اقتباس
ويخطئ الخطيب ويفشل، إذا حشا خطبته بعدة موضوعات، فإنها-كلها-تكون سطحية باهتة في أذهان السامعين، ومن السهل أن تزول كلها بعد زمن قليل، أو بعد فراغ الخطيب من خطبته...
نعني بالموضوع-جرياً على مذهب الأغلبية-ما يشمل الفكرة التي يدعو إليها الخطيب والتدليل عليها، ودفع ما عسى أن تقابل به من نقد واعتراضات، وهذا الجزء من أهم أجزاء الخطبة، أو هو عمودها الفقري وكيانها، فالأجزاء الأخرى يمكن الاستغناء عنها، أما هذا الجزء فهو الأساس وبقية الأجزاء جيء بها من أجله، ومهمتها هي إنجاحه وتثبيت آثاره.
حين يصل الخطيب إلى هذا الجزء-وذلك بعد فراغه من المقدمة-يلخِّص موضوعه: بإعطاء فكرة موجزة عنه، أو شرحه-إن كان يحتاج إلى شرح-ثم يأخذ في عرض الأدلة التي يراها مؤيدة له.
وحتى يكتب الخطيب موضوع خطبته بإتقان، بحيث يكون مقنعاً وسالماً من عوارض الانتفاع لابد له من مراعاة عدة أمور منها:
أولا: وحدة الموضوع:
بحيث تتركز الخطبة في أمر واحد يدور الكلام-كله-حوله وتتجمع الأدلة لتأييده وتقويته، وقد تكون الأدلة قياساً منطقياً أو احتجاجاً بحادث تاريخي، أو عمل لشخص ذي شهرة ولكنها كلها – على أية حال – تنتهي إلى غرض واحد، وتصب كلها في بؤرة واحدة، وعمل الخطيب حينئذ هو: تعميق الفكرة وتثبيتها؛ لأن هذا يثير انفعال السامعين، ويدفعهم إلى العمل بما يدعو إليه الخطيب.
ويخطئ الخطيب ويفشل، إذا حشا خطبته بعدة موضوعات، فإنها-كلها-تكون سطحية باهتة في أذهان السامعين، ومن السهل أن تزول كلها بعد زمن قليل، أو بعد فراغ الخطيب من خطبته.
قد يدعو خطيب المسجد في خطبته إلى قيام الليل، وقراءة القرآن، وصلاة النوافل، وبذل الصدقة، ويستريح السامعون؛ لأنهم يسمعون دائماً جديداً ولكنهم-قطعاً-لا ينفعلون مما سمعوا انفعالاً كافياً، وكان الأولى أن يقتصر في خطبته على أمر واحد يكثر سوق الأدلة عليه والاستشهاد بها في خطبته، فكل ذلك يثبت الفكرة في نفوس السامعين. فقد روي عن الحسن البصري -رحمه الله-أنه دعا الناس يوماً للتصدق في سبيل الله، فقبل أن يشرع في الكلام دعا بعبد له فأعتقه على رؤوس الأشهاد في جامع البصرة، فكان لكلامه-بعد ذلك-وقْعاً وأثراً بالغا في نفوس السامعين فتبادر الناس بالصدقة والبذل.
ثانيا: ترتيب الكلام:
وترتيب الأفكار يبدأ –أولاً-بالفكرة البسيطة، ثم يتدرج حتى يصل إلى قمة ما يريده، وفي القمة يبدو انفعاله وقوة صوته وقوة عباراته جميعاً، وعلى سبيل المثال: أراد خطيب مسجد أن يدعو المصلين إلى التبرع؛ لمساعدة مخيم خيري، يوجد به أيتام وفقراء، فكيف يوجه خطبته ويعرض موضوعه؟
أ-قد يأتي بمقدمة تبين أن الإسلام دين التعاون وأن المسلمين أمة واحدة يجمعهم شعور الإخاء، ويؤذيهم أن يكون بينهم جائعٌ أو عارٍ أو محتاجٌ، وأن الدين يأمرهم بتحاشي وجود شيء من ذلك بينهم، وذلك بعرض الأدلة والبراهين من الكتاب والسنّة على ما يدعو الناس إليه، ويريد إقناعهم به.
ب-ينتقل بعد هذا إلى التعريف بحال الذي يدعو لمساعدته ويصف ما يقدمه للأيتام والفقراء الذين به (وهذا هو العرض)، وهنا يكون التركيز على سرد الوقائع وصحيفة الأحوال التي تعضد كلامه، وتدعو الناس للاقتناع برسالته. يعنيه في هذه أمور كثيرة تتوقف على مهارته وثقافته وعمق تفكيره. إن هؤلاء المساكين قد ينُشىء المخيم منهم نفوساً صالحة وأشخاصاً نافعين لمجتمعهم، وإذا لم يعنيهم المخيم؛ كانوا جراثيم فساد وضرراً على الناس.
من هؤلاء من أخنى عليهم الدهر، وكانوا-قبل ذلك-أبناء تجار أثرياء، أو زراع موسرين، أو عباد صالحين. إن أيَّ واحد من السامعين-مهما كان ثرياً أو صحيحاً-لا يأمن أن يصير أولاده إلى هذا المصير، وقد يلح على ذويه المرض والفقر، أو يطرأ عليهم سوء السلوك المدمِّر، فكما يود أن يجد من يعين أولاده؛ عليه أن يساعد هؤلاء.
ت-ينتقل من هذا إلى دعوتهم للتبرع (وهذا هو النتيجة)، وهنا يكون الكلام واضحاً وصريحاً ومباشراً، تصريحاً لا تلميحاً، وعزماً لا تعليقاً. هذه النقطة الأخيرة هي قمة الخطبة والتي ينبغي أن يتخير لها العبارات المثيرة، وفيها يعلو صوته ويبدو انفعاله وأسفه وتحزُّنِه، وهو-بهذا-قد سار في خطبته سيراً مرتباً؛ انتقل فيه من عنصر إلى آخر انتقالاً طبيعياً.
ثالثا: عرض الأدلة:
إذا انتقل الخطيب من الفكرة الأساسية إلى الأدلة التي يريد الاستناد إليها يجب أن تكون أدلته واضحةً قريبةً متصلةً بما عرضه في موضوعه، وليس من المحتِّم أن تكون أدلته منطقية من أنواع أقيسة المنطق، فالدليل المنطقي أقوى وألزم للخصم بالتسليم، ولكنْ من الجائز للخطيب–هذا هو الأكثر–أن يستعمل أدلة ظنية (بمعنى أن مقدماتها أمور ظنية)، وهذه الأدلة كافية في المواقف الخطابية، وتسمى أدلة خطابية، (بمعنى أنها غير مقطوع بها ولكنها تثير الحمية وتبعث حماس السامعين).
وليعلم الخطيب أن الحديث إلى الجماهير يعتمد على المشاركة الوجدانية وإثارة العاطفة، كما يعتمد على براهين المنطق وأقْيسَتِه، وهو-لهذا-قد يثير حماس سامعيه، ويهيجهم نحو عملٍ ما غير أن تكون الفكرة قد درست في نفوسهم درساً منطقياً سليماً، وفي هذا المقام قد يورد حادثاً مشابهاً للحادث الذي يتحدث عنه، أو موقفاً لرجل من الحكماء والمشهورين فتنفعل نفس الناس به، وأنت تشاهد الصحافة تلجأ لمثل هذا التأثير الوجداني.
فتكتب العناوين الكبيرة لبعض الأحداث؛ لتجذب الأنظار إليها، وتستعمل الألفاظ الضخمة الطنانة مثل: مأثرة عظيمة، جموع حاشدة، ثورة على الجهل، قضاء حاسم نهائي على الفقر والجهل، وأمثال ذلك.
رابعاً: التفنيد:
لا بد أن يلتفت الخطيب إلى الأفكار المعارضة لفكرته؛ ليردَّها وبدحضها، فإذا كان هناك خطيب قد تقدمه معارضٌ لرأيه، استعرض أدلته فنقضها، والمزايا التي قالها لرأيه، فهوَّن منها وذكر-بجانبها-مزايا الفكرة التي يدعو هو إليها. وفي هذا المقام تفيد السخرية العابرة والنكتة المضحكة، على ألا يسرف في ذلك، ويخطئ الخطيب ويسقط نفسه إذا تناولَ خصمه بالشتم، أو طعن في شخصيته، وسلوكه، أو رماه بالغباء.
وفي أدبنا العربي شواهد كثيرة لهذا، كان جرير (وهو يناقض الفرزدق) لا يجد من مفاخر آبائه وأجداده ما يجد خصمه، فالفرزدق ذو نسب، لآبائه مآثر كثيرة. وكان جرير يعدل عن هذا الجانب؛ ليضحك الناس منه، ويلفتهم-هم-مناقشة مناظرتهما بالمنطق وهو يستعمل في ذلك الشعر السهل الرقيق، فيكون أسهل على الناس، وأشيع على لسانهم، وكذلك كان شأنه مع كل خصومه، وما كان أكثرهم! ولكنه غلبهم بهذا الأسلوب كقوله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً *** أبشر بطول سلامة يا مربع
ومربع هو (راوية جرير)، وكقوله في هجاء تيم:
تهيأت تيم لي جهلاً لتقتلني *** كما تهيأ لإست الخارئ الحجر
وفي هجاء النميري:
فغض الطرف إنك من نمير *** فلا كعبا ً بلغت ولا كلابا ً
وكانت هذه الأبيات تشيع على ألسُن الناس، وينكسر بها خصوم جرير، وهي مجرد سخرية لا منطق فيها ولا برهاناً عقلياً.
وتفنيدٌ للرأي المعارض لرأي الخطيب، أمرٌ هام في الخطيب، فإذا كان الخصم سيتكلم بعده ذكر ما يتوقع أن يستدل به، وإذا وقع-فعلاً-على الأدلة التي كان خصمه أعدها نال تفنيدها من الخصم، وفتر من عزيمته أثناء سردها، ثم يكون أثرها في نفس السامعين قليلاً. ولهذا يقابل المتكلم كلام صاحبه بالمثل، فلا يكتفي بعرض الدليل الذي نقض، بل يهون ما سبق من اعتراض عليه، وربما تظاهر الخطيب الثاني بأن هذا الدليل لم يكن لديه، ولا هو أعده ولكن صاحبه ذكره به ثم يعجب من تهوينه منه، وعدم إدراكه مغزاه. ولهجة الكلام وتكييف الصوت والابتسامة الخفيفة؛ تفيد في هذا-كثيراً-أمام الجماهير.
وربما لا يكون هناك خصم ولا معارض، ولكنَّ الخطيب يعرض رأياً، وفي هذه الحالة يستعرض الأضرار التي تنشأ عن إهمال هذا الرأي، والمتاعب والمشقات التي تواجه من ينفذ فكرته، ولكنه يهونها ويبين أنها لا شيء بجانب الثمرة المرجوة من مشروعه. أو يتوقع رأيا معارضاً-في أذهان السامعين فيرده – كأن يقول: قد يظن بعض الناس أن هذا العمل شاق أو يقول قائل: ...... الخ، وأنت تجد-كثيراً-في كتب الفقه المقارن مثل: فإن قيل كذا أو فإذا قال قائل: كذا وكذا، قلنا كذا وكذا.
وعلى أيَّة حال، عَرْضُ الموضوع لابد له من نوعين من الأدلة: أدلة تؤيده، وأدلة تدفع ما يعارضه، أو عسى أن يَرِدَ عليه اعتراض، والذي يتطلَّبُ من الخطيب هو الوضوح والاتجاه-دائماً-نحو الموضوع ووحدته وعدم الخروج، مع ما يصاحب ذلك من هدوءِ النفس والثقة بها.
--------
المراجع المصادر:
- البيان والتبيان
- الصناعتين
- الخطابة لأبي زهرة
- الخطابة للحوفي
- الخطابة لشلبي
- أدب الكاتب لابن قتيبة
التعليقات