عناصر الخطبة
1/أخذ العبرة من أحوال الآخرين حتى لا يصيبك ما أصابهم 2/من قصص الذين تبدلت أحوالهم في الدنيا 3/بعض الخلق لا يرون التقصير في أنفسهم في الدنيا والآخرة 4/المؤمن كلما زاد إيمانه وعمله كلما اتهم نفسه بالتقصير والتفريطاقتباس
فَجَعلتُ أَنظرُ إليهِ وأَتَأمَّلُهُ، فَقَالَ لي: مَالَكَ تَنظرُ إليَّ؟، فَقُلتُ لَهُ: شَبَّهتُكَ بِرَجلٍ رَأيتُهُ بِمَكَّةَ، وَوَصفتُ لَهُ الصِّفةَ، فَقَالَ لَهُ: أَنا ذَلكَ الرَّجلُ، فَقُلتُ: مَا فَعلَ اللهُ بِكَ؟، فَقَالَ: إنِّي تَرَفَّعتُ في مَوضعٍ يَتَواضَعُ فِيهِ النَّاسُ، فَوضَعَني اللهُ حَيثُ يَتَرفَّعُ النَّاسُ...
الخطبة الأولى:
الحَمدُ للهِ وَحدَهُ؛ (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، نَحمَدُهُ حَمدَ الشَّاكرينَ، وَنَستَغفرُهُ استغفارَ المُذنِبينَ، ونَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، خَلقَ فَهَدى، وأَعطَى فَأَغنى؛ (وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، وَأَشهدُ أن نبيَّنا مُحمَّداً عَبدُهُ وَرَسولُهُ؛ بلَّغَنا رِسالاتِ رَبِّنا، وَنَصَحَ لَنَا؛ فَلا خَيرَ إلا دَلَّنا عَليهِ، ولا شَرَّ إلَّا وَحذَّرَنا مِنهُ، فَتَرَكَنا عَلى المحَجَّةِ البَيضاءِ لَيلُها كَنَهارِها لا يَزيغُ عَنها إلَّا هَالكٌ، صَلَّى الله ُوَسَلَّمَ وبَاركَ عَليهِ وعَلى آلِ بَيتِهِ الطَّيبينَ الطَّاهرينَ، وأَصحابِهِ الغُرِّ المُحَجَّلينَ، ومَنْ سَارَ عَلى دَربِهم واهتدى بِهُداهم إلى يَومِ الدِّينِ، أَمَّا بَعدُ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
أيُّها الأحبَّةُ: اسمعوا لِهذا الحديثِ العَجيبِ مِنْ أَحَاديثِ أشراطِ السَّاعةِ، عَن أبي هُرَيرةَ -رَضِيَ الله عَنه- أنَّ رَسولَ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قَالَ: "لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَحْسِرَ الفُراتُ عَن جَبَلٍ من ذَهَبٍ، يَقتَتِلُ النَّاسُ عليه، فيُقتَلُ من كُلِّ مِائةٍ تِسعةٌ وتِسعونَ، ويَقولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنهم: لَعلِّي أَكونُ أَنَا الذي أَنجو، فمَن حَضَرَ فلا يَأخُذْ مِنهُ شَيئاً"، ولَستُ أُريدُ هُنا أن أَتَكلَّمَ عَن أَشراطِ السَّاعةِ ومَا فيها مِنْ أَهوالٍ وعَجائبَ، ولَستُ أُريدُ أن أَخطُبَ عَن الفِتنِ وَما يَكونُ فِيها من ظُلَمَاتٍ ومَصائبَ، ولَكنْ نُريدُ أن نَعرِفَ شَخصيَّةَ الإنسانِ ومَا فِيها من أَنماطٍ وغَرائبَ.
فَعَجباً لِبَعضِ البَشرِ، فَهَا هو يَرى الدِّماءَ وَهيَ تَسيلُ عِندَ نَهرِ الفُراتِ بِسَببِ القِتالِ والخِصامِ، ويَعلمُ حَديثَ النَّبيِّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- الذي نَهاهُ عَن هَذا المَالِ الحَرامِ، ومَعَ ذلكَ يَرجو أن يَكونَ الرَّجلَ الذي يَنجو بِسلامٍ، فإن هَلَكَ هَلكَ عَاصياً مُرتَكباً للآثامِ، وإن نَجا نَجا بِمالٍ حرامٍ وأَيُّ خَيرٍ في الحِرامِ.
وَكَذلكَ كَثيرٌ منَ النَّاسِ لا يَعتَبرُ بِهَلاكِ مَن هَلَكَ، ولا بِسقوطِ مِن سَقطَ، ولا بِفَضيحةِ مَن فُضِحَ، ولا بِخَيبةِ مَن خَابَ، فَيَرى عَاقِبةَ الفَاسدينَ، الذينَ خَاضوا في المَالِ الحَرامِ سِنينَ، ويَرى نِهايةَ أَصحابِ المخدراتِ، الذينَ أفسَدوا الشَّبابَ والمُجتَمعاتِ، ويَرى الظَّالمَ مِن أصحابِ المَناصبِ، بَعدَ العِزِّ يُصبحُ المنبوذَ الخَائبَ، ولا يَزالُ المُجرِمُ يُمنِّي نَفسَهُ ويرجو، وَيقُولُ: لَعلِّي أَنا الذي أنجو، كَانَ ابنُ الزَّيَاتِ أَحدَ الوُزراءِ الظَّالمينَ، وكَانَ شَديدُ القَسوةِ، لا يَرِقُّ لأَحدٍ ولا يَرحَمُ، وَكَانَ قد اتَّخذَ تَنوراً مِن حَديدٍ، لَهُ مَساميرُ إلى الدَّاخلِ، وكَانَ يُعَذِّبُ فِيهِ النَّاسَ، فإذا انقَلبَ الوَاحدُ مِنهم أو تَحَركَ من حَرارةِ التَّنورِ تَدخلُ المساميرُ في جِسمِهِ، فيَجدونَ أَشدَّ الألمِ، وكَانَ إذا استَرحَمَه أَحَدُهم، يَقولُ: الرَّحمةُ خَوَرٌ في الطَّبيعةِ، يَعني: ضَعْفٌ في النَّفسِ، ولَم يَعتَبرْ بِهَلاكِ الظَّالمينَ مِن حَولِهِ، فَلمَا غَضبِ عَليهِ الخَليفةُ المُتَوكلُّ اعتَقَلهُ وسَجَنَهُ، ثُمَّ أَمرَ بإدخالِهِ في نَفسِ التَّنورِ، فَقَالَ: يَا أَميرُ المؤمنينَ ارحمني، فَقَالَ لَهُ الخَليفةُ: الرَّحمةُ خَورٌ في الطَّبيعةِ، كَمَا كَانَ يَقولُ للنَّاسِ، فَسُبحانَ اللهِ، كَمْ بَكَتْ في تَنَعُّمِ الظَّالمِ عَينُ أَرمَلةٍ، وَاحتَرَقَتْ كَبدُ يَتَيمٍ، وجَرَتْ دَمعةُ مِسكينٍ، والله -تَعَالى- يَقولُ: (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً).
وكَذَلكَ هُناكَ مَن يرىَ سَيءَ الأخلاقِ، وكَيفَ قَد هَجَرَهُ الأحبابُ والرِّفاقُ، ويَرى كَيفَ أنَّ المُخادِعينَ المَاكِرينَ، أصبحَ مَآلُهم إلى أَسفلِ سَافلينَ، ويرى المُتفاخِرينَ المُتَكبِّرينَ، قَد صَاروا إلى الصَّغَارِ المَهينِ، ولا يَزالُ المُعرِضُ يُمنِّي نَفسَهُ ويرجو، وَيقُولُ: لَعلِّي أَنا الذي أنجو، يَقولُ عَمرو بنُ شَيبةَ: كُنتُ بِمكَّةَ بَينَ الصَّفَا والمَروةِ، فَرأيتُ رَجلاً رَاكباَ بَغلةً، وبَينَ يَديهِ غِلمانٌ يُعَنِّفونَ النَّاسَ، قَالَ: ثُمَّ عُدتُ بَعدَ حِينٍ، فَدَخلتُ بَغدادَ، فَكُنتُ عَلى الجِسرِ، فَإذا أَنا بِرَجلٍ جَافٍ حَاسرٍ طَويلِ الشَّعرِ، قَالَ: فَجَعلتُ أَنظرُ إليهِ وأَتَأمَّلُهُ، فَقَالَ لي: مَالَكَ تَنظرُ إليَّ؟، فَقُلتُ لَهُ: شَبَّهتُكَ بِرَجلٍ رَأيتُهُ بِمَكَّةَ، وَوَصفتُ لَهُ الصِّفةَ، فَقَالَ لَهُ: أَنا ذَلكَ الرَّجلُ، فَقُلتُ: مَا فَعلَ اللهُ بِكَ؟، فَقَالَ: إنِّي تَرَفَّعتُ في مَوضعٍ يَتَواضَعُ فِيهِ النَّاسُ، فَوضَعَني اللهُ حَيثُ يَتَرفَّعُ النَّاسُ.
أَقولُ قَولي هَذا، وَأَستغفرُ اللهَ العَظيمَ لي ولَكم ولِسَائرِ المسلمينَ، فَاستغفروه؛ إنَّهُ هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ القَويِّ العَزيزِ، الفَعالِ لما يُريدُ، أَحمَدُهُ رَبَّ العَالمينَ، وأَشكُرُه أَرحمَ الرَّاحمينَ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُه ورَسولُه، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى مَنْ سَارَ عَلى نَهجِهِ وَسَلَّمَ تَسليمًا كَثيرًا، أما بَعدُ:
والأعجَبُ مِن ذلكَ أنَّ هَذهِ الصِّفَةَ في العَبدِ تُلازِمُهُ حَتى يَومَ القِيامةِ، فَيَظُنُّ أنَّهُ الذي سَيَنجو باستِخدَامِ الطُرُقِ التي كَانَ يَنجو بِها في الدُّنيا، فَيَكذِبُ ويَحلِفُ للهِ -تَعالى- الذي يَعلمُ ما في الصُّدورِ؛ (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، فَيُشهِدُ عَليهم جُلودَهم وجَوارحَهم: (حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)، فلا نَجاةَ هُناكَ إلا بالإيمانِ والعَملِ الصَّالحِ.
وأما أهلُ الإيمانِ فإنَّهم لا يَزالونَ في اتِّهامٍ لأنفُسِهم، يَستَشعِرونَ التَّقصيرَ في أَعمالِهم، ولا يَرجُونَ السَّلامةَ إلا أَن تُدرِكَهم رَحمةُ رَبِّهم، واسمعوا للصَّحابةِ وهم أَحسنُ النَّاسِ عَملاً عِندمَا سَمعوا حَديثَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَمَ-، أنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَومَ القِيامةِ يَقولُ لآدمَ عَليهِ السَّلامُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟، قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ، فَماذا قَالَ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عَنهم-؟، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟.
اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبَنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ.
اللهمَّ إنَّا نَسألُك إيِمانا صَادِقا، وعَمَلا صَالِحَا مُتقَبَّلا.
اللهمَّ ثَبِّتنا بِالقولِ الثَّابتِ في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ، واغفر لنا ولِوالدِينا ولجميعِ المسلمينَ.
اللهم آمنَّا في أوطانِنا وأصلحْ أئمتَنا وولاةَ أُمورِنا، واحقن دِماءَ المُسلمينَ، وألف بينَ قلوبِهم واهدهم سُبلَ السَّلامِ.
ثمَّ صلُّوا وسلُّموا على الرَّحمةِ المُهداةِ فقد أَمَرَكُم ربُّكم، فقالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهمَ صَلِّ وَسَلِّم وبَارك على محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأَتباعِهِ بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ الدين، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
التعليقات