اقتباس
دائمًا وأبدًا نؤكد أن الكلام إذا صادف محله من القلوب نفع أيما نفع، وأن من صفات الخطيب الناجح أن "يهتبل الفرص" وأن "يحوِّل المحنة إلى منحة"... وتجرؤهم على نبينا -صلى الله عليه وسلم- فرصة سانحة لخطبائنا لترسيخ كثير من الثوابت في قلوب المسلمين...
إنهم حين يهاجمون نبينا -صلى الله عليه وسلم- فإنهم لا يقصدون شخصه؛ فما رأوه ولا كانت بينهم وبينه -صلى الله عليه وسلم- عداوة شخصية، وإنما سبهم وعداوتهم وبغضهم هو في الحقيقة موجَّه إلى دين الإسلام وشريعته، لذا فإننا حين نذود وندافع وننافح عن عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنما ندافع عن الدين كله بعقيدته وشريعته وأركانه ومبادئه ومنظومة أخلاقه... وإنما كان سبهم لنبينا -صلى الله عليه وسلم- هو المحرك لنا بدافع الغيرة على جنابه الكريم...
وكل مسلم يود لو ردَّ عن عرضه -صلى الله عليه وسلم- لكن ليس كل مسلم مؤهل لذلك، وإن بعض خطبائنا كذلك يتساءلون: بأي وسيلة يدافعون، فليس الجميع يعلم كيف يدافع ومن أين يبدأ...
ولقد بدأنا في الجزء الأول من هذا المقال بيان ما نراه مناسبًا في المدافعة والمنافحة، فسمها إن شئت: "استراتيجية الدفاع عن الثوابت"، وذكرنا لذلك بنودًا كانت كالتالي:
البند الأول: إدراك السبب.
البند الثاني: اجعل من سامعيك "رقمًا صعبًا".
البند الثالث: التقليل من أهمية كيدهم.
البند الرابع: اعتماد سياسة الهجوم. وهاك تمام تلك البنود:
البند الخامس: الفصل بين حال الأمة وبين تعاليم نبيها -صلى الله عليه وسلم-:
هم يربطون بين ما تراهم عيونهم من حال الأمة الإسلامية اليوم من تأخر وتشرذم وتخلف في شتى المجالات وبين دين الإسلام الذي يعتنقونه وتعاليم النبي -صلى الله عليه وسلم- التي يتبعونها... وهذا ربط ظالم للدين وظالم لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن المسلمين لا يتأخرون ولا يتشرذمون ولا يتخلفون إلا حين يبتعدون عن الدين ويديرون له ظهورهم، لا حين يتمسكون به... وهذا ما صدع به القرآن مرارًا وتكرارًا: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأنبياء: 10]، ومرة أخرى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)[طه: 123-124]، وثالثة: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النور: 54]...
ودعونا نعيد: "ليس الإسلام هو سبب تأخر المسلمين اليوم"، بل سبب تأخرهم هو البعد عنه... فإن أغلب المسلمين اليوم قد فرطوا في دينهم لذا تأخروا... "فسبب التأخر هو التفريط فيما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-"، وليس العكس أبدًا.
ونقول لهم: إن أردتم الربط بين دين الإسلام وبين التقدم والتأخر، فانظروا إلى ماضينا وتمعنوا؛ كيف كان التمسك بالإسلام سببًا في جعل المسلمين في الماضي القوة العظمى على الأرض تهابها حضارات كسرى وقيصر.
هـل تـطلبون مـن المـختار معجزة *** يكفـــيه شعب من الأجداث أحياه
من وحـد العرب حتى صـار واترهـم *** إذا رأى ولد المــوتور آخـــاه
وكيف سـاس رعـاة الشـاة مملـكـة *** ما ساسها قيصر من قبــل أو شاه
ورحـب الـناس بالإسـلام حـين رأوا *** أن الإخـاء وأن العـــدل مغزاه
يا مـن رأى عـمر تـكسوه بردتـه *** والزيت أدم له والكـــوخ مـأواه
يهتـز كـسرى علـى كرسيه فرقــًا *** من بأسه ومـــلوك الروم تخـشاه
هي الـحنيفية عيـن الله تكـلـؤهـا *** فـكـلــما حاولوا تشويهها شاهـوا([1])
ومهمة الخطيب أن يرسخ ذلك في عقول سامعيه ويؤكده ويثبته حتى يصير من المسلمات عندهم؛ "الإسلام سبب للتقدم وليس التأخر".
البند السادس: البحث عن المنح:
هم يسبون الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويشوَّهون الإسلام في عيون شعوبهم، ويضيَّقون على المسلمين المقيمين عندهم، ويهاجمون كل مسلم متمسك بدينه على وجه الأرض ويصفونه بـ"الإرهابي"... ومع ذلك، وفي وسط ذلك كله، ترى بصيص الأمل وباقة النور تلتمع من بعيد، وهذي بعض أشعتها وزهورها.
أولًا: مهاجمتهم لديننا علامة أنه غالب وأن المستقبل له؛ فـ"لا يُرمى بالحجر إلا المثمر من الشجر"، أما اليابس فلا يأبه له أحد ولا يخشاه عدو، وصدق القائل:
مثمر الأشجار يُرمى *** كل آن بالرجام
وطَّأت من مرتقاها *** لرشيد أو غلام
والعقيم المر يبقى *** كيد أحقاد اللئام([2])
ثانيًا: خطوة على طريق صحوة الأمة وإيقاظ المسلمين الغافلين اللاهين من ثُباتهم، وتبصيرهم بما يكنه لهم أعداؤهم؛ فلو لم تخرج بين الحين والآخر بعضٌ من أحقادهم على فلتات ألسنتهم لظن الجاهلون أنهم يحبوننا ويبغون صلاح أمرنا وتقدمنا! وصدق العزيز الحكيم حين قال: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ)[التوبة: 8].
ثالثًا: التفاف قلوب الأمة حول نبيها -صلى الله عليه وسلم-، فلك أن تنظر كمَّ الاحتفال بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن تجرؤوا عليه، إن مواقع التواصل الاجتماعي قد اشتعلت بالصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم، حتى وجدنا بعض الشباب اللاهي قد انتبه حينًا وأفاق برهة لكيد أعدائه وترهات خصوم دينه... وإن القنوات الفضائية الإسلامية قد خصصت جزءًا كبيرًا من برامجها للتعريف بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكانته قد صار حديث المجالس في المساجد والبيوت والهيئات والمحال التجارية... وإن الملصقات والكتيبات والنشرات والمقالات التي تعني بالدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد طُبعت ونُشرت بالملايين... و"رُب ضارة نافعة".
وصدق الله -تعالى-: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التوبة: 32-33].
فيا أخي: اجعل بوارق النصر والأمل هذه حاضرة في أذهان مخاطبيك، مرتكزة في أفئدتهم؛ فإن الأمل حياة باعثة على العمل، وإن اليأس موت لا نشور بعده.
البند السابع: تحويل السامعين إلى مدافعين:
فإن مسئولية الدفاع عن المقدسات تقع على عاتق كل مسلم بما يستطيعه ويتقنه، كلٌ في مجاله، فليست فقط مهمة العلماء والخطباء والكُتَّاب والفصحاء وحدهم، بل هي واجب كل من يشهد أنه "لا إله إلا الله، وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسول الله" مهما كان سنه أو موقعه أو مهنته أو جنسيته.
فحرِّك داخل قلوبهم بواعث الغيرة والنخوة والإباء، فقل لهم: "ماذا لو سبوا أباك أو أمك أو عائلتك أو سبوك أنت! ماذا لو أهانوا زوجتك أو ابنتك أو عمتك أو خالتك وخاضوا في أعراضهن! ماذا لو اعتدوا على مالك أو أرضك أو تعرضوا لوظيفتك أو مصدر دخلك... إن دينك ونبيك -صلى الله عليه وسلم- أعلى وأعظم وأهم من ذلك كله.
فحمِّل السامعين مسئولياتهم، وضعهم في مواجهة واجباتهم، وأشعرهم أن المقصود بالسب هم لا نبيهم -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن السابين ما رأوه ولا عرفوه -صلى الله عليه وسلم-...
فإن فعلت ذلك كله حتى أصاب هدفه، فقد استطعت أن تُحوِّل المتلقين إلى مدافعين ومنافحين عن دينهم وعن عرض نبيهم -صلى الله عليه وسلم-.
البند الثامن: تدعيم الثوابت في قلوب المسلمين:
دائمًا وأبدًا نؤكد أن الكلام إذا صادف محله من القلوب نفع أيما نفع، وأن من صفات الخطيب الناجح أن "يهتبل الفرص" وأن "يحوِّل المحنة إلى منحة"... وتجرؤهم على نبينا -صلى الله عليه وسلم- فرصة سانحة لخطبائنا لترسيخ كثير من الثوابت في قلوب المسلمين الذين تأثروا جميعًا بوقاحة المتجرئين، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
أولًا: بيان عظم مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن كل المسلمين بلا استثناء يحبون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجلونه -لا أشك في ذلك-، لكن الكثير منهم يحتاجون إلى تأصيل هذا الحب وضبطه كي لا يبالَغ فيه فيَصِل إلى درجة المغالاة والتأليه، ولا يظل حبًا عاطفيًا محضًا لا ينبني عليه شيء من الحركة والعمل للدين.
ثانيًا: ضرورة التمسك بالسنة النبوية: فهي فرصة للعودة بالمسلمين إلى سنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- التي يجهلها الملايين منهم، ويستحي من تطبيقها -مع العلم بها- آلاف آخرون... إنها فرصة لتنبيههم أن السنة هي أساس الدين وأنها إن ضاعت أو أُسقطت استحال العمل بالقرآن وحده، وأن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن -كما قرره غير واحد من أئمتنا-... وهي فرصة لتعليمهم بركة الدعوة إلى الله وفضلها، لينطلقوا فيعلِّموا الجاهل ويبَصِّروا الحائر ويرشدوا الضال...
ثالثًا: توعية المسلمين أن في العودة للدين -دون سواه- عزهم ومجدهم ورفعتهم، وأن الله -تعالى- يقول: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأنبياء: 10]، "يعني شرفكم وفخركم"([3])... وتوعيتهم أننا لو عدنا إلى ديننا وطبَّقناه وتمسكنا به لهابنا الشرق والغرب ولما أقدم جرذانهم على سب نبينا -صلى الله عليه وسلم-... وغيرها من الثوابت المعلومة المشهورة.
البند التاسع: بيان طبيعة العلاقة بيننا وبينهم:
كل قريب من كتاب الله -تعالى- لا يتعجب ولا يتفاجأ حين يسمع تهجمهم وتطاولهم على ديننا وعلى رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، وحين يرى اعتداءاتهم وإيذاءهم وتعسفهم مع الأقليات المسلمة عندهم؛ لأن القرآن قرر ذلك منذ عقود قائلًا: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)[البقرة: 120]، وقائلًا: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ)[التوبة: 10]... هذا من نصوص القرآن.
والتاريخ أيضًا يؤكد ذلك؛ ولتنظر كيف فتح عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ومن بعده صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- مدينة القدس، وكيف غزاها الصليبيون فسفكوا الدماء ونهبوا الأموال وحرقوا الدور والمتاع... والبراهين في التاريخ كثيرة شهيرة... وهي في الحاضر تتجدد وتتعدد تشهد عليها أرض العراق والشيشان والبوسنة والهرسك وغيرها من بلاد المسلمين:
وجاء الغرب ذو الأخلاق يدعمنا ويحمينا
فترك الشرف والقِيَم على أعتاب وادينا
وقال الخطوة الأولى: تبيعوا العرض والدينا
وما جاء ليصلحنا، وهذا عمله فينا:
مزَّق شملنا حتى نسينا أننا إخوانْ
وقال: عروبة أنتم، ونصب الشرك للإيمانْ
وأنشأ بيننا الحقدَ، وملأ قلوبنا نيرانْ
وسرق الأرض والمال والأعمار والأبدانْ
وزرع في قلوب الناس: "سر تأخري القرآنْ"
إنه حقد لا يزال يشتعل، ونار لا تزال تتأجج، وبغضاء مكتومة في الصدور تختبئ حينًا، وحينًا تقفز على الألسنة والشفاه: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ)[التوبة: 8]...
يروي يونسُ المصري ""أنه كان يقرأ على يهودي يومًا في المنطق، فقال له وقد انفرد به: لا تأتني إلا ومعك سكين أو نحوها؛ لأن اليهود إذا خلا بمسلم ولم يكن معه سلاح لزمه التعرض لقتله"، وقال النجم واشتهر في كلام الناس: أنه "ما خلا قط رافضي بسني إلا حدثته نفسه بقتله"، وهي من الخصال التي شاركت الرافضة فيها اليهود"([4]).
هذا كله لا بد أن يكون معروفًا لكل مسلم كي لا ينخدع... ومع هذا فقد أمرنا القرآن الكريم بحسن معاملتهم والإحسان إليهم: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8]، ولقد أنصف القرآن فقسمهم قسمين: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا)[آل عمران: 75].
***
والآن، لا أدعي أنني قد حصرت جميع طرق الدفاع والذود عن حياض الدين، ولا أنني قضيت ما عليَّ، وإنما هي مجرد نماذج تفتح الباب لمن أراد الجد والعمل على بصيرة.
والله من وراء القصد.
[1])) الأبيات للشاعر محمود غنيم، من قصيدة: "وقفة على طلل".
[2])) لم أقف على مصدر لهذه الأبيات بعد طول بحث، وأحفظها منذ الصغر، وأظنها لشاعر اسمه: "إبراهيم عيسى"، وأنها كانت منشورة في مجلة الأزهر بمصر في التسعينات.
[3])) تفسير الخازن (3/221)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.
[4])) كشف الخفاء للعجلوني (9/432)، ط: مكتبة القدسي، القاهرة، 1351 هـ.
التعليقات