اقتباس
إن لم تستطع تغيير نبرة صوتك بما يلائم كلماتك وموضوعك فأنت ممل... وإن كان أسلوبك عند الترهيب هو نفسه أسلوبك عند الترغيب فأنت ممل... وإن لم ترفع الصوت حينًا وتخفضه حينًا بما يناسب الأحوال فأنت ممل... وإن لم يحمر وجهك وتنتفخ أوداجك...
تحذير مباشر من أم المؤمنين عائشة إلى كل خطيب، تقول فيه: "إياك وإملال الناس"([1])... وأنا أكتب هذه الكلمات اليوم تحذيرًا من ذلك... وكي أكون أول من يطبق ما يأمر به؛ فأهجر الرتابة والإملال، فإنني أحاول اليوم تغيير طريقة العرض؛ فأُعَدِّد عليك البنود طالبًا منك -لا أن تطبقها- بل أن تتجنبها، وتحذرها، وتفعل ضدها ما استطعت؛ "كي لا تكون مملًا".
فأتخيل الآن تخيُلًا: لو أن خطيبًا أرد أن يكون مُملًا مُضجِرًا منفِّرًا... فاستشارني: ما عساه أن يفعل ليحقق ذلك؟! فسأشير عليه بالطرق التالية:
الطريقة الأولى: احفظ اللوازم الطويلة وأكثر ترديدها:
إن أكثر ما يصرف الناس عن الخطيب ويكَرِّههم في حضور خطبته هو أنهم لا يستفيدون منه جديدًا، هو أنه مكرِرٌ نمطي يلقي ما يحفظه ويألفه، ويعيد ما يستظهره سامعوه عن ظهر قلب، فللأسف إن بعض الخطباء يحفظ لوازم معينة قد ملَّها السامعون وضجروا منها حتى صاروا لا يلتفتون إلى معانيها وإن أتقنوا ألفاظها ومبانيها! فما أن يبدأ في سردها إلا وينفصلون عنه وجدانيًا وشعوريًا! ولعل هذا ما قصده الإمام الزهري حين قال: "نقل الصخر أيسر من تكرير الحديث"([2]).
وأخاف أن أضرب بعض نماذج وأمثلة فتكون في بيئة من البيئات مشوقة ملهمة، أو يكون بعض الخطباء لا يقولها ولا يرددها على مسامع جمهوره إلا نادرًا... لكن دعوني أتذكر ما كنت أسمعه دائمًا من خطيب مسجدنا وأنا صغير حتى حفظته عنه بل حتى مللت سماعه منه -على الرغم من روعته-، فكان كلما بدأه استغرقتُ في "غفوة" أو "سِنة" حتى ينتهي منه، فمما أتذكر:
قوله عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "زكى الله لسانه فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)[النجم: 3]، وزكى صدره فقال: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)[الشرح: 1]، وزكى فؤاده فقال: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)[النجم: 11]، وزكى خلقه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4]..."، فما أجمل أن يمدح الخطيبُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، أما ما ليس بجميل فهو: ألا يمدحه إلا بهذه الكلمات وحدها دون سواها، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- ليس له من الأوصاف إلا هذه!
ومنه قوله: "أخوتي في الله" أكثر من خمسين مرة -بلا مبالغة- في الخطبة الواحدة، ولو نوَّع نداءاته، فقال مرة: "أيها المسلمون"، ومرة: "الأحباب الكرام"، وأخرى: "أيها المؤمنون"... لكان أليق وأبعد عن الإملال.
ولقد قالوا: "كثرة المساس تُفقِد الإحساس"، فمهما كانت لازمتك التي تحفظها مؤثرة معبِّرة، فإنك تحتاج من حين لآخر إعادة نظمها وسبكها واستبدال ألفاظها، أو التركيز على أولى منها؛ حتى لا تسبب الملالة للسامعين([3])، ولعل هذا ما عناه الزهري -أيضًا- بقوله: "أحمضوا -أخلطوا- الحديث بغيره حتى تنفتح النفس"([4]).
وننبه هنا أنه ليست كل لازمة مملة، بل إن استخدام لوازم قصيرة تتكرر في خطبة واحدة بين ثناياها أو عناصرها، لهو أسلوب جميل رائع يثمر التأكيد والترسيخ([5])... وهذا بعكس اللوازم الطويلة التي يكثر الخطيب من تكرارها في جميع خطبه بمناسبة وبغير مناسبة -بلا تغيير- مستغنيًا بها عما لا تُغني عنه.
الطريقة الثانية: كن رتيب الصوت على وتيرة واحدة:
ولتكن نبرة صوتك عند افتتاح خطبتك هي نفسها في جميع عناصرها، والتزم الهدوء وخفض الصوت عند الزجر عن المعاصي أو الترهيب من النار أو عند وصف نعيم الجنة... فإن فعلت كنت مريحًا جدًا لمن يسمعك؛ فإنك ستوفر له الجو المثالي للنوم العميق تاركًا إياك وما تقول!
أيها الخطيب: إن لم تستطع تغيير نبرة صوتك بما يلائم كلماتك وموضوعك فأنت ممل... وإن كان أسلوبك عند الترهيب هو نفسه أسلوبك عند الترغيب فأنت ممل... وإن لم ترفع الصوت حينًا وتخفضه حينًا بما يناسب الأحوال فأنت ممل... وإن لم يحمر وجهك وتنتفخ أوداجك وأنت تحذَّر من فاجعة أو كارثة فأنت ممل... وإن لم يترقرق صوتك وتنساب كلماتك وتمتلأ عيناك بالدموع وأنت تتحدث عن مأساة "إنسانية" فأنت ممل...
إن لم تُشعِل القلوب حينًا بالغضب، ثم تزلزلها حينًا بجبال المواعظ، ثم تبكيها حينًا بالندم على التفريط، ثم تأسرها حينًا بجمال التعبير وروعة الأداء فأنت ممل...
ولعلي لست بحاجة أن أذكِّر بكلمات جابر -رضي الله عنه-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: "صبحكم ومساكم"([6])، وعن ذلك يقول النووي: "يستدل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة ويرفع صوته ويجزل كلامه، ويكون مطابقًا للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب أو ترهيب، ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمرًا عظيمًا وتحديده خطبًا جسيمًا"([7]).
الطريقة الثالثة: حدثهم عن ما لا يعنيهم:
فإن كان جمهورك من السذج البسطاء الأميين فحدِّثهم عن العولمة والتنوير والنظم السياسية والاقتصادية وعن المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط... وإن كانوا من الريفين أو الحرفيين فحدثهم عن الحروب البيولوجية والتنمية المستدامة والبناء الفكري... وإن كانوا من المتعلمين المثقفين فحدثهم عن دورات الري وكيفية حلج الأقطان والعناية بالزراعة...
باختصار: اختر مواضيع لا تناسب أحوالهم، وانفصل بخُطبك عن واقعهم... فقط اصنع ذلك، وأنا أضمن لك أن يتركوك ويهجروك ويملُّوك وبكل قبيح يرموك!
إن حديثك لأناس فيما لا يهمهم ولا يناسبهم فتنة لهم؛ فأنت -أخي الخطيب- تمثل لهم دين الله، وحديثك -عندهم- هو الدين نفسه، وحين لا يفهموك ويملوك ينطبع في أذهانهم إن هذا من طبيعة الدين؛ "ممل، ولا يكاد يُفهم"! -حاشا لله-.
وإنك -أيها الخطيب- إن علمت ما يهتم به جمهورك فقد علمت من أين تؤكل الكتف، إنك إن أدركت المواضيع الذي تهمهم، والأمور التي تشغل بالهم، والأمنيات التي يتمنونها، والمخاوف التي يحذرونها، والمشكلات التي يعانون منها... فإن كلامك سيصيب الهدف ويأتي على الجرح ويجذب الانتباه ويشد الأسماع ويحظى بالقبول عندهم... والعكس بالعكس.
الطريقة الرابعة: أطل خطبتك وأكثر كلامك:
فإنك أنت البليغ الذي لا بليغ سواه، والفصيح الذي سوف تتيتَّم من بعده الفصاحة وتتأيم!... فتكلم كيف شئت وأطل حسبما أردت، وعلى الناس أن يسمعوك ويسعدوا بك ويشيدوا بروعة بيانك!...
عزيزي الخطيب: إن كان عندك شيء من هذا -وأعيذك- فأنت واهم مخدوع؛ فإن آلافًا من البشر يجيدون الخطابة ويتقنونها إتقانًا، وهم مع ذلك لا يطيلون خشية الإملال، بل هذا سيد الخطباء -صلى الله عليه وسلم- يتحاشى أن يوقع صحابته في الملل، فعن ابن مسعود، قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهة السآمة علينا"([8])، وما زال ذلك ديدن ابن مسعود نفسه طوال حياته، ففي الصحيحين: كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟ قال: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم...".
ومثله كان يصنع عمار مقتديًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ، فعن أبي وائل قال: خطبنا عمار فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست، فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا"([9]).
ومن خطورة التطويل: "تبغيض الله إلى عباده"، كما قالها الفاروق عمر: "أيها الناس، لا تبغضوا الله إلى عباده"، قالوا: وكيف ذاك أصلحك الله؟ قال: "يكون أحدكم إمامًا فيطول على القوم حتى يبغض إليهم ما هو فيه، ويقعد أحدكم قاصًا [واعظًا] فيطول على القوم حتى يبغض إليهم ما هم فيه"([10]).
والخطباء المحترفون يقولون: "اترك الناس قبل أن يتركوك"؛ يقصدون: غادر المنبر والناس متشوقون إلى حديثك يتمنون أن تستمر فيه، ولا تطل عليهم حتى يملوا فيتركوك بعقولهم إلى أودية دنياهم.
والسؤال الآن: ما هي المدة المناسبة للخطبة؟ أنصف ساعة أم ساعة، أم أقل أم أكثر؟ والجواب: أن هذا شيء متروك تقديره إلى للخطيب وهو فوق منبره؛ فهو يتطلع إلى جمهوره فإن رآهم مقبلين قد صوبوا نحوه أنظارهم وفتحوا لهم عيونهم وتجاوبوا معه؛ فإذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ارتج المسجد بصلاتهم عليه، وإذا سألهم سؤالًا: من الذي لا يغفل ولا ينام؟ فأجابوا في صوت واحد: الله... إن رأى الخطيب ذلك واصل حديثه.
أما إن رأى منهم انصرافًا وتململًا، أو رأى من يتثاءب أو يرتكن إلى أحد الأعمدة فينام... أو كان الجو حارًا والمسجد متكدسًا، أو خشي على من يصلي خارج المسجد من مطر أو برد أو لفحة شمس... فعليه إن يطوي الحديث طيًا وينتهي منه بأسرع ما يمكنه، يقول ابن مسعود: "حدث القوم إذا أقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم"، قيل: وما علامة ذلك؟ قال: "إذا حدثوك بأبصارهم فقد أقبلت عليك قلوبهم، فإذا اتكأ بعضهم على بعض وتثاءبوا فلا تحدثهم"([11]).
الطريقة الخامسة: اخطب من ورقة:
إذا أردت أن تفقد كل حماسة فاخطب من ورقة... وإذا أردت بعث الملل والضجر والسأمة في نفوس مستمعيك فاقرأ من ورقة... وإذا أردت سلوك طريق الفشل الخطابي فأمسك بالوقة...
إني لا أُسمِّي من يقرأ من ورقة على المنبر: خطيبًا، وإنما هو محاضر أو محاور أو أي شيء آخر غير أن يكون خطيبًا، وإني أرى أن قراءة الخطبة من ورقة ينافي بشدة مهارة التأثير في الجمهور، ويناقض كذلك روح الحماسة ويخل بالصدق في التعبير...
وأين سيكون نظر عيني الخطيب أثناء خطبته؟ أعلى الورقة التي يخشى أن تضيع منه سطورها، أم إلى عيون جمهوره؟! وأين التواصل البصري بينه وبين مستمعيه؟! ولطالما كنا ننصح الخطباء قائلين: لتُشعِر كل واحد من جمهورك أنك تنظر إليه هو دون سواه من خلال نظرات عينيك، فكيف يكون ذلك وعيناه منصبتان على ورقاته؟! وكنا كذلك نعيب على من يتهرب بنظره أن يلتقي بعيون جمهوره، فكيف وهو لا يستطيع النظر إليهم أصلًا؛ لتركيزه على ما يقرأ من كلمات؟!
والمعلوم أن أروع الخطب التي نُقلت إلينا عبر العصور كانت ارتجالًا، ومن المعلوم أيضًا أن خطباء الجاهلية ثم خطباء الإسلام في العهود الأولى وإلى عهد قريب كانوا يخطبون ارتجالًا، وما ظهر "خطباء القراءة من الأوراق" إلا حين ضعُفت الملكات وأصاب اللسان العي والحصر.
تقول: إن الورقة مفروضة على الخطباء في بعض الدول! أقول: في هذه الحالة لتحضر خطبتك تحضيرًا جيدًا، ثم لتخطبها في بعض مقربيك بلا ورقة، وتسجلها، ثم تفرغ هذا التسجيل على ورق، ثم تستعين بهذا الورق -الذي أضفينا عليه بهذا العمل بعضًا من الواقعية- في خطبتك.
وبدون ذلك تبقى الخطبة من الورقة -في نظري- باهتة مملة خائرة متميعة المعالم مسلوبة الروح منزوعة الإحساس والمشاعر مشوهة الوجدان خالية من الصدق... ويبقى قائلوها "أشباه خطباء" أو "أنصاف خطباء".
([2]) الآداب الشرعية، لابن مفلح (2/99)، ط: عالم الكتب.
([3]) قد عرضنا العديد من الوسائل التي بها تكرر المهمات دون أن تتسبب في ملل المستمعين، وذلك في مقال تحت عنوان: "تكرار المعاني دون تكرارها"، وهذا رابط:
([4]) الآداب الشرعية، لابن مفلح (2/99).
([5]) وهذا ما مدحنا به الشيخ علي القرني في مقال مكون من جزئين تحت عنوان: "تجربة الشيخ علي بن عبد الخالق القرني الخطابية"، وهذان رابطاهما:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
([7]) شرح النووي عل صحيح مسلم (6/155 ـ 156)، ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
([8]) البخاري (68)، ومسلم (2821).
([10]) البيهقي في شعب الإيمان (7788).
التعليقات
بدر آل برجس
13-09-2020جميل جميل … أحسن الله إليك كما أحسنت إلينا بهذه السطور … وننتظرُ بشوقٍ الجزء الثانيّ من المقالة !