عناصر الخطبة
1/ الأنبياء مدرسة للأمل الإيجابي 2/ بعض قصص الأنبياء في أمل الأنبياء عند اليأساقتباس
الأمل خلق من أخلاق الأنبياء والمرسلين، وهو الذي جعلهم يواصلون الحياة في دعوة أقوامهم إلى الله دون يأس أو ملل، برغم ما كانوا يلاقونه من إعراض ونفور وأذى، أملاً في هدايتهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أبدع ما أوجد، وأتقن ما صنع، وكل شيء لجبروته ذل ولعظمته خضع، سبحانه وبحمده في رحمته الرجاء، وفي عفوِه الطمع.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله أفضل مُقتدى به وأكمل مُتبع، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضلِ والتقى والورع، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان ولنهجِ الحق لزِم واتبع، وسلم تسليماً كثيراً.
معاشر عمار بيت الله: ما زال الحديث متواصلا مع موضوع: "كيف نحيي الأمل؟"، واليوم -بإذن الله- مع الخطبة الثانية: "الأمل في حياة الرسل".
فالناس اليوم بحاجة إلى من يبث في نفوسهم الأمل، ويُيسِّر لهم طريق الخير، بتعزيز استحضار النماذج المُشرِقة، حتى يتخذونها أسوةً تضيء لهم الطريق، وتوصلهم إلى بر الأمان.
ومن النماذج المشرقة: الأنبياء والرسل، قال ربنا -سبحانه-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [يوسف: 111] فقصص الأنبياء ليست روايات ولا حكايات نسمعها على سبيل التسلية، لكنها عظات عالية وحكم غالية راقية، علينا أن نتدبرها ونفهمها، حتى يكرمنا الله كما أكرمهم، ويعمنا بفضله الكبير الذي عمّهم به، وبالأجر العظيم الذي وعدهم به.
فالأنبياء والرسل هم مدرسة الأمل التي ينبغي للأمة أن تتعلم فيها ومنها، وخصوصاً في هذا الزمان، زمن اليأس والانتكاس والتخاذل والانهزامية والانكسار، في زمن أصبح اليأس بضاعة رائجة، بينما بضاعة الأمل والتفاؤل كسدت وبارت.
فالأمل خلق من أخلاق الأنبياء والمرسلين، وهو الذي جعلهم يواصلون الحياة في دعوة أقوامهم إلى الله دون يأس أو ملل، برغم ما كانوا يلاقونه من إعراض ونفور وأذى، أملاً في هدايتهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ونظرا لتسابق الوقت سأكتفي في هذه الخطبة بذكر بعض النماذج المشرقة.
* يونس -عليه السلام- إذ قال الله ربنا: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) [الصافات: 142] وهل يوجد لدى إنسان أمل في الحياة إذا التقمه حوت؟
فالإنسان قد تتعدد عنده المصائب.
مصائب متعلقة بالجسم؛ أمراض.
مصائب متعلقة بالمال؛ إفلاس، بطالة، دخل قليل، فقر.
مصائب متعلقة بالأسرة؛ عقوق الأولاد وانحرافهم.
محن ابتلاءات قد تتوالى على الإنسان، وقد يكون عنده أمل لتجاوزها.
أما إنسان قد التقمه الحوت فقد يكون الأمل في نجاته منعدما وخاصة إذا علمنا أنه في ظلمات ثلاث، في ظلمة الليل، والظلامُ موحش، وفي ظلمة البحر، وظلامُ البحر أشد وحشة، وفي ظلمة بطن الحوت، ظلمات ثلاث، وما من وسيلة من وسائل الاتصال بالعالم الخارجي.
لكن يونس -عليه السلام- كان له اتصال من نوع خاص: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
فجاءه الرد الرباني على جناح السرعة: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) [الأنبياء: 88].
واسمعوا -يرحمكم الله- فكلام ربنا لم ينته بعد، والخط الموصول بين السماء والأرض لا يزال مفتوحا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال ربنا: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88]، وهنا بيت القصيد، أي أن هذه الاستجابة الربانية والنجاة لم تكن خاصة ليونس، بل هي استجابة ونجاة لكل مسلم ينقطع انقطاع يونس -عليه السلام-، فقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: "دعوةُ ذِي النُّونِ إذْ دَعَا بِها و هو في بطْنِ الحُوتِ، لا إلهَ إلَّا أنتَ سُبحانَكَ إنِّي كُنتُ من الظالِمينَ، لمْ يدْعُ بِها مُسلمٌ في شيءٍ إلَّا استجابَ اللهُ لهُ".
وفي الوصية الجامعة الشاملة النافعة يقول الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعرَّفْ إليه في الرَّخاءِ يعرِفْك في الشِّدَّةِ".
* نموذج آخر من النماذج المشرقة، نبي الله يعقوب -عليه السلام-ابتلاه الله -سبحانه- بفقد ابنه يوسفَ -عليه السلام- ثم أخاه، فحزِن عليهما حزنا شديدا حتى فقد بصره، لكنه عليه السلام ظل صابرا بقضاء الله، ولم ييأس من رجوع ولديه، حيث ظل متمسكا بالأمل حتى آخر لحظة، وازداد أمله ورجاؤه في الله –سبحانه- أن يُعِيدَهما إليه، فقال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف: 18]، وذات الكلمة قالها يوم فقد يوسف، ولكنه في هذه المرة يضيف إليها هذا الأمل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه: (عسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم) [يوسف: 83]، فالله الذي يعلم حاله، ويعلم ما وراء هذه الأحداث والامتحانات، فهو سبحانه يأتي بكل أمر في وقته المناسب، عندما تتحقق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج.
هذا الشعاع من الأمل، من أين جاء إلى قلب يعقوب؟
إنه الأمل في الله، إنه الاتصال الوثيق بالله، والشعور بوجود رحمته، ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة، فيصبح عندها أصدقُ وأعمقُ من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار.
ثم قال: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) [يوسف: 87]، فما أجمله من أمل تُعزِّزه الثقةُ بالله -سبحانه وتعالى- حين قال: (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87]، فإنه لا يقنط من فرج الله ورحمته ويقطع رجاءه منه إلا القوم الذين يجحدون قدرة الله ومشيئتَه، فأما المؤمنون الموصولةُ قلوبُهم بالله، الشاعرون بنفحاته، فإنهم لا ييأسون ولا يقنطون من روْح الله ولو أحاط بهم الكرب واشتد بهم الضيق.
فتحقق أملُ يعقوب ورجاؤُه، وَرَدَّ الله عليه بصره وولديه.
فقصة يوسف بأكملها -يا أمة القرآن- أمل لكل والد فقد فلذة كبده، أمل لكل أسرة تفرق شملها وتشتت جمعها، أمل لكل مظلوم ومقهور، أمل لكل غائب، أمل لكل مريض ومبتلى، أمل لكل صاحب قضية.
إنها تمثل الأمل والرجاء الذي ينبغي أن يكون في قلب المؤمن المتوكل على الله -تعالى-، فالمؤمن لا يعرف اليأس مهما اشتدت به الابتلاءات والمحن؛ لأنه موقن بأن الله –تعالى- على كل شيء قدير وبأنه هو العزيز الحكيم، ولا يحصل أمر في كونه إلا بأمره لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
* نموذج آخر من النماذج المشرقة، موسى -عليه السلام- كما جاء في كثير من سور القرآن أنه تكرر الأمل في حياته كثيرا، حيث ولد بالأمل وعاش بالأمل منذ كان رضيعا، قال ربنا: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَن ارْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين) [القصص: 7].
ولما بلغ أشده وخرج مُطَاردا من المدينة، قال ربنا: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) [القصص: 21-22]، ثم يخبر سبحانه أن موسى لما سقى غنم المرأتين، وتولى إِلَى ظل الشجرة، فَقَالَ: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص: 24].
وكأني بحاله يقول: يا رب، إني لما أنزلت إلي من فضلك وغناك وخيرك فقير إلى أن تغنيني به عمن سواك.
فموسى -عليه السلام- لما جهَد في السفر، وانقطع عن الأهل، عرف أين المقصد، وأين المخرج، عرف أنّ المفر إلى ربه -تبارك وتعالى-: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) [الذاريات: 50]، عرف أنّ الله هو الأمل والرجاء، فتوسّل إليه، وذكر حاله بألطف الكلمات والعبارات: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص: 24]، وهذا من أبلغ الوسائل وألطفها لما فيها من حسن الأدب وكمال الطلب.
فجاءه الفــرج: أجر، وأمن، وزواج، وعمل، ورسالة، ونصرة وتأييد، وغلبة.
فأما الأجر: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) [القصص: 25].
الأمن: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص: 25].
العمل: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص: 26].
الزواج: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ) [القصص: 27].
الرسالة: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) [طه: 13].
النصرة والتأييد: (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا) [القصص: 35].
الغلبة: (أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) [القصص: 35].
ويوم أن جاءه الأمر من ربه: (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم: 5]، خرج موسى بقومه، فأتبعهم فرعون بجنوده: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء: 61]، فالبحر أمامهم، وليس معهم سفينة ولا هم يملكون القدرة على خوضه، والعدو خلفهم وقد اقترب منهم.
لكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه يوم قال له: (أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) [القصص: 31]، فهو لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه، واليقين بعونه، والتأكد من النجاة، وإن كان لا يدري كيف تكون النجاة، فما كان يمتلك خطة وما كان يعرف طريقا للهرب من بطش فرعون؟
فموسى على يقين حتى وإن كان قد فقد الأسباب فمعه رب الأسباب، وإن كان بلا حول ولا قوة، فحول الله وقوته تحيطانه من كل جانب، فهو إذا بأمله وبثقته في ربه يملك النجاة والفوز المبين على فرعون وجنوده؛ لأن الله قد وعده: (أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) [القصص: 35] فيقول موسى بكل ثقة ويقين: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62]، إنه الأمل في القدرة الإلهية، إنه الأمل في الله الذي إذا أراد شيئًا يقول له كن فيكون، فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه جل جلاله، قال ربنا: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِي) [الشعراء: 63 - 68].
فكن -أيها المسلم- كما كان موسى مع قومه يبشرهم بالأمل ويزرع في قلوبهم الإيمان بربهم.
وللحديث بقية في جمعة قادمة -بحول الله- ومع "الرسول -صلى الله عليه وسلم- يصنع الأمل في حياة الأمة".
التعليقات