عناصر الخطبة
1/ وجوب الصبر والمقصود به 2/ أهمية الصبر وفضائله 3/ بعض طرق ووسائل التخلق بالصبراهداف الخطبة
اقتباس
أوجبه الله -تعالى- علينا في الآية الكريمة بالأمر به، وبتعليق الفلاح والنجاة عليه، وإن حاجة المسلم إلى هذا الخلق أكثر من غيرها من الأخلاق، ذلك أنه أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدرٍ يجري عليه اتفاقا، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى...
الخطبة الأولى:
بعد الحمد والثناء...
أما بعد:
فإن الصبر خلق وعبادة قد أوجبها الله -تعالى- على عباده، وهي ضرورية لكل مسلم يعيش في هذه الدنيا، ويختلط بالناس، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200]، وأصل هذه الكلمة هو: المنع والحبس، فالصبر حبس القلب عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود، وشق الثياب، ونحوهما.
وقد أوجبه الله -تعالى- علينا في الآية الكريمة بالأمر به، وبتعليق الفلاح والنجاة عليه، وإن حاجة المسلم إلى هذا الخلق أكثر من غيرها من الأخلاق، ذلك أنه -كما يقول ابن القيم- "بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدرٍ يجري عليه اتفاقا، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات".
والصبر ليس فقط على يكره بل على ما يحب ويهوى كالصحة والسلامة والجاه والمال، وأنواع الملاذ المباحة بأن لا يركن إليها، ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر والفرح المذموم، وبأن لا ينهمك في نيلها، ويبالغ في استقصائها، فإنها تنقلب إلى أضدادها، وبأن يصبر على أداء حق الله فيها، وأن لا يصرفها في الحرام، قال عبد الرحمن بن عوف -رضي َالله عنه-: "ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر".
فالصبر سمة ينبغي أن تكون لازمة لكل مسلم؛ لأن تحقيق العبادة واستقامة السلوك أمران متربطان به ارتباطا وثيقا، والصبر أنواع كثيرة ردها العلماء إلى ثلاثة: صبر على فعل المأمور، وصبر على ترك المحظور، وصبر على القضاء المقدور.
وليست هذه الأنواع "الأمر والنهي والقدر" منحصرة في معاملة الله -تعالى-، بل هي متعدية إلى معاملة الناس أيضا؛ لأن من الأمر والنهي ما هو متعلق بحقوق المسلمين أفرادا وجماعات، ولأن من البلاء ما يصيب الناس عن طريق الناس، بل وإخوانه، بل وأقرب الناس إليه أحيانا، قال عز وجل: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) [الفرقان: 20]، وقال صلى الله عليه وسلمَ: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" [رواه الترمذي وابن ماجة].
ولذلك فإنه من غير الصبر لا يمكن للواحد منا أن يعيش مع الآخر، ومن أجل ذلك قلنا إنه ضروري للإنسان.
ومن دون الصبر لا يمكن الحفاظ حتى على النفس صحة وعقلا وبقاء، فإن في الصبر علاج لأمراض شتى وأعراض مختلفة يصاب بها الأفراد والجماعات، علاج من حالات الغضب والاستعجال والانتقام، وبه يسلم المرء من اليأس والقنوط والكسل، وغيرها من الحالات السلبية الناجمة عن ألوان الفتن والشهوات والأحزان، ومظاهر الفقر والقهر، وجور السلطان، وأساليب المكر والخيانة والطغيان، وغير ذلك من الأمور التي إن لم يصطدم بها العبد فهو يراها ويصيبه من شررها، ولا طاقة له بدفعها، ولا باجتناب تأثيرها فيه، إلا إذا تحلى بالصبر ولازمه حتى يصير سجية له، قال ابن عيينة: "كان يقال يحتاج المؤمن إلى الصبر كما يحتاج إلى الطعام والشراب".
ولقد وعت هذه الحقيقة فئة من عباد الله فسألت ربها الصبر، وقالت: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) [البقرة: 250]، فاستعملت عبارة الإفراغ الدالة على التدفق الموحية بأن كمية الصبر المطلوبة والمحتاج إليها ليس مما يمكن تقديره عدًّا أو كيلاً، وقد أمرنا الله به في موضع فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200]، فدلنا على أن الفلاح مرهون بخصال أربعة: الصبر العادي واحد منها إذ لابد من المصابرة، وهي مغالبة العدو، وكل عائق عند صبره، ولا بد أيضا من الرباط الذي فيه معنى دوام الصبر، ورابع الخصال: التقوى التي لا تقوم إلا على ساق الصبر أيضا.
ونحن إذا تيقنا أننا لا نكون عبادا لله كما أمر إلا بالصبر ولا نكون راضين بما قدر لنا إلا به، ثم لا سبيل إلى العيش مع الناس من دونه ولا طريق إلى القيام بأي وظيفة من الوظائف إلا والصبر حاضر ومطلوب، وجب علينا أن نسعى لتربية أنفسنا عليه وأن نجتهد في تحصيله، وأن نجعل على طرف ألسنتنا قول الشاعر:
الصبر مفتاح ما يرجى *** وكل صعب به يهون
وربما نيل باصطبار *** ما قيل هيهات يكون
ولا إيمان لمن لا صبر له، قال علي بن أبي طالب -رضي َالله عنه-: "ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس باد الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له"، وقال إبراهيم التيمي: "ما من عبد وهب الله له صبرا على الأذى، وصبرا على البلاء، وصبرا على المصائب، إلا وقد أوتي أفضل ما أوتيه أحد، بعد الإيمان بالله".
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والعاقبة للمتقين.
أما بعد:
فإن الصبر ضرورة وواجب من واجبات الإيمان يجب على كل مسلم أن يسعى إلى تحصيله، والتحلي به، وأن نجتهد في تقويته في قلبه وسلوكه، ومن طرق ذلك:
1- إن من أول الأشياء التي تساعدنا على التخلق بالصبر: أن نعلم طبيعة الحياة الدنيا التي وصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنها سجن المؤمن وجنة الكافر، ووصفها ربنا -سبحانه- بما يفيد أنها دنيا المشاق والمتاعب؛ كقوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد: 10]، والنجد هو المرتفع الذي في تسلقه مشقه، وقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4]، والكبد المشاق، وكذلك قوله سبحانه: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140]، وفي هذا دلالة على أن الإصابة بالبلاء سنة كونية قدرية لا مفر منها، ومثله في الدلالة قوله سبحانه: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 2 - 3].
وقد أخبرنا أيضا نبيا -صلى الله عليه وسلمَ- بأن الجنة حفت بالمكاره، وأن النار حفت بالشهوات، هكذا أراد الله -تعالى- أن تكون الطريق إليه سبحانه.
2- نتعلم خلق الصبر، إذا تذكرنا أن فيمن كان قبلنا من هو خير منا، وأكثر عبادة وصلاحا واستقامة، ومع ذلك تعرض للبلاء، ونتحلى به إذا علمنا أنه ممن شملتهم هذه السنة الكونية الأنبياء والمرسلين الذين كذِّبوا وضربوا، أو أخرجوا من ديارهم أو قتلوا، عن ابن مسعود قال: "كأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" [متفق عليه].
3- ومن أظهر الأمور التي تثبت الصبر في قلوبنا وتغرسه فيها: تأمل الأجر والثواب الذي أعده تعالى للصابرين، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] غرفا غرفا، وكالماء المنهمر، وقد جاء في الحديث القدسي: أن الله يثيب على الأعمال من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف قال: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"؛ لأن الصيام عبادة مبناها على الصبر بحبس النفس عن الشهوات المباحة فضلا عن المحرمة وذلك قمة الصبر، وقال سبحانه أيضا في بيان ثواب الصابرين: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 96]، قال صلى الله عليه وسلمَ: "إن من ورائكم أيام الصبر، صبر فيهن مثل قبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين يعملون مثل عمله، قالوا: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم"، وقال ابن عيينة: "لم يعط العباد أفضل من الصبر، به دخلوا الجنة"، قال عز وجل: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) [الفرقان: 75]، وقال: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار) [الرعد: 24]، وكان نبينا -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة"، وقال صلى الله عليه وسلمَ للمرأة التي طلبت الدعاء: "إن شئت صبرت ولك الجنة".
4- وكذلك: حسن الظن بالله، موجب للصبر من غير شك، قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم: 60]، فإن العبد إذا استيقن صدق وعد الله، وأنه منجزه في الدنيا وفي الآخرة فإنه يصبر ولا يستعجل ولا ييأس، وقال الله -تعالى-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5 - 6]، وفي هذا إخبار من الله أن مع كل عسر يسرا؛ كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلمَ-: "واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا".
5- ونتعلم هذا الخلق: بالمجاهدة، قال صلى الله عليه وسلمَ: "ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيرا وأوسع من الصبر" [رواه البخاري].
6- ومن أعظم أسباب التربية على الصبر: تدبر القصص القرآني، قال عز وجل: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120]، فهذا الرسول الكريم كان محتاجا إلى التثبيت من الله -تعالى-، وكان من فوائد قصص الأنبياء عليه تثبيت قلبه كما هو مصرح به في الآية، ووجه ذلك أن العبد إذا رأى من سبقه ابتلي بمثل بلائه، أو أعظم منه، فصبر تصبر هو كذلك واقتدى به، وإذا شاهد عاقبة الصابرين في ذلك القصص انشرح صدره وازداد يقينه في الله -تعالى-.
ولنأخذ نموذجا من قصص الصابرين الوارد في القرآن: قصة إبراهيم -عليه السلام- مع ولده إسماعيل -عليه السلام-، حيث قال له أبوه إبراهيم -عليه السلام- وهو في ريعان الشباب: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)، فأجابه جوابا عجيبا، فقال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102]، لكن الله -تعالى- غني عن عذابنا، وإنما ابتلى طاعة إبراهيم وصبر إسماعيل، فلما رأى الاستجابة منهما رفع ذلك التكليف وفداه بذبح عظيم، والذي ينبغي أن يكون محل تأمل هو عقد المقارنة بين ما كلفنا به ربنا من عبادات، وبين هذا التكليف الواحد الفريد، إن من نظر بعين الإنصاف لا شك يشهد بخفة ما كل ما كلفنا به ربنا -سبحانه- أمام ذلك التكليف، ومن نظر إلى جانب ذلك إلى موقف إسماعيل وأبيه من حيث الصبر على الطاعة، يقول في نفسه: مالي أنا لا أصبر على الصلاة، مالي لا أصبر على الصيام، مالي لا أصبر على دفع الزكاة، وهذه كلها أهون وأيسر مما كلف به إبراهيم وإسماعيل وصبرا؟
وعن خباب بن الأرت قال: "شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم، أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" [رواه البخاري].
6- ومن الصابرين: سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلمَ- بل هو سيد الصابرين أجمعين، قال تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) [المعارج: 5]، وقال: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) [قّ: 39]، وقال: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) [الأحقاف: 35].
صبر لما كذبوه وهو من كان يعرف بالصادق الأمين، صبر لما آذوه في مكة وضربوه، صبر لما أخرج من بلده صلى الله عليه وسلمَ، وهذه بعض الحوادث التي تجلي لنا مقدار صبره على أذى من كان يريد بهم الخير، لما ذهب النبي -صلى الله عليه وسلمَ- إلى الطائف فلم يجيبوه إلى ما أراد، قال: فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله -عز وجل- قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -جبلين يحيطان بمكة-، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا".
فما أحلم نبينا -صلى الله عليه وسلمَ وما أصبره! فإن أهل الطائف لم يكتفوا بتكذيبه كما هو معروف في السيرة، بل أخرجوه بشر طريقة وأغروا به صبيانهم وسفهائهم يرمونه بالحجارة حتى أدموه، ومع ذلك قد علمتم رد فعله بعد الحادث مباشرة.
فاللهم وفقنا للاقتداء بنبينا -صلى الله عليه وسلمَ-، وللتخلق بأخلاقه، والاستنان بسنته.
ومن صور صبر النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: حلمه في جواب اليهود الذين كانوا يؤذونه بالكلام؛ فعن عائشة قالت: "استأذن رهط من اليهود على رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ، فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله" قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: "قد قلت وعليكم" [متفق عليه].
ومن صور صبره: صبره على خلق الجفاة من الأعراب، وسوء ظنهم به، عن أنس بن مالك قال: "كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك؟ فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فضحك، ثم أمر له بعطاء" [متفق عليه]، وفي بعض الروايات: "أنه جذبه حتى رجع"، وفي بعضها: "أنه شق بردته".
نسأل الله -عز وجل- أن يهدينا، وأن يلهمنا الصبر، ويعلمنا الحلم، وأن يحسن أخلاقنا.
وسبحانك اللهم بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
التعليقات