عناصر الخطبة
1/ مكانة المسجد الأقصى 2/ضعف الأمة سبب احتلال بيت المقدس 3/ إن تنصروا الله ينصركم 4/ واجبنا تجاه الأقصىاهداف الخطبة
اقتباس
بل إن من المضحك أن ترى بعضهم من أشد الناس صوتاً في التنادي لتحرير المسجد الأقصى، وهو رجل كثير التخلف عن الصلاة حيث ينادى لها، بل هو لها من أشد الناس تضييعاً، فبأي شيء سيعظِّم المسجدَ الأقصى لو حضر تحريرَه؟ وهل شيء أولى في تعظيم المسجد الأقصى من ذكر الله فيه والصلاة؟ ماذا يعني هذا الرجلَ الذي لا يصلِّي أن يُحرَّرَ المسجدُ الأقصى أو لا يحرر؟!.
أما بعد: فلا يزال الحديث موصولاً عن ثالث الحرمين، وأُولى القبلتين، ومسرى خاتم النبيين، وهل يُستكثر أن يمتدَّ بنا حديثٌ عن المسجد الأقصى، والأرضِ المقدسة التي بارك الله فيها للعالمين؟! فكيف وهي اليوم أرضٌ مغتصبةٌ يجوس خلال ديارها ومقدساتِها أنجاسٌ مناكيدُ من شذاذ الآفاق، ممن هم أشد الناس عداوةً للذين آمنوا؟! إن هذا لممَّا يزيد قلبَ كلِّ مسلم كمداً على كمد، وحَنَقاً على حَنَق، ولله فيما يقدر الحكمة البالغة.
أيها الأحبة الكرام: ماذا يعني تسلط اليهود الصهاينة على المسجد الأقصى، واحتلالهم لبيت المقدس؟! أهو -كما يبدو في ظاهر الصورة- أرض مغتصبةٌ ومسجدٌ مدنّس؟! أم أن وراء هذه الصورة ما هو أعظم وأشدّ منها وطأة؟!
يبدو لبعضنا أن القضية لا تستحق كل هذا التصعيد والتهويل، ويتوهم أنها مؤدْلَجة ومُسَيَّسَة أكثر مما هي في الواقع، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجاً أن يقولوا لو مُنعنا مسجداً من المساجد، فقد جعل الله لنا الأرضَ مسجداً وطَهوراً، وإن اغتصبت لبعضنا أرضٌ، فأرض المسلمين لهم أرضٌ، وفيها سَعةٌ وعوضٌ.
طرح هذه الورقة يدل على ذلك التبسيط الساذج للقضية، إن الذي هان على هذه النفوس ليس هو الأرضَ المقدسة من حيث هي أرض، وإنما هان عليها دينُها أولاً، فهانت عليها مقدساتُها، ومتى ضعفت في قلوب الأمة مكانةُ الدين وحرماتِه، زهدتْ الأعين في مقدساته، وتخلّت الأيدي عن نصرته.
إن المسلم الغيور ليقرأ في احتلال اليهود للأرض المقدسة وتدنيسِهم لساحات المسجد الأقصى ما هو أبعد من ظاهر الصورة، إنه يقرأ في ذلك ماهو أسبق منه حدوثاً، يقرأ فيه تقويضاً سابقاً لمعالم الدين ومكانته في نفوس أبنائه قبل أن يُدنَّس الأقصى برجس يهود، ويقرأ في ذلك هوانَ مقدساتِ الشريعة الحسيةِ والمعنويةِ وشعائرِها التعبدية في قلوب الأمة قبل احتلال الأرض المقدسة وبعده، وما سقطت مقدساتُ الأمة في أرض المقدس إلا بعد أن سقطت الأمة نفسُها في ضحضاح الذلة والصَّغار، فلم يبق لها ولا لمقدساتها حرمةٌ تحترم.
والتاريخ على ذلك شهيد، فلم يحتل الصليبيون بيت المقدس أول مرة إلا بعد أن مضت القرونُ الثلاثة المفضَّلةُ، ومضت معها قوةُ الأمة وعزتُها ووَحدتُها، وخلَف من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهواتِ، فضعف الدين في نفوسهم، وهانت عليهم مقدساتُهم.
ومن هنا؛ فإن تدنيس الأنجاس لبيت المقدس كان نتيجةً لازبة لسقوط الأمة في وهدة الضعف، ولم يكن سبباً له، وكان نتيجةً لازمة لهوانِ الدين في نفوسها، ولم يكن سبباً مورِّثاً لهوان الدين في نفوسها. والله سبحانه قد أخبر بأنه (لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد:11]، وقال -تأكيداً لهذه السنة الربانية-: (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم) [الأنفال:53] هاتان الآيتان تقرران أن تغيُّر الحال سلباً أو إيجاباً لا يكون إلا بعد أن يتغير ما بالنفوس أولاً؛ فيتغير تبعاً لذلك سلوكُها واقعاً عملياً.
ولذا، فإن نصرة المسجد الأقصى لا تتعين في حسم عسكري مباغت، فلقد خاض العرب مع اليهود الصهاينة حروبا هُزموا فيها شر هزيمة، وازدادَ اليهودُ بعد كل واحدةٍ تسلطاً وتوسعاً في الاستيطان.
نعم، قد كان في تلك الجيوش العربية مجاهدون صادقون مخلصون؛ ولكن الأمة في جملتها لم تكن مؤهَّلةً للنصر والتمكين، فرايةُ القومية كانت هي الظاهرة، وإقصاء الشريعة كان قانوناً مسنوناً في بلاد أكثر الجيوش التي قدمتْ لنصرة فلسطين، ويظن بعضهم أن وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر قد تخلَّف في تلك المواجهات، والله سبحانه لا يُخلف وعدَه؛ ولكنهم لما خالفوا أمرَه فلم ينصروا دينه في نفوسهم وفي واقعهم تخلف عنهم نصرُه -سبحانه-، والله قد اشترط لنصره لعباده شرطاً، فمن لم يَفِ به فلا يلومن إلا نفسه: (إنْ تنْصُروا اللهَ ينصُركُم ويُثَبِّتْ أقدامَكُمْ) [محمد:7]، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَن ينصرُه) [الحج:40].
وإذ تقرر هذا؛ فإن نصرةَ الأقصى تبدأ من نصرة الدين في النفس بتعظيم شريعة الله، وإخلاص العبودية لله، وتحرير القلوب من كل عبودية لغيره؛ ثم بتعظيم شعائر دينه إقامةً لها، ومحافظةً عليها، وتحكيماً لشرعه في النفس والمجتمع.
أيها الأحبة الكرام: إن من الناس مَن لا عمل له في نصرة الأقصى إلا المناداةَ لنصرته، ومطالبةَ الحكومات بتحريره، والتباكيَ على احتلاله، وإلقاء التبعة والمسؤولية في ذلك على الآخرين، لا عمل له سوى ذلك، ولو تتبعت حالَه لوجدته أبعدَ الناس استعداداً لنصرة الأقصى، وهو فيما يستطيعه من أعمال النصرة مضيِّعٌ مفرط، فقضية المسجدِ الأقصى مغيبةٌ في مجالسه وبيته، ولا حظَّ للمسجد الأقصى في دعائه، لا يمل أن يدعوَ لنفسه بسعة الرزق وكثرةِ الولد، ثم يبخل أن يجعل للأقصى نصيباً من دعائه.
إن كثيراً من الأمة مبتلى بالتولّع بالمطالبات، ولكنه في نفسه لا يريد أن يصنع شيئاً، يذكر ما على الآخرين تجاه الأقصى من واجبات، ولا يذكر ما على نفسه له من واجب؛ هَوَسٌ محمومٌ في المطالبات، وبخل شديد بالعمل والمبادرات.
هؤلاء أقوامٌ مبتلون لا يحسنون إلا الكلام، وإنما هو الكلام في المطالبات وإلقاء التبعة واللوم على الآخرين، فهم بحقٍ ظاهرةٌ صوتيةٌ فحسب، ونسألهم سؤال الناصح المحب: هل لقضية القدس حضورٌ في بيوتكم؟ هل وَسِعَتْ مَكتَباتُكم الشخصيةُ مؤلفاتٍ في تأريخ الأرض المقدسة والمسجد الأقصى؟ هل وسعت كتباً في تاريخ الاحتلال الصليبي والصهيوني من بعده؟.
هل وسعت لغير ذلك من الوثائق والخرائط والصور والبرامج؛ لتصبح بذلك قضيةُ فلسطين قضيةً حيةً في بيوتكم يعِيها صغارُكم ككباركم؟ أم تُراها ضاقت عن كل ذلك، ثم صارت متسعاً لاستقبال قنوات اللهو والعبث والفجور، التي تديرها أيدٍ غربية صهيونية يتربى على خَبَثِها أولادكم؟.
إن البيوت الخربة التي خلت من ذكر الله، وضُيِّعَتْ فيها الصلاة، وصارت مناخاً ومحطاً لما يتهدد الأخلاق والهوية من أفكار غربية منكرة، لهي أبعدُ البيوت عن نصرة الأقصى؛ وإن رجلاً هذا حالُ بيته لحقيق أن يصمت فلا يلقي باللائمة والتقصير على الآخرين ما لم يقم هو بواجبه.
إن نصرة الأقصى لا تأتي عبطاً ولا عفواً من غير استعداد وتأهيل، ومن لم ينصر الله بإقامة دينه واستصلاح بيته وتربية أهله وولده على ما يُرضى اللهَ سبحانه، فليس بجدير أن ينصر الأقصى.
ينقم بعض هؤلاء على الحكومات العربية والإسلامية كثرةَ اختلافها وتنازعِها وتفرقِها، وهو في ذلك محق صادق؛ ولكنه هو الآخر حقيقٌ بهذا العتاب واللوم؛ لأنه من أشد الناس وأوسعهم اختلافاً وتنازعاً ومشاحنة، ومن أفجرهم خصومة عند أدنى خلاف، لم يترك أحداً إلا خالفه وعاداه وهجره؛ حتى جيرانه وأهل بيته لم يَسْلَموا من تعنُّتِه وغلوائه وفجورِه في خصومته، أفيكون هذا صادقَ اللهجة والعاطفة حين يتباكى على تفرق الأمة واختلافها وضياعِ بعض مقدساتها؟ لَعَمْر الحقِّ! لو صدق هذا عاطفةً ولهجةً لكان أسرعَ الناس نصرةً لمقدسات الأمة بنصرة الإسلام في سلوكه وولايته على أهله وولده.
بل إن من المضحك أن ترى بعضهم من أشد الناس صوتاً في التنادي لتحرير المسجد الأقصى، وهو رجل كثير التخلف عن الصلاة حيث ينادى لها، بل هو لها من أشد الناس تضييعاً، فبأي شيء سيعظِّم المسجدَ الأقصى لو حضر تحريرَه؟ وهل شيء أولى في تعظيم المسجد الأقصى من ذكر الله فيه والصلاة؟ ماذا يعني هذا الرجلَ الذي لا يصلِّي أن يُحرَّرَ المسجدُ الأقصى أو لا يحرر؟!.
إن على الغيورين الذين يزعمون صدقاً في العاطفة والغيرة على مقدسات الشريعة أن يترفعوا عن دعاوى العواطف ولججِها إلى حيث تكونُ العاطفةُ الصادقةُ المثمرةُ التي تتحمل من المسؤولية والتبعة أكثرَ مما تلقيه على الآخرين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادَك المجاهدين في فلسطين وفي غيرها يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يجعل له من أمره يُسراً، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظِم له أجراً.
أيها المسلمون: لم يكن المقصود مما تقدم تبرئةَ الحكومات من تبعة المسؤولية في شأن المسجد الأقصى، فعليها تقع أعظمُ المسؤولية بلا شك؛ غير أن ثمة مسؤوليةً تطالُ كلَّ فردٍ في الأمة حسب استطاعته، فمن عمل في نصرة كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- وربى أهله وأولاده على ذلك فقد خطا خطوات واسعة في نصرة الأقصى، وهيأ لنصرته جيلاً صالحاً.
واتساءل: من أين جاء تعظيمُنا لحرمة المسجد الأقصى وما حوله؟ أليس الشرع هو الذي أمرنا بتعظيمه وأخبرنا بقدسيته؟ فإذا كان الأمر كذلك، فلن نقدِّس ما أمر الله بتقديسه في الأرض المباركة ما لم يكن للشرع وأحكامه ونصوصه قداسةٌ وتعظيم في نفوسنا.
ولذا فالإنكار على من يستهزئ بسنة النبي –صلى الله عليه وسلم- محسوب من نصرة الأقصى؛ وإلا فإن سنة النبي –صلى الله عليه وسلم- أعظم منه قداسة. ونشْر السنة ودعوة الناس إلى شريعة الله عمل محسوب من نصرة الأقصى؛ لأنه عمل في نصرة الدين نفسه. وإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الواسع لا الضيِّق هو إحياء لقضية المسجد الأقصى في النفوس. وقس على ذلك أعمال كبيرة جليلة تأخذ بك في الطريق إلى نصرة المسجد الأقصى.
اللهمَّ طهِّر المسجد الأقصى من رجس يهود، اللهم أخرِجْهم...
التعليقات