عناصر الخطبة
1/سبب نزول قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً...) 2/مكانة التقوى وأهميتها 3/عناية القرآن بالتقوى وإشادته بأهلها 4/فضائل التقوى وثمراتهااقتباس
لَو نَظَرْنَا في كِتَابِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- نَظْرَةً وَاحِدَةً بِتَدَبُّرٍ لَرَأَيْنَا العَجَبَ العُجَابَ في عِنَايَةِ القُرآنِ العَظِيمِ بالتَّقْوَى, فَلَقَد عَلَّقَ عَلَيهَا رَبُّنَا -عزَّ وجلَّ- الخَيْرَ الكَثِيرَ, والثَّوَابَ الجَزِيلَ, وسَعَادَةَ الدُّنيَا والآخِرَةِ, من ذلكَ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ -عزَّ وجلَّ-, وهوَ أَصْدَقُ القَائِلِينَ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2 - 3].
هذهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ نَزَلَتْ في عَوْفِ بنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ: "أَسَرَ المُشْرِكُونَ ابْنَاً لَهُ يُسَمَّى سَالِمَاً، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ- وَشَكَا إِلَيهِ الفَاقَةَ، وَقَالَ: "إِنَّ العَدُوَّ أَسَرَ ابْنِي وَجَزِعَتِ الأُمُّ، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: "اِتَّقِ اللهِ واصْبِرْ, وَآمُرُكَ وَإِيَّاهَا أَنْ تَسْتَكْثِرَا من قَوْلِ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ" فَعَادَ إلى بَيْتِهِ وَقَالَ لامْرَأَتِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ- أَمَرَنِي وَإِيَّاكِ أَنْ نَسْتَكْثِرَ مِن قَوْلِ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ. فَقَالَتْ: نِعْمَ مَا أَمَرَنَا بِهِ. فَجَعَلا يَقُولانِ، فَغَفَلَ العَدُوُّ عن ابْنِهِ، فَسَاقَ غَنَمَهُم وَجَاءَ بِهَا إلى أَبِيهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ آلافِ شَاةٍ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2 - 3].
فَيَا مَن فَقَدَ وَلَداً, وَمَن فَقَدَ مَالاً, وَفَقَدَ صِحَّةً وَعَافِيَةً, وَفَقَدَ عَزِيزاً, وَوَقَعَ فِي كَرْبٍ: اِتَّقِ اللهَ واصبِرْ, وَأَكثِر مِن قَولِ: "لَا حَولَ ولَا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ".
وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ- تِلكَ الأَغْنَامَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ-: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آيَةً لَو أَخَذَ بِهَا النَّاسُ لَكَفَتْهُم، ثمَّ تَلا: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2 - 3](رواه الوَاحِدِي فِي أسبَابِ النُزُولِ).
يَا عِبَادَ اللهِ: حَقَّاً إِنَّ تَقْوَى اللهِ -تعالى- هيَ وَصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلِينَ والآخِرِينَ, قَالَ تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ)[النساء: 131].
وهيَ وَصِيَّةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ-، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ رَجُلاً جَاءَهُ فَقَالَ: أَوْصِنِي؟ فَقَالَ: سَأَلْتَ عَمَّا سَأَلْتُ عَنْهُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ- مِنْ قَبْلِكَ: "أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ, فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ".
ويَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "لَيسَ التَّقْوَى صِيَامَ النَّهَارِ، وَقِيَامَ اللَّيْلِ، والتَّخْلِيطَ فِيمَا بَيْنَ ذلكَ, وَلَكِنَّ التَّقْوَى تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللهُ, وَأَدَاءُ ما افْتَرَضَ اللهُ، فَمَا رُزِقَ بَعدَ ذلكَ فَهُوَ خَيْرٌ على خَيْرٍ".
يَا عِبَادَ اللهِ: لَو نَظَرْنَا في كِتَابِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- نَظْرَةً وَاحِدَةً بِتَدَبُّرٍ لَرَأَيْنَا العَجَبَ العُجَابَ في عِنَايَةِ القُرآنِ العَظِيمِ بالتَّقْوَى, فَلَقَد عَلَّقَ عَلَيهَا رَبُّنَا -عزَّ وجلَّ- الخَيْرَ الكَثِيرَ, والثَّوَابَ الجَزِيلَ, وسَعَادَةَ الدُّنيَا والآخِرَةِ, من ذلكَ:
أولاً: قَوْلُ اللهِ -تعالى-: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ)[النحل: 30 - 31].
فالمُتَّقُونَ لا يَرَوْنَ لا الخَيْرَ, ولا يَعْرِفُونَ اليَأْسَ ولا القُنُوطَ, قَالَ تَعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النــور: 11].
ثانياً: قَوْلُ اللهِ -تعالى-: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[يونس: 63 - 64].
فالمُتَّقونَ هُمْ أَولِيَاءُ اللهِ -تعالى-, هُم الذِينَ لا يَخَافُونَ مِمَّا هُوَ آتٍ, ولَا يَحزَنُونَ عَمَّا فَاتَ.
ثالثاً: قَوْلُ اللهِ -تعالى-: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران: 120].
فالمُتَّقُونَ لا يَضُرُّهُم كَيْدُ الكَائِدِينَ, ولا إِجْرَامُ المُجْرِمِينَ, فَهُم فِي حِفظِ اللهِ ورِعَايَتِهِ, واللهُ -تَعَالى- تَوَلَّى الِدفَاعَ عَنهُم, قَالَ تَعَالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)[الحـج: 38].
رابعاً: قَوْلُ اللهِ -تعالى-: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الزمر: 61].
فالمُتَّقُونَ لا يَحْصُل لَهُم مَا يَسُوؤُهُم, ولا يَحْزَنُونَ على مَا خَلَّفُوا من الدُّنيَا, فَقَد عَوَّضَهُمُ اللهُ -تعالى- خَيْرَاً مِنهُ.
خامساً: قَوْلُ اللهِ -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[القمر: 54 - 55].
فالمُتَّقُونَ في جَنَّاتٍ يَومَ القِيَامَةِ, عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ, ونُفُوسُهُم مُطْمَئِنَّةٌ, بِحَيثُ يَسْمَعُونَ الخِطَابَ يَومَ القِيَامَةِ: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[الفجر: 27 - 30].
يَا عِبَادَ اللهِ: أُوصِيكُم وإِيَّايَ بِتَقْوىَ اللهِ -عزَّ وجلَّ-, فَإِنَّهَا خَيْرُ الزَّادِ, وبِهَا تَنْكَشِفُ الكُرَبُ, وتَتَحَقَّقُ الآمَالُ, قَالَ اللهُ -تعالى-: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90] تَذَكَّرُوا سَيِّدَنَا يُوسُفَ -عَليهِ السَّلام- فَإنَّهُ بِبَرَكَةِ التَّقوَى والصَّبرِ فُرِّجَ عَنهُ.
فالتَّقْوَى سَبِيلُ العِزِّ والتَّمْكِينِ, وهيَ رَصِيدُ الأُمَّةِ ورَصِيدُ الفَرْدِ, إذا أَرَادُوا الخُرُوجَ من المَآزِقِ من الضِّيقِ والكُرَبِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَتَّقِ اللهَ بِجَوَارِحِنَا, لِنَتَّقِ اللهَ بِأَمْوَالِنَا, لِنَتَّقِ اللهَ في مُعَامَلاتِنَا, لِنَتَّقِ اللهَ في وَطَنِنَا, لِنَتَّقِ اللهَ في أَعْرَاضِنَا, لِنَتَّقِ اللهَ ظَاهِرَاً وبَاطِنَاً, ولْنَقُلْ قَوْلاً سَدِيدَاً, عَسَى اللهُ أَنْ يُصْلِحَ لَنَا أَحْوَالَنَا، اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بذلكَ، آمين.
أقُولُ هَذا القَولَ, وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم, فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
التعليقات