اقتباس
ففرِّق -أخي الخطيب- بين المنهج وبين الأشخاص على جبهتين: الأولى: صُنْ المنهج الحق، ولو اضطررت أن تخطِّئ -في أدب- بعض رموزه؛ لئلا تلتصق أخطاؤهم بالمنهج الحق. والثانية:...
أخي الخطيب: يُطلق مصطلح "الموضوعية" ويراد به معانٍ عدة، يهمنا منها الآن معنيان:
الأول: "أن تصدر أحكامك على الأشياء منزهة عن أهوائك وميولك الشخصية غير النابعة من دينك وعقيدتك"؛ فالحسن ما حسَّنه الشرع ولو كان على خلاف هواك، والقبيح ما قبَّحه الشرع ولو استحسنه هواك.
وفي المعاجم اللغوية: الأمر الموضوعي "ما هو مجرد عن غاية شخصية، وعكسه: ذاتي، والموضوعية: الحيادية وعدم التحيز"(1).
ومرجعنا في هذا المعنى هو كتاب الله الكريم الذي يقول: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)[الأنعام: 152]، ويقول: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة: 8]، فلا القرابة تحملنا أن ننحاز له، ولا العداوة تحملنا أن نتحيز ضده.
والمعنى الثاني: أن تركز في خطباتك على موضوع واحد، وتحذر أن تُستدرَج بعيدًا عنه فتتشعب في موضوعات شتى، لذا فقد عرَّفوا الغير موضوعي بأنه: "الخارج عن محور البحث"(2) (3).
ولكي تكون خطيبًا أمينًا ومؤثرًا ومقنعًا لا بد أن تتوافر فيك الموضوعية بمعنييها السابقين، وأقدم لك -أخي الخطيب- استراتيجية محددة البنود تعينك أن تكون موضوعيًا، وهاك بعض بنودها.
البند الأول: إياك أن تحيد عن هدفك:
أيها الخطيب اللبيب: إذا أخذت على عاتقك اقتلاع عادة خاطئة متجذرة في مجتمعك من خلال خطبك ودروسك، فإياك إياك أن يتحول الأمر إلى معركة شخصية مع هؤلاء الذين يدافعون عن تلك العادة وينافحون عنها، بل كن متيقظًا واعيًا حذرًا من ذلك، فكلما حاولوا جرَّك بعيدًا عن هدفك فتشبث به وعض عليه بنواجذك.
وتعالوا ننظر إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم- كيف ركز على هدفه وتغاضى في سبيل إنجازه عن كل العوارض، فيوم صلح الحديبية: "جاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابًا فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- الكاتب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بسم الله الرحمن الرحيم"، قال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما أدري ما هو! ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اكتب باسمك اللهم"، ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله"(4).
فالله -عز وجل- هو الرحمن وإن لم يُكتب ذلك في الوثيقة، المهم أن تُكتب الوثيقة فتُحقن الدماء، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- هو رسول الله وإن لم يُكتب ذلك في الوثيقة، المهم أن تُكتب الوثيقة... لقد كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هدف محدد، فلم يسمح لشيء أن يبعده عنه.
وهو ما فعله أيضًا نبي الله موسى -عليه السلام- في حواره مع فرعون؛ فأجابه لما قال: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)، وتجاهله لما (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ) فلم يجبه، بل ركز على قضيته قائلًا: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)، ولما سبه قائلًا: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)، تجاهله أيضًا وقال كأنه لم يسمع سبابه: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)؛ لأن هذه هي قضيته وهدفه.
وربما سأل سائل: فلما أجابه لما قال: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)[الشعراء: 23-29]، ونجيب: ما رد عليه إلا لأنه لو سجنه لحال بينه وبين هدفه في دعوة الناس إلى ربه.
وحاذر كذلك -أخي الخطيب- أن يستدرجك أحد في خصومة أو نزاع فتتنزَّل إلى مستواه، فتصعد المنبر مفعمًا بالرغبة في الانتقام أو منتصرًا لرأيك الشخصي، بل ركز على هدفك الدعوي وامض على خطتك الخطابية، ولا تزغ عنها يمينًا أو شمالًا.
البند الثاني: المنهج لا الأشخاص:
أقولها لك -زميلي الخطيب- بتعبير هذا العصر: "لا تُشَخْصِن الأخطاء والخلافات"، بل إذا رأيت خطأً وأردت انتقاده على منبرك، فانتقد المنهج ولا تتعرض للأشخاص ما استطعت، فإذا تكلمت عن الصوفية -مثلًا- فبيِّن أخطاء منهجهم كطواف بعضهم بالقبور والتوسل بالأموات ودعائهم ما لا ينفعهم... ثم لا تذكر أسماء أحد منهم ما لم تكن ضرورة لذلك؛ فليس بينك وبين من تُشهِّر باسمه مشكلة شخصية، وإنما النزاع مع ما يعتنقونه من منهج باطل.
ولقد كان هذا هو منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- وديدنه في الغالب الأعم؛ أن يهاجم الخطأ ليصلحه ولا يذكر اسم المخطئ، فنحفظ عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليس في كتاب الله"(5)، وقوله: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم"(6)، وقوله: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه"(7)، فالمهم تصحيح الخطأ ولن يفيد التشهير بمن وقع في الخطأ.
والعكس بالعكس أيضًا؛ فإذا اتبعت أنت المنهج الحق، فليكن تعلقك وانتماؤك وولاؤك لذات المنهج لا لشيوخه ولا لزعمائه، بحيث لو مات الشيخ أو أخطأ أو انتكس وفُتن -لا قدر الله- لا تنتكس أنت ولا تفتتن تبعًا له، بل تثبت على منهجك الذي ارتضيته ثبات الجبال الراسيات، وما أتينا بهذا إلا من كتاب الله -عز وجل-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)[آل عمران: 144].
ولما قال الحرث بن حوط لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ أجابه: "يا حارث إنه ملبوس عليك؛ إن الحق لا يعرف بالرجال أعرف الحق تعرف أهله"(8).
وقرأ ابن القيم كلامًا للإمام الهراوي -رحمهما الله- فوقف فيه على زلة فقال: "شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم -صلى الله عليه وسلم- فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه"(9)، ثم انطلق يوضح أخطاءه ويصححها.
بل هذا القرآن الكريم يتنزل ليُصوِّب ويصحح أمورًا وقع فيها أشرف الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أمرنا بتوقيره، فنسمع القرآن يقول: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)[عبس: 1-3]، ويقول: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)[التحريم: 1]، ويقول: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)[الأحزاب: 37]، وما كل ذلك إلا ليعلمنا القرآن أن المنهج أهم من الأشخاص ولو كان شخص النبي المرسل الذي جاءنا بالإسلام -صلى الله عليه وسلم-، فلأنْ يعاتب -صلى الله عليه وسلم- خير من أن يلتصق ما صنعه بالمنهج فيكون دينًا وإسلامًا يُقتدى ويُحتذى به فيه.
ولأن المنهج أهم من الأشخاص، فإننا مأمورون أن نسمع ونطيع لمن أقام فينا شرع الله -عز وجل- مهما كان تواضع أصله وجنسه ولونه... فرسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أمر عليكم عبد مجدع -أسود- يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا"(10)، وعند الترمذي: "ما أقام لكم كتاب الله".
ولما افتتن بعض الناس بانتصارات خالد والمثنى -رضي الله عنهما- خشي الفاروق عمر من تعلق الناس بهما فعزلهما؛ ليتعلق الناس بالمنهج لا بالأشخاص، قائلًا: "لأنزعن خالدًا ولأنزعن المثنى حتى يعلما أن الله ينصر دينه، ليس إياهما"(11)، ولقد صرَّح عمر -رضي الله عنه- قائلًا: "إني لم أعزل خالدًا عن سخطة ولا خيانة؛ ولكن الناس فتنوا به، فخشيت أن يوكلوا إليه ويبتلوا، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع"(12).
ففرِّق -أخي الخطيب- بين المنهج وبين الأشخاص على جبهتين:
الأولى: صُنْ المنهج الحق، ولو اضطررت أن تخطِّئ -في أدب- بعض رموزه؛ لئلا تلتصق أخطاؤهم بالمنهج الحق.
والثانية: هاجم المنهج الباطل وافضح عواره، ولا تتعرض لرموزه -إلا لضرورة-؛ لئلا يتحول الأمر إلى معركة شخصية، فخلافك ليس مع أشخاصهم بل مع منهجهم، اللهم إلا إن روجوا لباطلهم ودعوا إليه وخشيت أن يفتتن الناس بدعوتهم، فآخر الدواء الكي.
------------------
(1) معجم اللغة العربية المعاصرة، د أحمد مختار عبد الحميد وفريقه (3/2457-2458) بتصرف، ط: عالم الكتب.
(2) المصدر السابق (3/2457).
(3) وللموضوعية معنى ثالث لا نريده، بل نعارضه ونخطئه؛ وهو: أن يتخلى الإنسان في حكمه على الأشياء عن كل وجميع المؤثرات كتعاليم دينه وعقيدته وهويته وأشياء كثيرة مما لا يمكن التخلي عنه ولا تجاهله ولا استبعاده! بل إن المسلم مطالب بعكس ذلك؛ مطالب أن ينطلق في أحكامه من منظور دينه وهويته الإسلامية القرآنية.
(4) البخاري (2731).
(5) البخاري (456)، ومسلم (1504).
(6) البخاري (750).
(7) البخاري (6101)، ومسلم (2356).
(8) تلبيس إبليس، لابن الجوزي (ص: 74)، ط: دار الفكر لبنان.
(9) مدارج السالكين، لابن القيم (2/38).
(10) مسلم (4).
(11) مصنف ابن أبي شيبة (33842)، ط: مكتبة الرشد - الرياض.
(12) كنز العمال، للمتقي الهندي (13/368-369)، ط: مؤسسة الرسالة.
التعليقات