عناصر الخطبة
1/ منزلة كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وفضلها وشروطها ومقتضياتها ومعناها 2/ مفهوم الولاء والبراء ودوره في تحقيق معنى لا إله إلا الله 3/ الأنبياء الكرام والصحابة وتطبيق عقيدة الولاء والبراء 4/ بعدنا عن تطبيق عقيدة الولاء والبراء 5/ حاجتنا الماسَّة لتطبيق عقيدة الولاء والبراءاهداف الخطبة
اقتباس
وما أكثر المنافقين في زماننا هذا! يقولون: لا إله إلا الله، وهي منهم بريئة، قالوها بأفواههم وتأباها قلوبهم، (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)؛ فمن لوازم لا إله إلا الله وشروطها -بالاضافة الى الإخلاص بها- الولاء والبراء لله. وهذه القضية مهمة وريئسية في تحقيق معنى هذه الكلمة ..
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العظيم وطاعته.
وبعد: يقول الحق -سبحانه وتعالى- في محكم كتابه: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات:35].
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- ليس بيني وبينه إِلا مؤخرة الرّحْلِ، فقال: "يا معاذ بن جبل" قلت: لبيك رسول اللّهِ وَسَعْدَيْكَ.
ثُمّ سَارَ سَاعَةً، ثُمّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ"، قُلْتُ: لَبّيْكَ رَسُولَ اللّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمّ سَارَ سَاعَةً، ثُمّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ"، قُلْتُ: لَبّيْكَ رَسُولَ اللّهِ وَسَعْدَيْكَ.
قَالَ: "هل تَدْرِي مَا حَقّ الله عَلَى الْعِبَادِ؟" قَالَ: قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فإِنّ حَقّ الله عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا".
ثُمّ سَارَ سَاعَةً، ثُمّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ"، قُلْتُ: لَبّيْكَ رَسولَ اللّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: "هَلْ تَدْرِي مَا حَقّ الْعِبَادِ عَلَى الله إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟" قَالَ: قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَنْ لاَ يُعَذّبَهُمْ".
عباد الله: فهذا الحديث أصل من أصول التوحيد؛ لأنه يحتوي على كلمة التوحيد التي أتى بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي التي تخرج العبد من دائرة الكفر الى الايمان اذا أتى بها؛ واذا نكص ونكل عنها أخرجته من دائرة الايمان الى الكفر.
فينبغي على كل مسلم أن يقف عند هذا الحديث متدبرا ومتأملا؛ لما يحويه من مسائل عظيمة، وفوائد نفيسة، كيف لا وهو يبحث في مهمة الانسان في هذه الحياة، ويقرر أصلا في غاية الأهمية والخطورة؟ إذ إن خدش هذا الاصل قد يغير مسار الفرد في الدنيا والآخرة.
وكذلك الإخلاص فيه يؤدي بالعبد للنجاة من النار، وكما قال -صلى الهغ عليه وسلم-: "مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".
وسمع رسول الله رجلا في جوف الليل يقول: لا إله إلا الله! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "نجوتَ من النار ورب الكعبة".
لا إله إلا الله جاءت الرسل من أجلها، لا إله إلا الله دمرت الارض بسبب الكفر بها، لا إله إلا الله أقيمت الجنة والنار واقيم سوقهما لها، لا إله إلا الله من أجلها وجدت لنا الحياة على هذه الارض، وخلق الله الخلق، وقاتل رسول الله لأجلها.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى" رواه البخاري ومسلم.
فهي أعظم كلمة اتى بها -صلى الله عليه وسلم-، وليس في الدنيا اعظم منها، فعن موسى -عليه السلام- في ما يرويه عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: يا رب، أسالك كلمة أدعوك وأناجيك بها. فقال الله له: يا موسى، قل: لا إله إلا الله.
فقال موسى: يا رب، كل عبادك يقولونَ لا إله إلا الله! فهو يريد كلمة جديدة ما سمع الناس بمثلها، فقال الله له: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والارضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله.
فقدم الصحابة أرواحهم على أكفهم رخيصة من أجل لا إله إلا الله، وقطعت رؤوسهم من أجل لا إله إلا الله، ومزقت لحومهم من أجل لا إله إلا الله.
نعم عباد الله، مَن أتى بهايوم القيامة سعِد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، ومَن تجرد منها شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا، وأنزل الله على رسولنا كلمة التوحيد، وقرنها بالاستغفار من الذنب.
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله-: يقرن -سبحانه وتعالى- بين التوحيد الذي هو تنزيهٌ عن الأضداد والأنداد، وبين الاستغفار من الذنوب، فيقول: (فَاعْلَمْ أنَّهُ لا إله إلا اللهَ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد:19].
وفي دعاء ذي النون: (لا إله إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87]، اعترافٌ بالوحدانية، ثم اعتراف بالذنب، انقطعت الحبال بالمخلوقين فلم يبق الا حبل الله.اهـ.
وهذه الكلمة -عباد الله- تستخدم في وقت الأزَمات، فقالها -صلى الله عليه وسلم- وهو في الغار، قال لصاحبه: "لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!".
وقالها فرعون وهو في لجة البحر فلم تنفعه فقال: (ءامَنْتُ أَنَّهُ لا إله إلا الَّذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90].
ووصى بها نوح بنيه عند الوفاة فقال لهم: يا بني، قولوا: لا إله إلا الله؛ فانها لو كانت في حلقة من حديد لفصمتها. والمعنى: أنها تنقذ صاحبها من النار ومن المصائب والمصاعب والهموم والغموم، وتشفى بها الابدان من الأوجاع والاسقام.
وروى البخارى عن أبى هريرة أنه قال، قلت: يا رسول الله، مَن أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: "لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة مَن قال لا إله إلا اللهُ خالِصَاً مِن قبل نفسه".
نعم يا عبد الله؛ إذاً، حتى يشفع لك رسول اللـه -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة يجب توفر شرطٍ هام جداً، هذا الشرط أن تحقق التوحيد بأن تقول كلمة التوحيد خالصة من قلبك.
عباد الله: فمن الناس الآن من يردد هذه الكلمة بلسانه ولا يدرى ما يقول، ومن الناس مَن لم يخلص العبادة لله -جل وعلا-؛ بل راح يصرف العبادة لغير اللـه، فهو لا يعرف لكلمة التوحيد معنى، ولا يقف لها على مضمون، ولا يعرف لها مقتضى.
ومن الناس من يردد بلسانه لا إله إلا اللـه وقد انطلق حراً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج الأرضية والقوانين الوضعية الفاجرة ما يوافق هواه، ومِن الناس من ينطق بالكلمة ولا يتبع منهج الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-!.
ومن الناس من يردد كلمة لا إله إلا اللـه وهولم يحقق الولاء والبراء!.
ومن الناس من يردد بلسانه كلمة لا إله إلا اللـه وقد ترك الصلاة، وضيع الزكاة، وضيع الحج مع قدرته واستطاعته، وأكل الربا، وشرب الخمر، وأكل أموال اليتامى، يسمع الأمر فيهز كتفه فى سخرية وكأن الأمر لا يعنيه، يسمع المواعظ فيهزأ وكأن الأمر لا يعنيه!.
فلابد من إخلاص التوحيد، كلمة التوحيد ليست مجرد كلمة يرددها الإنسان بلسانه وفقط، بل إن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.
عباد الله: فالأمة قبل لا إله إلا الله كانت أضعف وأذل وأبعد أمة عن الله، أمة قتل وخيانة ورباً وزِنَىً والحاد وشرك، فعندما اراد الله لها العزة والرفعة أنزل لا إله إلا الله.
فتاريخنا يبدا من رسول الله، أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما وقف على الصفا قال للجموع مخاطبا؛ يرجو لهم الخير والفلاح: "كلمة واحد تقولونها تملكون بها عز العرب والعجم".
فأجابه أبو لهب عمه قائلا: ألف كلمة وأبيك! يعني أنهم يقولون ألف كلمة، فلِم لا وهو الصادق الأمين؟.
فقال لهم: "قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا"، فأجابه أبو لهب: أَلِهَذَا جمعْتَنَا؟! تَبَّاً لك سائر اليوم! فأنزل الله فيه سورة تتلى ماضية يوم الدين: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد:1].
لماذا -يا ترى- لم يرضوا هذه الكلمة؟ مع أنهم وافقوا على ألف كلمة! لماذا إلا هذه؟! أتدرون -أحبتي- لماذا؟ إنهم أهل الفصاحة وأرباب البيان، وصناعتهم الكلمة، والبلاغة سجية عندهم، هذه الصفات جعلتهم يفهمون هذه الكلمة فهما عميقا ودقيقا.
ولعلي لست مبالغا إن قلت إنهم فهموها أكثر منا بكثير! نعم، نحن بها مؤمنون مستسلمون موحدون، نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكن، ربما غابت عنا معانٍ كثيرةٌ فقِه القوم كنهها في ذلك الموقف؛ فوقفوا بهذا العناد العجيب من الصادق الأمين المعروف عندهم الذي هو من أنفسهم.
لقد علموا أنهم سيخسرون كل امتيازات ظالمة وضعوا أيديهم عليها مع مر السنين، وأنه لا حكم إلا لله، وأنه لا صنمَ وحجَراً ولا قوانينَ ولا شرعةً ولا منهجاً إلا ما يأمر به الله.
فلذلك كان كل هذا العناد، وبكل هذه الشراسة، شأنهم شأن كل صاحب سلطة غاشمة لا يريد أن يرعوي إلى الحق والرشاد، فكانت منذ اللحظة الأولى حرباً ضروساً بين الحق والباطل، واخذت كلمة لا إله إلا الله تجلجل في الارض، فيؤمن بها من اراد الله هدايته، وكفر بها من اراد الله غوايته.
عباد الله: هل كلّ مَن قال لا إله إلا الله، كان من أهلها، ونفَعَته في الدنيا والآخرة؟ أم لا بد لها من شروط ولوازم؟.
نعم، ليس كل من قالها كان من أهلها؛ وذلك لأن المنافقين في كل زمان ومكان يقولون هذه الكلمة، ويشهدون أن محمدا رسول الله، ومع ذلك هم في الدرك الاسفل من النار، (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرَاً) [النساء:145].
وما أكثر المنافقين في زماننا هذا! يقولون: لا إله إلا الله، وهي منهم بريئة، قالوها بأفواههم وتأباها قلوبهم، (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران:167]، فمن لوازم لا إله إلا الله وشروطها -بالاضافة الى الإخلاص بها- الولاء والبراء لله. وهذه القضية مهمة وريئسية في تحقيق معنى هذه الكلمة.
وهذه القضية مهمة وريئسية في تحقيق معنى هذه الكلمة، فالولاء معناه الحب في الله، والنصرة، والاتباع في الله، والقرب منه، والولاء من المؤمن يكون لله وللرسول وللمؤمنين.
والبراء معناه البغض والكراهية في الله، والابتعاد والنفور في الله، فالمؤمن يكون بريئاً من كُلِّ مَن كَفَرَ بــ لا إله إلا الله، وهو عكس الولاء، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) [الممتحنة:1].
عباد الله: فهذا واجب للتبرؤ من الكفر وأهله، ومن المنافقين وأعمالهم وأقوالهم، ومِن كل أمر يخرج من دائرة الولاء والبراء لله لغير الله، فمِن الواجب الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكل من يوالي الله.
قال بعضهم: إن الانسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله، وترك الشرك الابعدواة مَن يُعادِي الله، والولاء لكلِّ مَن يُوالي الله.
فالولاء والبراء دليل على كمال الايمان، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله -عز وجل-".
الصحابة -رضوان الله عليهم- ضربوا لنا أروع الامثلة في ذلك، ومن قبلهم الانبياء -عليهم السلام-، فإبراهيم تبرأ من أبيه من أجل الله، ونوح تبرأ من ابنه من أجل الله.
فعبد الله بن عبد الله بن سلول تبرأ من أبيه من أجل مرضاة الله ورسوله، أبو عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر، ومصعب بن عمير قتل أخاه في سبيل الله.
قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22].
الصحابة خرجوا من ديارهم ولاء لله، تاركين أهليهم وأموالهم وديارهم، والصحابة في المدينة ناصروهم واستقبلوهم؛ ولاء وحبا لله ولرسوله والمؤمنين، فقاسموهم الاموال والأزواج والديار؛ حبا في الله.
قال تعالى: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:8-9].
عباد الله: اذاً، فأين نحن من ولاء وبراء صحابة رسول الله؟ نعم، تحققت الأخوة الإيمانية بينهم به، (إِنَّمَا الْمُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]، إنما اداة حصر، أي: إن هذه الإخوة لا تكون الا بين المؤمنين الصادقين.
فنحن بأمسّ الحاجة في كل زمان ومكان لهذا الولاء والبراء لله؛ حتى نكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، نتجرد من العصبية والقبلية والاقليمية، ونتوشح بوشاح واحد هو: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وشاحٌ داخله الولاء والبراء لله، لا للعلَم والقبيلة والإقليم، هذا هو علَمنا وشعارنا، كلمة التوحيد؛ لكي نكون صفا واحدا أمام عدونا، لا متفرقين ومتشرذمين، المؤمن أخو المؤمن مهما تنوع عرقه ومنبته ونسيجه وشكله، فتتوحد قلوبنا على الايمان، والحب في الله، والبغض فيه، مهما تنوع نسيجنا.
أقول قولي هذا وأستغفر لله.
الخطبة الثانية:
لقد أصبح ولاؤنا للدنيا والاقليم والعشيرة والحزب، فدخل إلينا عدونا من هذا الباب، ونجح في ذلك، فوجد قلوبا خاوية على عروشها، خالية من الايمان الحقيقي، والولاء والبراء لله.
لقد أصبحنا رحماء على الكفار أشداء على بعضنا، والاصل العكس! (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29].
وهو العهد الذي لم يعطه رب العزة لرسوله عندما سأله أن لا يجعل بأس هذه الأمة فيما بينها، فبأسنا بيننا شديد، لا يذهب هذا البأس الا بالبراء والولاء لله، فنحن لم نستجب لنداء الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24].
اعلم -أخا الإيمان، وفقني الله وإياك- أن الحياة الحقيقية هي حياة الأرواح، والتي تصفو بالاستجابة لله والرسول -صلى الله عليه وسلم-، فلا حياة لمن لم يستجب لله والرسول، وإن كان معدوداً من جملة الأحياء!.
فالمستجيبون لله والرسول هم الأحياء حقيقة وإن كانت أبدانهم مفقودة، فأمثالهم في القلوب موجودة، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء في أبدانهم وحركاتهم .
وقال الله تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38]، ورد في تفسير الطبري: وان تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد -صلى الله عليه وسلم-، فترتدّوا راجعين عنه يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم يصدّقون به، ويعملون بشرائعه.
(ثُمَّ لا َكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) يقول: ثم لا يبخلون بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يُؤمرون به.
عباد الله: فلنتقِ الله -عز وجل- في ديننا، ونوجه ابناءنا وأزواجنا وبيوتنا وتلاميذنا ومن نرعى للولاء والبراء لله، ونبذ العصبية المقيته.
جاء في البخاري أن رجلين من المهاجرين والأنصار تشاجرا، فَقَالَ الأَنْصَارِىُّ: يَا لَلأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِىُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ!.
فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "مَابَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّة؟" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَال: "دعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ".
فذكر النسب أو الوطن على سبيل الافتخار والتكبر على الآخر من دعاوى الجاهلية التي أبطلها الإسلام، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا لا فضل لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
التعليقات