عناصر الخطبة
1/ ذَمُّ الإحباط 2/ أسبابه وبواعثه 3/ بعض مظاهره 4/ سبُلُ علاجه اهداف الخطبة
اقتباس
الإحباط، وما أدراكم ما الإحباط؟! الإحباط خلق ذميم، وصفة سيئة، مَنْ تعايش معها في حياته أصبحت الحياة أمامه حياة مظلمة، أصبح في مجتمع منغلق في ظنه.
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله، كثرت في هذا الزمن الهموم، وتواردت الضغوط النفسية؛ مما جعلت كثيرا من الناس يهبط إلى وادٍ يسمى بوادي الإحباط.
الإحباط، وما أدراكم ما الإحباط؟! الإحباط خلق ذميم، وصفة سيئة، مَنْ تعايش معها في حياته أصبحت الحياة أمامه حياة مظلمة، أصبح في مجتمع منغلق في ظنه.
الإنسان، لا سيما في هذا العصر، وكثير من الناس وقع في هذا الأمر، قد يسعى لأمر يحبه وتهدف نفسه إليه، لكنه قد يحول بينه وبينه حوائل، أو تقف أمامه عوائق، فحينها إذا وجد هذا العائق أو وقف أمامه هذا الحائل أصيب بخيبة في الأمل، أصيب بتعاسة في حياته، حتى إن البعض يكون عنده التحمل تحملا ضعيفا؛ لأن الناس يختلفون في درجات التحمل، أناس عندهم التحمل بدرجة ضعيفة، وآخرون عندهم التحمل بدرجة متوسطة، وآخرون عندهم التحمل بدرجة قوية.
ولكن صاحب الدرجة الضعيفة سرعان ما ينهار أمام أي موقف يحصل له؛ بل إنه ليتأثر بأي موقف يمر عليه، بل إن الكلمة التي قد تصدر من أخيه صدورا عفويا قد تسوِّد عليه يومه، وتفسد عليه حياته.
ولا يزال الإحباط يتفاقم أمره أمام هذا الصنف من الناس، لا سيما إذا كانت رغبته جامحة فيما يريد أن يحققه ويرى العوائق أمامه.
بينما أصحاب الدرجة المتوسطة أو الكبيرة من التحمل قد يتجاوزون هذا الأمر وقد يتلافونه إذا كانت لديهم ثقة بالله -عز وجل-.
فعلى المسلم أن يُنمِّي شعوره بالثقة بالله -عز وجل-، وأن يؤمن بقضاء الله -عز وجل- وقدره، وأن يصبر على ما يصيبه من بلاء، حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، ماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: "ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس"، ارض بما قسم الله لك من مال، من صحة، من أولاد، من وظيفة، من أي شيء يكون لك في هذه الحياة، إذا رضيت بما قسم الله لك تكون أغنى الناس.
وليعلم الإنسان أن هناك أمرا يستطيع أن يسيطر عليه، وبهذا الأمر قد يسعد الإنسان وبه قد يشقى، ما هو هذا الأمر الذي يمكن أن يسيطر عليه الإنسان ويتحقق به الرضا عن حياته وعن أقواله وعن أفعاله وعما يملكه؟ هو [التفكير]، نَعم، تفكيرك -والله وتالله وبالله- هو الذي يقودك إلى النعيم أو يقودك إلى الجحيم في الدنيا وفي الآخرة!.
جاء ما يسمى بخسارة الناس في الأسهم، وتأثر الناس بها تأثرا كبيرا، وبعد الخسارة هناك أُناس أسرت عقولهم أمام هذه الخسارة وأصبحوا يفكرون بها صباح مساء، فلم تتأثر نفوسهم فحسب، بل تأثرت أسرهم من جراء تفكيرهم، إلى درجة أن البعض قد أصيب بأمراض نفسية، يتعاطى العلاج ولم يجده، لم؟ لأنه جعل تفكيره تفكيرا سلبيا لم يجعل تفكيره تفكيرا إيجابيا.
تصور لو أن الإنسان أصيب بهذه المصيبة ثم اطمأن بقضاء الله -عز وجل- وقدره وتناسى هذا الأمر؛ كيف تكون حياته؟ تكون حياته طيبة، ويتخلص من هذا الوباء الذي هو الإحباط.
مثال آخر: البعض من الناس قد يصاب بمرض فيتعاطى الأسباب ولم يجد العلاج، فحينها يصاب بالإحباط، ويجعل نفسه في دوامة من التفكير، وهذا التفكير يزيده عناء وتعبا، لا تظنن أن التفكير السيئ يقودك إلى الخلاص، يقودك إلى النجاة، كلا والله! وإنما يقودك إلى التعاسة وإلى الشقاء.
لكن؛ لو أن هذا الإنسان أخرج نفسه من هذه الدوامة، وظن بالله ظنا حسنا، وتأمل واعتقد وآمن بأن لله -عز وجل- أسماء حسنى لو دعا بها لتحقق له مطلبه، (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180]، لو تأمل واعتقد وآمن إيمانا كاملا بأن من بين أسمائه -جل وعلا- [الشافي]، "اللهم رب الناس، مُذهب البأس، اشفني أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك". تصور لو كان هذا الاسم أمام عينيه ونصب ناظريه، كيف تكون حياته؟ فالتفكير مؤثر تأثيرا سلبيا.
ولذا، البعض من الناس قد لا يتحقق له بعد حصوله على شهادة، لا تتحقق له وظيفة، فهنا يكون التفكير إما وبالا عليه وإما سعادة له؛ ولذا يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- تحت الحديث الصحيح "أصدق الأسماء حارث وهمام"، قال -رحمه الله-: "هذه أصدق الأسماء؛ لأن كل إنسان لا بد أن يهم"، يعني: لا بد أن يفكر، "ولا بد أن يحرث نتيجة هذا التفكير".
يقول ابن القيم -رحمه الله- في جانب التفكير: "إن النفس كالرحى الدائرة التي لا تفتر عن الطحن، فبعض الناس يطحن حبا فيخرج منه دقيق، وبعض الناس يطحن رملا وحصى، وعند الطبخ يتبين لكل إنسان ما طحنه"، فهذه النفس إما أن تقودك إلى الخير، وإما أن تقودك إلى الشر.
نَمِّ شعورك بالرضا بالله -عز وجل- حتى تقبل كل ما قدره -جل وعلا-، لا تكن في معزلٍ عن فعل الأسباب، يقول ابن القيم في حديث فيما معناه، يقول -رحمه الله-: "إذا أردت أن تفعل الشيء فعليك أن تأتي بالأسباب، كأن هذا الشيء لا يتحقق لك إلا بهذه الأسباب، ثم عليك أن تتوكل على الله توكلا كاملا، بحيث توقن بأن هذه الأسباب لن تغني عنك شيئا في تحقيق ما تريده".
لو أخفق الإنسان عدة مرات، لا تظنن أن الرقى إلى أعلى المراتب أتى هكذا، الله -جل وعلا-، ماذا قال؟ (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل:78].
لو أتيت إلى أفصح خطيب وأبلغ متحدث، أترى أنه خرج هكذا؟ كلا والله! والله إنك لو سبرت سيرته وحياته لوجدت فيها ضربات من الإحباط، ضربات متعددة من الفشل، لكنه لو استمر وانخرط وانحصر في هذا التفكير السيئ من أنه لو ارتقى منبرا يتحدث فيه لأخطأ مرة أخرى، لما أقدم مرة أخرى، لكنه إذا جعل هذا الأمر طبيعيا وأن الإنسان لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال، لا يمكن أن يكون على صواب دائما، وأن طبيعة ابن آدم إنما هي الخطأ والزلل، فإنه حينها يرتقي إلى أعلى ما يكون.
لكن؛ لو أن الإنسان ارتقى مثلا، بما أننا نتحدث في هذا المكان وفي يوم الجمعة وفي الخطابة، لو أن الإنسان ارتقى المنبر ثم أخطأ مرة، ثم تركه خيفة من أن يخطئ مرة أخرى، فإن هذا التفكير لا يزال معه، حينها لا يمكن أن يتحدث في يوم من الأيام في أي مجتمع من المجتمعات؛ ولذا لا ترى المُحبط إلا منغلقا لا يريد أن يخالط الناس، ولكن المسلم الواثق بالله -جل وعلا-، المحسن الظن بالله -جل وعلا-، هو الذي يعاود المرة بين الفينة والأخرى.
في الصحيح: "لما جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، إن في بطن أخي وجعا. فقال -عليه الصلاة والسلام-: "اسقه عسلا"، فذهب فسقاه فزاده استطلاقا ، فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: لم يزده يا رسول الله إلا استطلاقا، يعني: زاده إسهالا، فقال -عليه الصلاة والسلام-، انظروا إلى التكرار في العلاج، قال -عليه الصلاة والسلام-: "اسقه عسلا"، فذهب فزاده استطلاقا، فلما رجع في المرة الثالثة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا"، فسقاه عسلا، فشفاه الله -عز وجل-.
لا شيء مثل الإصرار، حياتنا هذه لو جعلنا التفكير فيها تفكيرا إيجابيا، تفكيرا قد احتوى على حسن الظن بالله -جل وعلا- والوثوق بموعوده؛ لأصبحت حياتنا حياة طيبة، نعم، قد يقول قائل: يصعب هذا الأمر، والله لا يصعب، مَنْ ابتلي بالوساوس في الوضوء أو في الصلاة إذا غسل عضوا ثم انتقل إلى العضو الآخر قال لم أغسله، هذا لما استرسل في التفكير السيئ وجعل نفسه محيطة به لم يخرج من هذا؛ بل إن هؤلاء ليزدادون يوما بعد يوم في هذه الوساوس التي ترديهم وتهلكهم؛ لكنه لو فكر بأن هذا ليس عليه أمر الله وليس عليه أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن المسلمين في عامتهم لم يقعوا في مثل هذا الأمر، وتوكل على الله، وإذا أتاه الشيطان وقال إنك لم تغسل يدك اليمنى وقد شرع في غسل يده اليسرى، فلا يلتفت إليه، وإنما يستمر، حينها ينجو.
النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل علاجا لهذا الأمر وهو ينصب على التفكير، في الصحيحين، قال -عليه الصلاة والسلام- في علاج وسوسة العقائد، وما عداها من باب أولى، قال -عليه الصلاة والسلام-: "لِيستعِذْ بالله، ولينْتَه"، ينتهي من ماذا؟ ينتهي من التفكير، ومن الاستمرار في هذا، قال: "ليستعذ بالله ولينته".
أناس مصابون بقلق، بتوتر، باضطراب في الأعصاب، سببه الإحباط، ما بريده؟ التفكير السيئ، تصور لو أنك عشت في حياتك، في يومك، ولم تشغل يومك بهموم غدك، البعض من الناس -نسأل الله العافية- يفكر بما سيكون في سنته القادمة، ويخشى أن ترد عليه هموم ومصائب في يوم غده! سبحان الله! قد لا تأتي غموم الغد، فحينها ضيعت سرور يومك، نعم.
ولا تظنن بربك إلا كل خير *** فإن الله أولى بالجميل
يا صاحب الهم إن الهم منفرجٌ *** أبــشر بخير فإن الفارج الله
اليأس يقطع أحيانا بصاحــبه *** لا تيأســن فإن الكـافي الله
إذا بليت فثـق بالله وارض به *** إن الذي يكشف البلوى هو الله
والله ما لك غيـرُ الله من أحد *** فحــسبك الله في كلٍ لك الله
اقرأ ما ذكره الله -جل وعلا- عن واقع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- مع أممهم، هل أصيبوا بالإحباط؟ لا والله.
ولذا؛ لو أن الإنسان عاش في حياته وفي يومه يمكن للإنسان أن يتخلص من التفكير السيئ، قد يقول: إن الأمر صعب! لا، ليس صعبا، إذا عالجت نفسك في غضون عشرة أيام بإذن الله -تعالى- تتخلص من كل مشكلة ترد عليك، فكر في نفسك، فكر في يومك، إذا جاءك الشيطان بواردٍ يخرجك عن سعادتك في يومك فعد مرة أخرى إلى يومك، إلى حياتك، لا تسترسل معه، حينها -والله وبإذن الله وتالله- لو استمر عشرة أيام أو أقل منها بقليل أو أكثر منها بقليل فإن هذه الهموم تضمحل منه.
ولو عاش الإنسان في يومه وفي ساعته فلتعلم أنه حينما ينام لن يتعرض لأحلام مزعجة، البعض من الناس يقولُ أَقرأُ الأوراد الشرعية، أنا مريض أتعاطى الأسباب الشرعية ولكنها لم تنفع، نقول: أنت أتيت بالسبب؛ لكنك لم تنف عنك المانع، ما هو المانع؟ هذا التفكير!.
تصور لو أن الإنسان عاش في يومه، إذا نام -والله- ينام وهو مطمئن، وتكون ساعات نومه ساعات مريحة، وإذا استيقظ فإنه يجد خفة في رأسه، لأن كثيرا من الناس حينما يستيقظ من نومه يرى رأسه كأنه جبل لا يستطيع أن يحمله، بل إنه لو تكلم معه إنسان بأدنى كلمة ثارت ثائرته؛ نتيجة ماذا؟ نتيجة الأفكار الشديدة السيئة التي يحملها في ساعات يومه.
ماذا قال -عز وجل-؟ (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هود:9-10]، ما الذي بعدها؟ (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ)، في كثير من الآيات يجمع الله -جل وعلا- بين الإيمان والعمل الصالح، هنا جمع بين الصبر والعمل والصالح؛ لأن المقام مقام التذكير بالصبر: (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [هود:11].
الحزن يؤثر في أغلى ما تملكه يا ابن آدم، التفكير يؤثر، قال -تعالى-: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف:84]، ذهب نور عينيه من الحزن، لكنه يحمل قلبا مطمئنا بالله -جل وعلا-، ماذا قال بعدها؟ (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87]، لماذا؟ اليأس من رَوح الله كفر؛ لأنه أنكر قدرة الله -عز وجل-.
ثم إذا يئست -عبد الله- من رحمة الله، من خير الله، من موعود الله؛ فماذا يبقى لك؟ والله لا يبقى لك إلا الشقاء! (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس:32].
النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب أروع الأمثلة فيما يتعلق بالتفاؤل، بعزة النفس، بالوثوق بها، لكن هذا الوثوق مربوط بثقته بالله -جل وعلا-، في سنن الترمذي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا، ولواء الحمد بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، ولا فخر". لم يقل هذا افتخارا، وإنما قال ذلك ثقة بالله -جل وعلا-.
اليأس قد يردي الإنسان إلى الكفر بالله -عز وجل-، في الصحيحين، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن رجلا حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبا كثيرا، وأوقدوا فيها النار، ثم ضعوني فيها، فإذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فاطحنوها، ثم انظروا يوما راحاَ –يعني: شديد الريح-، ثم ذروني في اليم، فوالله! لئن قدر الله عليّ ليعذبني"، شك في قدرة الله -عز وجل-، "فلما بعثه الله -جل وعلا- قال: ما حملك؟ قال: مخافتك يا رب، فغفر الله له"، لماذا غفر الله له؟ لأنه جاهل، لو كان عالما لكان من المخلدين في نار جهنم؛ لأنه أنكر قدرة الله -عز وجل-.
لنبعث الأمل في النفوس، لنبعث الثقة في النفوس بعد الثقة بالله -جل وعلا-، في حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لما خلق الرحمة خلقها مائة رحمة، فأبقى عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل رحمة واحدة في خلقه كلهم، فلو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة لم ييأس من جنته، ولو يعلم المؤمن ما عند الله من العذاب ما أمن من ناره".
تتعب نفسك من أجل الرزق؟ قد تُكفِّل لك بهذا! دخل صحابيان، كما في سنن ابن ماجة، على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما"، متى تقف الرؤوس عن الاهتزاز؟ إذا مات ابن آدم، لكن؛ بما أنها تتحرك فهذا كناية عن الحياة، قال: "لا تيئسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما؛ فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قِشْرٌ، ثم يرزقه الله -عز وجل-".
كنا نسمع فيما مضى بأن الانتحار موجود في الدول الكافرة نتيجة بعدهم عن الله -جل وعلا- وعن منهجه -سبحانه وتعالى-، لكننا بدأنا نسمع الآن أن هناك انتحارات حصلت في بلدان المسلمين وهم بين المسلمين؛ نتيجة ماذا؟ نتيجة الإحباط، نتيجة التفكير السيئ.
نعم، النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: كان هناك رجل قد أبلى بلاء حسنا في المعركة، فلما مر على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا"، فتبعه رجل، وقد أبلى هذا الرجل بلاء شديدا في المعركة، فلم يزل على ذلك حتى جُرح هذا الرجل، فلم يتحمل، نسأل الله العافية، فماذا صنع؟ "أخذ بذُبَابة سيفه"، يعني: بحده، "ووضعه بين ثدييه، فتحامل عليه حتى خرج من بين كتفيه"، نتيجة ماذا؟ نتيجة التفكير السيئ. لكن لو هناك تفكير إيجابي بأن هناك رحمة من الله -عز وجل- ما أقدم على هذا الفعل.
ولذا؛ النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه-، ماذا قال؟ قال: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا محالة فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً".
ابن مسعود -رضي الله عنه-، كما في مصنف عبد الرزاق، جمع بين القنوط من رحمة الله وبين الشرك بالله، لم؟ لأن القنوط من رحمة الله وسيلة من وسائل الكفر بالله -عز وجل-، قال -رضي الله عنه-: "أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله".
دع المقادير تجري في أعنتها *** ولا تبيتن إلا خالي البال
والله! إن الدنيا أقصر من أن تقصرها، والله إنها لقصيرة، والله! لا تستحق هذه المكانة، هي قصيرة وتقصرها على نفسك؟!.
دع المقادير تجري في أعنتها *** ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين غمضة عين وانتباهتها *** يغير الله من حالٍ إلى حال
والله إني لأعلم أناسا على فراش المرض، بل يقال إنهم على فراش الموت، وأنا لا أنقل وإنما شَهِدت هذا لأناس أعرفهم ومقربون إليّ، والله إنه لننتظر أن يرن الهاتف حتى يقال صلُّوا على فلان أو على فلانة، قد يئسوا منها أو يئسوا منه، ثم ما هي إلا قراءة القرآن مع الوثوق بالله -عز وجل- وإذا بمَنْ فيه مرض مستعص كـسرطان أو تليف كبد أو ما شابه ذلك، إذا به يعود إلى حياته الطبيعية، وإني لأعلم أناسا قد أصيبوا بأمراض فتاكة منذ سبع أو ثمان سنين وبعضهم أعلمه من خمسة عشر عاما وقد أصيب بـالسرطان وشفاه الله -جل وعلا- وهو يعيش الآن حياة طيبة، ولكن، والله، لا أرى هذا الرجل حينما أراه إلا وأراه رجلا سعيدا واثقا بالله -عز وجل- لم يشغل نفسه بهذا المرض؛ لأنه يعلم أن مَنْ أنزل هذا المرض قادر على أن يرفعه وهو الله -سبحانه وتعالى-.
وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصولٌ بها الفرج القريب
(سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق:7]، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح:5-6]، "لن يغلب عسر يسرين".
فالإحباط -عبد الله- يدخلك في يأس من رحمة الله، يقلل إنتاجك، أعرف أشخاصا عندهم من القدرة ومن الإمكانيات ما يكونون من أبرع الناس، ولكن بسبب الإحباط قل إنتاجهم، بل إنه حرم نفسه من أن يكون نابغة ورجلا مجدا.
والإحباط -عباد الله- يُقدِّم مَنْ لا يستحق في المجتمع على مَنْ يستحق، وهو دليل على ضعف الإيمان، وسوء الظن بالله -عز وجل-، وعلامة على ضعف الهمة، وفقدان الشخصية.
وبالإحباط تسود الكراهية في المجتمع، لا ترى المحبط إلا كارها للمجتمع، بل إنه ربما لو قيلت له كلمة لظن أن هذا الرجل أراد به سوءا، ولذلك على هذا الرجل -بل علينا جميعا- أن تكون عندنا مقبرة جاهزة لدفن مساوئ الناس حتى نرتاح.
ثم، كما يقال: "مَنْ أراد أن يعيش طويلا بإذن الله -عز وجل- فليرح نفسه ولا يبالي بما يحصل به"؛ لأن البعض من الناس يغضب لكل حادثة ولكل فعل، كأن هذا المتحدث أو كأن هذا الفاعل كأن قوله وفعله صادر من الشرع، كلا، قد يكون على خطأ، فبعض الناس لا تهدأ له هادئة، يغضب لأي سبب.
سبحان الله! تجد هذا الرجل المحبط غير هادئ في حياته؛ نتيجة أن كل موقف يمر عليه يجعله رجلا مغضبا، مع أنه لا يستحق هذا، ولذا يقولون: "إن كل دقيقة من الغضب تقربك إلى الشيخوخة".
إذا أردت أن تكون شيخا هرما: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) [يس:68]، فينعدم عقله، إذا أردت أن تقرب من الشيخوخة فعليك أن تغضب باستمرار، لكن؛ ماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك الرجل؟ قال: أوصني، قال: "لا تغضب"، قال: أوصني، قال: "لا تغضب"، قال: أوصني، قال: "لا تغضب".
في زيادة أخرى يحسنها الألباني قال -عليه الصلاة والسلام- في الثالثة: "لا تغضب ولك الجنة".
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله، هناك بعض التوصيات الخفيفة من بينها: إذا لم تكن جزءا من الحل لحلول مشاكلك فأنت جزء من المشكلة، أنت بنفسك إما أن تكون حلا لمشكلتك وإما أن تكون جزءا لمشكلتك، إن فكرت في حياتك تفكيرا سلبيا فيما يأتي فلتعلم أنك جزء من المشكلة، وإذا فكرت تفكيرا إيجابيا قد اشتمل على حسن ظن بالله -جل وعلا- فأنت جزء من الحل لمشاكلك.
ثم عليك أيها المحبط أن تبتعد عمن يقلل من قدرك ومكانتك، وعليك أن تشعر بأنك قادر على أن تنجز أي عمل تقوم به إذا فعلت السبب، فتوكل على الله -عز وجل-، ولو صادفك الفشل فإنك وإن رأيت النبغاء ورأيت الموهوبين ورأيت أعالي الناس فإنهم لم يأتوا من حينها أو على صدفة، وإنما أتوا بعد أن أصيبوا بأنواع من الفشل والإحباطات.
ثم عليك ألا تهدم سعادتك بهموم مستقبلك. ثم لتعلم أن كل شخص يمر عليك قد أصيب ببلايا، وأنه يحمل هموما، يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في زاد المعاد: "لتعلم أن كل شخص في هذا الحياة مصاب، إما بفوات محبوب أو بحصول مكروه".
ثم عليك أن تضبط نفسك، وأن تثق بها بعد الاعتماد على الله -جل وعلا-، حينها لو مارست أي عمل ترى أن الخير لك فيه، فلتعلم أن النجاح سيصادفك بإذن الله من حيث لا تحتسب، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]، ما الذي بعدها؟ (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ). هناك وقت حدده الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ)، ما الذي بعدها؟ (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق:3].
ثم عليك أن تسقط أي انفعال سلبي يكون في حياتك.
ثم عليك ألا تعتذر بالظروف، والله لا أتمكن من هذا ولا أستطيع أن أتحصل عليه، كلا!.
ثم عليك أن توقن بأن عملا واحدا تنجزه خير من جبال من الأحلام، المفكرون الذي يفكرون في همومهم هؤلاء عندهم جبال من الهموم من الأفكار..
ثم لتعلم أن المحن والمصائب إذا لم تذر عليك شيئا من أولادها فإنك لن تصل إلى النجاح إلا أن يشاء الله -عز وجل-، فلا تكن متشائما، فإن المتشائم يعتقد بأن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، أما المتفائل فهو الذي يعتقد أن هذه الريح ستهدأ في يوم من الأيام مع الإصرار والتوكل على الله -عز وجل-.
نحن نعيش حقيقة في هموم متتابعة، ولا نغالط أنفسنا، كلٌّ -إلا ما رحم ربي- يعيش هذا الأمر.
خلاصة القول، وعودا على ذي بدء، الشيء الذي تملك السيطرة عليه، والذي تسعد أو تشقى به، هو تفكيرك؛ إن فكرت تفكيرا خيِّرا فلتعلم أن السعادة قد توطنت في بيتك وفي نفسك، وإن فكرت تفكيرا سليبا فلتعلم أن الشقاء قد حل بنفسك وبدارك.
التعليقات