأُمَّةِ، والاعتِزَازِ بِالدِّينِ واللُّغَةِ يَجبُ أنْ نُعلنَ أنَّنَا بِحَاجَةٍ إلى الأَمْنِ الُّلغَوِيِّ، كمَا أنَّنا بِحَاجَةٍ إلى الأَمْنِ الفِكرِيِّ، والغِذَائِي، فَلنُفَعِّل لُغَتَنا فِي كَلامِنا ومَجَالِسنا وَمُخَاطَبَاتِنا وقصَائِدَنا ومَسرحِيَّتِنا, وأنْ نَغرِسَ ذالِكَ في أولادِنَا ونُوَفِّرَ لَهم من الوَسَائِلِ ما يُعينهم على التَّفَاعُلِ مَعها، هذا هو الطريق، وعلى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ : (وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) [الفرقان: 31].
أيُّها الأكارمُ: تَعَلُّمُ الُّلغَةِ الأجنَبِيَّةِ واستِخدَمُها في مَوضِعِها شيءٌ, والتَّحَدُّثُ بها وخَلطُها مع الُّلغَةِ العربِيَّةٍ شيءٌ آخَرُ.
ألا فَاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ: وَحَافِظُوا على لُغَتِكم واذكُرُوا فَضلَ رَبِّكم عليكم القائِلِ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2].
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها.
اللهم أصلح لنا نياتنا، وبارك لنا في أزواجنا وذرياتنا واجعلهم قرة أعين لنا، واجعل التوفيق حليفنا، وارفع لنا درجاتنا، وزد في حسناتنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفيته.
اللهمَّ اغفر لنا جِدَّنا وهَزْلَنا وخَطَئَنا وعمدَنا وكُلُّ ذلِكَ عندنا,اللهمَّ ثَبِّتنا بالقولِ الثَّابتِ في الحياةِ الدُّنيا ويَومَ يقومُ الأشهادُ.
اللهم آمنَّا في أوطانِنِا، وأَصلِح ووفِّق أَئِمَّتَنا وولاةَ أمورِنا، خُذ بِنَواصِيهم لِلبرِّ والتَّقوى, وأصلح لهم البِطَانَةِ, وأعنهم على أداء الأمانَةِ. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عبادَ اللهِ: اذكروا اللهَ العظيمَ يذكُركُم واشكُرُوهُ على عُمُومِ نِعَمِهِ يَزِدكُم ولَذكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يَعلمُ ما تَصنعُونَ.
التعليقات