عناصر الخطبة
1/أعظم مطلوب وأكرم غاية 2/أخطر ساعة يمر بها الإنسان 3/أحوال الاحتضار ونزول الموت 4/من مشاهد الاحتضار 5/كيف يحصل العبد حُسْن الخاتمة؟

اقتباس

ساعةُ الرحيلِ، يُفِيْقُ فيها المُحتَضَرُ إفاقةً مُفزِعة، كما يُفِيْقُ النائمُ من سباتٍ عميق. يُفِيْقُ المُحْتَضَرُ، فيرى الأمرَ حقاً لا ريبَ فيه. يرى أَولَ عالَمِ الآخرةِ، ويُبصِرُ أولَ مشاهدِ الحسابِ. يرى الملائكةَ ويرى بوادِرِ النعيمِ أو العذاب. يرى الكروبَ، ويرى الأهوالَ الشدائدَ والصِّعاب. وما من عبدٍ إلا وستنزلُ به تلك الساعةُ، وسيرى تلك الأحوالَ، وسيبصِرُ تلك المشاهد...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أيها المسلمون: أعظمُ مطلوبٍ وأكرمُ غاية، وأجلُّ مرغوبٍ وأشرفُ نهاية؛ أن ينالَ العبدُ رحمةَ اللهِ، ويُدرِكَ الفوزَ برضاه. يسيرُ في هذه الحياةِ رضياً، مهتدياً إلى رَبِهِ على صراطٍ مستقيم، صادقَ الإيمانِ سليمَ القلبِ، مُخلِصَ القصدِ صالحَ العمل. ثابتاً على الهدايةِ مستمسكاً بِعُرى الدين. مُعظماً لحرمات الله، لا يسْتَخِفُّ بها، ولا يجترئُ عليها، ولا يستهين. يرجو أنْ يُختَمَ له بالحسنى، وأن يصير إلى ربِه في خير مُنْقَلَب.

 

فوزٌ يتقاصَرُ دونَه كُلُّ فوزٍ، وغايةٌ تتضاءَلُ أمامها كُلُّ غاية. أنْ يَحِلَّ بالعبدِ وقتُ الرحيلِ. وتنزلَ به ساعةُ الأجَل، فَتَتَنَزَّلُ عليه الملائكةُ من رَبِّهِ، تطمئنُه وتُبَشِّرُهُ وتواليه، أن لا خوفَ عليكَ ولا حَزَن. لا خوفَ عليكَ فيما أمامَك، ولا حزَن عليك فيمن خَلْفَك.

 

راحِلٌ إلى خيرِ دارٍ، وصائرٌ إلى خيرِ جِوار، في قرارٍ يزول عنكَ فيه كُلُّ عناءِ، ويُطْوَى عنكَ فيه كُلُّ نَصَب: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ)[فصلت:30-32].

 

إنها ساعةُ الرحيلِ، ساعةٌ يُخْتَمُ للعبدِ فيها حياتَه من هذه الدينا، ويستقبلُ فيها حياتَه الآخرة. فَمَنْ سَاءَت خاتِمَتُه، خابَ وفي الشقاءِ تَرَدّى. ومَن طابت خاتِمَتُه فازَ وفي النعيم تَرَقَّى. ساعةُ الرحيلِ، هي أخطرُ ساعةٍ يَمُرُّ بها الإنسان، تَظهَرُ له فيها الحقائقُ، وتتكشَّفُ له فيها المُغَيَّبَات، فما عادَ عِلمُ الغيبِ في شأن الآخرةِ لدى المُحْتَضَرِ إلا مُشَاهَدًا، ولا عَادَ وَعْدُ اللهِ له إلا حاضراً (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق:19].

 

جاء الموتُ الذي كُنتَ تخشى وتحذرُ *** فأبصرتَ حقاً ما بِهِ الذِكْرُ يُخْبِرُ.

 

ساعةُ الرحيلِ، يُفِيْقُ فيها المُحتَضَرُ إفاقةً مُفزِعة، كما يُفِيْقُ النائمُ من سباتٍ عميق. يُفِيْقُ المُحْتَضَرُ، فيرى الأمرَ حقاً لا ريبَ فيه. يرى أَولَ عالَمِ الآخرةِ، ويُبصِرُ أولَ مشاهدِ الحسابِ. يرى الملائكةَ ويرى بوادِرِ النعيمِ أو العذاب. يرى الكروبَ، ويرى الأهوالَ الشدائدَ والصِّعاب. وما من عبدٍ إلا وستنزلُ به تلك الساعةُ، وسيرى تلك الأحوالَ، وسيبصِرُ تلك المشاهد.

 

 (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)[آل عمران:185]، وعلى قدرِ إيمانِ العبدِ يَقْوى أمَانُه. ومَن عاشَ في التفريطِ دامَ فيه المَفْزَعُ (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[ق:22]، كُنتَ في غفلةٍ عن تلك الساعةِ الخطيرةِ القادِمَة، ففاجأكَ الموتُ بحقائقه المُفْجِعةِ الحاسِمة، فأنت من شدةِ الهولِ نافذَ البصرِ حديد، أحرَقَت ساعةُ الاحتضارِ منك كُلَّ الأوهامِ، وتبددت فيكَ كُلَّ الظنون.

 

قال ابنُ الجوزيُ: "من أظرفِ الأشياء إفاقةُ المُحتَضَرِ عند موته، فإنه يَنْتَبِهُ انْتِبَاهاً لا يُوْصَف، وَيَقْلَقُ قَلَقاً لا يُحَدّ، وَيَتَلَهَّفُ على زمانه الماضي. ويَودُّ لو تُرِكَ كي يَتَدَارَكَ ما فاته ويَصْدُقَ في تَوبَتِه على مقدار يقينِهِ بالموت.."، ثم قال -رحمه الله-: "فالعاقلُ مَنْ مَثَّلَ تِلْكَ الساعةِ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَى ذَلِك".

 

عباد الله: ساعةُ الرحيلِ مَطْلَعُها خطير، يفترِقُ العبادُ عندَها إلى فريقين؛ فريقُ في أمانٍ دائمٍ ونعيمٍ مقيم. وفريقُ في خوفٍ مُلازمٍ وعذابٍ أليم. قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ"(رواه البخاري ومسلم).

 

ساعةُ الرحيلِ أثقَلَتْ كواهِلَ العارفينَ فَهُمْ مِنْهَا عَلى وَجَل، يَخْشَوْنَ سوءَ المُنقلَبِ، ويرجون الخاتمةَ الحُسْنى، لما حضَرَت معاذَ بنَ جبلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- الوفاةُ قال: "أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحباً بالموت مرحباً، زائرٌ مُغِبٌّ، حَبِيْبٌ جَاءَ عَلى فَاقَةٍ، اللهم إني قد كنتُ أخافُك فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أَكُنْ أُحِبُّ الدنيا وطُولَ البقاءِ فيها لجري الأنهار، ولا لغرسِ الأشجارِ، ولكن لظمأ الهواجرِ -أي صيامِ الأيامِ شديدةِ الحر-/ ومكابدةِ الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذِّكْر".

 

ولما حضَرَت الشافعيَ -رحمه اللهُ- الوفاةُ قيل له: كيف أصبحت؟ فرفع رأسه وقال: "أصبحتُ من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، وما أدري، روحي تصيرُ إلى جنة فأهنيها، أو إلى نار فأعزيها"، ثم بكى وأنشد:

ولما قَسا قَلْبِيْ وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي *** جَعَلْتُ رَجَائي دُوْنَ عَفْوِكَ سُلَّما

تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ *** بعفوكَ رَبِّي كانَ عَفْوُكَ أَعْظَما

فما زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَن الذَّنْبِ لم تَزَلْ *** تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وتَكَرُّما

 

(كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)[القيامة:26-30].

 

بارك الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسولُه النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه أجمعين، وسلم تسليماً.

 

أما بعد: فاتقوا الله لعلكم ترحمون.

 

أيها المسلمون: يعيشُ المرءُ سنينَ عُمُرِهِ، يُؤمِلُ آمالاً، ويقترفُ أعمالاً، يخوضُ في غفلةٍ مع الغافلين. ويُفِيقُ في صحوةٍ مع المُخْبِتِين. يَتَلَطَّخُ بالآثامِ تارةً، وتتطهرُ بالتوبةِ تارةً. تتنازَعُهُ نَفْسَانِ؛ نفسٌ أمارةٌ بالسوء تدعو للشَّطط، ونفسٌ لوامةٌ تدعو لِدربِ صوابِ.

 

وعند وقوعِ الخطرِ وحلولِ ساعةِ الرحيل، يَنْكَسِرُ كِبرُ الإنسانِ، ويَسْتَسْلِمُ لمولاه، ويعتَرِضُ أمامَهُ شريطُ حياتِه الطويل. يَتَذَكَّرُ ما اقترفتهُ يداهُ، يتذكرُ جرأةً لهُ على الحرامِ، وجسارةً منه على الآثام. يتذكرُ أمْراً لله أضاعَه، وشيطاناً اتَّبَعَهُ وهوىً أطاعَه. يتذكرُ حقاً اغتصَبَه، ومالاً انتَهَبَه، وعِرْضاً انتَهَكَه، يتذكر مَظْلَمَةً تَحَمَلَها. وكبيرةً وَلَغَ فيها. يتذكرُ ويتذكر، (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[الفجر:23-24]، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)[النساء:42].

 

عباد الله: وإن ساعة الاحتضارِ لأطيبَ ساعةٍ لِمَن وافته المنيةُ على تقوى وحُسنِ عَمَل. يطيبُ له الختام، ويَحْسُنُ له المُنقَلَب، يرى من اللهِ الكرامةِ، فَيُحِبُّ لقاءَ اللهِ فَيُحِبُّ اللهُ لقاءَه.

 

ومَن أحَبَّ أنْ يُحْسَنَ لهُ الخِتام، فَلْيُخْلِصْ في عبادَةِ رَبِه، وليتبع هدي الرسولِ. وليَسْتَمْسِك بنورِ الكتابِ. ولزمَ طريقَ التوبة، وليقرع باب الندم (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الأنفال:33].

 

مَن أحَبَّ أنْ يُحْسَنَ لهُ الخِتام، فليحذَرْ دُرُوبَ الشُّبهات، وليبتعد عن مواقع الشهوات، وليجتَنِب غشيانَ الكبائرِ والموبقات (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)[النساء:31].

 

من أحبَّ أنْ يحسنَ له الختام، فلْيُكثِرْ من عمل الصالحات، ولْيسألِ الله الثبات، ولْيحسنِ الظن بربِّه، فإنه الكريم -سبحانه- قد أجرى عادته بكرمه، أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعِثَ عليه، فعياذاً بالله من سوء الختام.

 

 

ربنا توفّنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

المرفقات
NSgtgiiGgC1lETUQgLTohRs1EDZ2OTvwF8FUPx2Z.doc
fVfhzqDBvtZvBwuIBg3Oqtg1uWDnwiNT090ysdA3.pdf
التعليقات
زائر
23-09-2021

الخطبة في المرفقات ليست الخطبة اللتي في نفس الصفحة 

شكرا .. تم التعديل

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life