د . محمد احمد المبيض
معالجة الخطر الداخلي في الصف المسلم .
أفرزت الهجرة النبوية ، وما آلت إليه من انتقال السلطة السياسية في المدينة للمسلمين فئة جديدة كانت تظهر الإسلام وتبطن الكفر ، وتتلون بلون المسلمين بظاهرها ، وتكيد لهم في الخفاء ، هذه الظاهرة هي ظاهرة النفاق ، وهي أشبه بالطابور الخامس في مجتمعاتنا المعاصرة ، وكانت في بدايتها تمثل شريحة كبيرة في المجتمع المدني ، وبعض أفرادها كان لهم مكانة مرموقة كعبد الله بن أبي سلول الذي يعتبر من أبرز شخصيات المدينة المنورة ، وأكابر رجالها ، وكان أهل المدينة قبل إسلامهم يهيئونه ليكون ملكاً عليهم .
هذه الفئة كانت التحدي الأكبر للمسلمين ؛ وكانوا أشبه بمنظمة سرية تسعى لهدم الكيان الجديد من الداخل ، ولا تُرى جهودهم من ظاهر أعمالهم ، بل هو مكر الليل والنهار والتآمر الخفي ، واستغلال الأحداث وإشعال الفتن ، وتثبيط الهمم من داخل الفئة المسلمة .
وهذا الخطر الداخلي تعاطى معه النبي -صلى الله عليه وسلم- بحكمة بالغة ، وبسماحة منقطعة النظير ، وبخطوات حساسة تمنع من تفكك المجتمع الجديد أو تشويه صورته أو تستدرجه للاستنزاف الداخلي المفضي للعنف بين شرائح المجتمع ، ولعل أهم الخطوات التي قام بها يشاركه بذلك القرآن :
1- كشف ظاهرة النفاق وبيان خطورتها ، وعواقبها على أهلها ، وإبراز أهم صفات المنافقين ليحذر المجتمع منهم ، وينتبه أفراده إلى أولئك الأعداء الذين يتلونون بلون المسلمين وينتسبون لهم ، وكان لهذه الخطوة أثرها في فضح المنافقين وتقليل خطرهم ، وفي نفس الوقت كانت رادعة للكثيرين منهم مما حذا بهم للعودة الصادقة للصف المسلم ، ويلحظ على هذه الخطوة أنها اقتصرت على بيان صفات المنافق وخصاله دون التصريح باسمه ، وذلك لرأب الصدع الداخلي ، و إبقاء الباب مفتوحاً للتوبة ويلتقي مع المنهجية العامة للرسالة المحمدية التي تهتم بالستر وعدم التشهير .
2- الإحسان لهذه الفئة وملاطفتها لعلها تعود إلى حظيرة الإسلام ، وتجنب أي صدام مع أطرافها ، والصبر على فلتاتها وهذا الإحسان رافق النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل المرحلة المدنية ، وكان له الأثر في تحجيم هذه الظاهرة تدريجياً بالوسائل السلمية .
3- تجنب تصفية أي فرد منها مهما عظم خطره ، وذلك حفاظاً على صورة الإسلام وسماحة تعاليمه ، وكان شعار النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما كان يعرض عليه تصفية لأي واحد من المنافقين : « لا . لئلا يقول الناس أن محمداً يقتل أصحابه . » وهذا النهج يبرز وضوح ثقافة السلامة في المعالجة النبوية لظاهرة النفاق
4- نلحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أبدى سماحة عالية في تعامله مع المنافقين ، فهذا عبد الله بن أبي سلول لم يترك مدخلاً للكيد بالرسول أو الاستهانة به إلا ولجه ، ومن ذلك تصريحه بإخراج النبي -صلى الله عليه وسلم- ذليلاً من المدينة ، وذلك عندما قال : « لئن رجعت إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . » فهذه المواقف المخزية والجريئة من أبي سلول قد خلقت تذمراً شديداً من المسلمين حتى من عشيرته وأقرب الناس إليه ، ويأتي ابنه عبد الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان صادق الإسلام ، ويعرض عليه أن يقتل أباه ، فيرفض النبي -صلى الله عليه وسلم- طلبه قائلاً : بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا ، بل نجده يستمر في ملاطفته حتى اللحظة الأخيرة في حياته ، و يخرج ويصلي عليه مما ترتب عليه معاتبة السماء له على تصرفه ذلك .
5- اغتنام أي فرصة تفتح المجال لتوبة المنافقين وعودتهم للصف المسلم من ذلك : رأس النفاق ابن سلول عند دنو وفاته أرسل للنبي -صلى الله عليه وسلم- لكي يزوره ، فلبى النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعوة ، وجلس إليه وعاتبه ، فقال له ابن سلول : لم أرسل إليك لتؤنبني ، وإنما لتستغفر لي ، فاستغفر له النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وقيل أنه طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- قميصه ليكفن به ، وورد أن هذا الطلب بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن طريق ابنه ، فأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- قميصه ليكفن به ، وشارك في دفنه وصلى عليه ، فعاتب بعض الصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- على موقفه من ابن سلول ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : وما يغني عنه قميصي ، والله إني لأرجو أن يسلم بذلك ألف رجل من قومه ، ([1]) أما الاستغفار فقد خيرني الله فيه : « اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ » ([2]) وسأزيده على سبعين ([3]) ، وورد أن أكثر رجال الخزرج ممن كان ولاؤهم لابن سلول عندما رأوا زعيمهم يطلب استغفار النبي -صلى الله عليه وسلم- وقميصه ليكفن به استشعروا مصداقية النبي -صلى الله عليه وسلم- وغثائية مزاعم ابن سلول في حقه ، وعندما قابلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الإيجابية مع زعيمهم الذي طالما آذى النبي -صلى الله عليه وسلم- شعروا بجلالة هذه الرسالة وسموها فدخلوا في دين الله وعادوا لحظيرة الإسلام .
هذه أهم الخطوات التي قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- لحسم ظاهرة النفاق في المجتمع ، ونلحظ عليها أنها كانت تتسم بمرونة امتزجت بالحكمة وتوجت بالسماحة والرحمة وما أن انتهت السنة التاسعة للهجرة حتى دخلت ظاهرة النفاق في طور التلاشي .
([1]) انظر الطبري : جامع البيان ( 10/206) ؛ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ( 8/221) ؛ المباركفوري : تحفة الأحوذي ( 8/398)
([2]) التوبة : من الآية 80
([3])هذا الموقف يبرز لنا مدى سماحة النبي -صلى الله عليه وسلم- ووفور رحمته حتى مع ألد أعدائه ، وأكثرهم طعناً برسالته ، بل تعدى إيذاؤه للرسول كل الحدود حتى طعن في شرف زوجته عائشة رضي الله عنها . وبالرغم من ذلك يطمح النبي -صلى الله عليه وسلم- في مبالغة الاستغفار له لعله ينجو.
التعليقات