اقتباس
ومع هذه الأدلة، ومع معرفة الكثير من الخطباء لها، إلا أنّ فئة منهم قد ابتليت بشهوة الكلام، وحبّ الظهور، والرغبة في التصدّر، حيث جعلت منهجها إطالة الخطبة وقصر الصلاة، فكان من نتائج ذلك عدم التأثير في الناس، فنسبة التركيز لدى الناس قليلة، وقدراتهم تختلف، ومن بلغ...
الخطبة صناعة قبل أن تكون شيئا آخر، ومن أوتي موهبة الخطابة فإنّه يكون قد كُفي الكثير من الصعوبات؛ ولأن المواهب نادرة، فإن التركيز هنا ينصب على الصّنعة، فإذا امتلك الخطيب ناصية صناعة خطبته فإنه يحوز بذلك العقول والقلوب بعد توفيق الله -تعالى-، كما أنها تجعل الخطابة بالنسبة إليه أمرا محببا غير ثقيل على النّفس، فيبدع فيها أيّما إبداع، ويقدم الإضافة اللّازمة لأمته؛ ومادام الأمر على هذا النحو من النّفع فالسؤال الذي يستحق أن يُطرح هنا هو، كيف يحوز الخطيب ملكة الخطابة؟
إنّ ملكة الخطابة الراقية المؤثرة لا تتحقق إلا إذا حاز الخطيب لغة راقية، فاللغة وعاء الفكر، وهي وسيلة التواصل بين البشر، وهي الأداة للتأثير في الآخرين، وكلما كانت سليمة كان تأثيرها أقوى، ولهذا اشترط الجاحظ في معرض حديثه عن البيان والتبيين سلامة الآلة الناطقة، وكلامه يستحق النقل لبلاغته وقوته وجماله في هذا الموطن: " .. وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق، وتكميل الحروف وإقامة الوزن، وإن حاجة المنطق إلى الحلاوة والطلاوة، كحاجته إلى الجزالة والفخامة، وإن ذلك من أكثر ما تستمال به القلوب، وتثنى به الأعناق، وتزين به المعاني، وعلم واصل أنه ليس معه ما ينوب عن البيان التام، واللسان".
وفي كلامه بيانٌ لأهميّة البيان وذكر كيف يصير البيان مؤثرا وساحرا للألباب؛ حتّى أنّه ذكر أهمية الآلة الناطقة في تبليغ المراد، وإقناع السامع، والتأثير في المتلقي، ولو غاب عنها ما يلزمها من السلامة والجودة، كأن تكون الآلة الناطقة للخطيب لا تحسن نطق بعض الحروف، أو لا تجيد إخراج بعض الحروف؛ لَعابَ الناس المتحدث والخطيب، ورموه ببشاعة اللسان، وضعف المنطق، فكيف لو كانت آلة النطق عنده معيبة، وانضاف إليها غياب علوم البيان، وضعف الثقافة؟.
وهل يكفي أن يمتلك الخطيب آلة ناطقة سليمة حتى يكون خطيبا بليغا؟ إن حديث الجاحظ عن حاجة الخطيب إلى الحلاوة في النطق وإتقان المقامات هو ما يجعله مقبولا عند الناس؛ حتى تُقبلَ عليه قلوبهم وعقولهم، وتشرئبّ أعناقهم إلى خطابه، وتميل نفوسهم إلى منطقه.
إن تمكن الخطيب من البلاغة في: الأسلوب، وفي الحجاج –وهذا لب الخطابة-، وفي مستوى تأليف الكلام، يرفعه إلى مقامات عالية في صياغة فكر وسلوك المجتمع، وتشكيل وجدانه، كما أن عدم تمكنه من ذلك يجعل ضرره أكبر من نفعه، وقد أشار الشاطبي –رحمه الله- في كتابه الموافقات إلى حقيقة هامة جدا، وهي أن المبتدئ في اللغة العربية مبتدئ في الشريعة، والمتوسط فيها متوسط في الشريعة.. وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد، فإن إدراك رسالة الإسلام كما أدركها من سبقنا من الصحابة والتابعين يحتاج إدراك مستواهم اللغوي في المستويات الثلاث، والحديث هنا يتوجه إلى المشتغلين بحقل الدعوة عموما، والخطباء والفقهاء خصوصا.
إنّ تضيّيق مفهوم البراعة في الخطابة في طريقة التعبير حصراً، دون الاهتمام بمهارة الحجج إيجادا وترتيبا وممارسة، قد حوّل أصل الخطابة إلى فرع، وحوّل الفرع إلى أصل؛ ما جعل الخُطب المسجدية لا تؤثر تأثيرا حقيقيا وثابتاً، بل إن أثّرت فإنّها تؤثر تأثيراً لحظياً آنياً، سُرعان ما تُزيله مستجدات الواقع الذي يلقاه المسلم بعد انصرافه من صلاة الجمعة، وهذه هي محنة الخطبة اليوم حيث صارت تشبه وظيفة الشعر في الأسواق والقصور والشوارع والمنتديات، حتّى صارت صورة الناس وهم كسالى ونيام تعلوا وجوههم الحيرة، وتغلب عيونهم الغفوة أمرا مألوفا، وتلك نتيجة حتمية لغياب حلاوة المنطق وطلاوته، وغياب الفعالية والنجاعة الخطابية.
وحتّى التعبير لم ينل نصيبه من جماليات البيان بأساليبه الشّهيرة وآلياته المعروفة؛ حيث تغيب ملكة صناعة البيان، ويغيب معها البديع والفصاحة، فيغيب البعد الجمالي للخطبة.
لقد كان حضور ما سبق عند السابقين مما أعانهم على أداء رسالة الخطبة أداءً متقنا، والأمثلة كثيرة في الدلالة على ذلك، ويكفي هنا أن ننقل خطبة نقلها صاحب "البيان والتبيان" منسوبة إلى علي -رضي الله عنه- وعنونها بهذا العنوان: "خطبة علي في الجهاد" ".. قالوا: أغار سفيان بن عوف الأزدي ثم الغامدي على الأنبار، زمان علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه-، وعليها حسان- أو ابن حسان- البكري فقتله، وأزال تلك الخيل عن مسالحها، فخرج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حتّى جلس على باب السّدة، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه ثم قال:
أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، ولزمه الصّغار، وسيم الخسف، ومنع النّصف. ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم: أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا فتواكلتم وتخاذلتم، وثقل عليكم قولي واتخذتموه وراءكم ظهريّا، حتى شنّت عليكم الغارات. هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقتل حسان- أو ابن حسان- البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، وقتل منكم رجالا صالحين. ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المسلمة والأخرى المعاهدة، فينزع حجلها وقلبها ورعاثها ثم انصرفوا وافرين، ما كلم رجل منهم كلما، فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا، ما كان عندي به ملوما، بل كان به عندي جديرا.
فيا عجبا من جد هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم. فقبحا لكم وترحا، حين صرتم هدفا يرمى، وفيئا ينتهب، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: حمّارة القيظ، أمهلنا ينسلخ عنّا الحرّ وإذا أمرتكم بالسير في البرد قلتم: أمهلنا ينسلخ عنا القرّ. كلّ ذا فرار من الحر والقر. فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الأطفال وعقول ربات الحجال وددت أن الله قد أخرجني من بين ظهرانيكم وقبضني إلى رحمته من بينكم. والله لوددت أني لم أركم، ولم أعرفكم معرفة والله جرّت ندما. قد وريتم صدري غيظا، وجرّعتموني الموت..".
إن النّاظر في حال هذه الخطبة، يجد أنها قد اشتملت على علوم البيان، فهي بليغة جميلة فصيحة، وهو ما جعلها أحد أشهر الخطب النموذجية التي تناقلها المسلمون؛ للدلالة على الخطب الراقية، التي تؤثر في العقل والوجدان.
وبالإشارة هنا إلى هذه الخطبة البليغة، والتي تصلح أن تكون نموذجا يحتذي به الخطيب في خطبه، فإنّ ما يستحق الملاحظة أن الخطب القديمة حتّى وهي تعالج أخطر قضايا العصر، فإنّها لا تتميّز بالطول، وقد ظلّ هذا معمولا به في العالم الإسلامي عبر تاريخه الطويل، وقد كانت هذه الميزة مما يجعل الخطب فخمة ومؤثرة في نفس الوقت. بينما تحولت الخطب المنبرية في العقود الأخيرة في الكثير من الدول الإسلامية إلى محاضرات تقتل في المصلين الجالسين بين يدي الإمام روح الاستماع، وتجعل النّوم يجد فرصته ليهجم على جموع المصلين فيستلهم من جوّ الجمعة، وإذا انتقد الخطيب في ذلك، وخاصّة ممن اشتهر بإطالة الخطبة، احتج بأن الخطب التي لا تتجاوز ساعة أو نصف ساعة لا يمكن أن تعلم الأمّة شيئا، وهنا يقال لهذا الصنف من الخطباء: إن جوهر الخطبة في الإسلام هو تذكير المسلمين بكليات الشريعة الإسلامية، وبالفروض والعبادات، والمقاصد الكبرى، والأخلاق الإسلاميّة، إذن ومادام الأمر على هذا النّحو فإنّ المفترض في الخطيب أن يستحضر هذه الحقيقة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنّ النّبي –صلّى الله عليه وسلّم- قد أوصى بتقصير الخُطبة، وإطالة الصّلاة، وجعل ذلك علامة على فقه الخطيب قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ – أي: ابن ياسر- فَأَوْجَزَ، وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ – أي: أطلتَ -، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْراً"(رواه مسلم).
ومع هذه الأدلة، ومع معرفة الكثير من الخطباء لها، إلا أنّ فئة منهم قد ابتليت بشهوة الكلام، وحبّ الظهور، والرغبة في التصدّر، حيث جعلت منهجها إطالة الخطبة وقصر الصلاة، فكان من نتائج ذلك عدم التأثير في الناس، فنسبة التركيز لدى الناس قليلة، وقدراتهم تختلف، ومن بلغ التسعين والسبعين ليس كمن بلغ سنة العشرين والثلاثين، وهي حقيقة يعرفها النّاس بفطرتهم وبالتجارب، وزادت الدراسات الحديثة لتؤكد ذلك تأكيدا قاطعا.
إنّ المنهج الإسلامي ينبني على قاعدة كلية لا تقبل النقاش ولا الجدال فيها، ألا وهي: "وخير الهدي هديُ محمد –صلّى الله عليه وسلم-" ولا اجتهاد أمام منهج أرساه الوحي وختم به آخر الرسالات السّماوية، وإذا ربطنا هذه القاعدة الكليّة بموضوعنا فإننا نخرج بنتيجة واضحة، وهي: أنّ المعيار والمقياس الذي تقاس به براعة الخطيب وبلاغته قد حدده النّبي –صلّى الله عليه وسلم- فهو بذلك مقياس يؤشر لمنهج أصيل في الخطابة، من تنكبه دائما حتى صار له منهجا مضاداً لمنهج النّبي –عليه الصّلاة والسلام- فقد تنكب عن الخيرية التي تستقى من الهدي النّبوي، واضرّ بشعيرة عظيمة من شعائر الإسلام.
عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "كنت أصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكانت صلاته قَصْدًا، وخطبته قصدًا"(رواه مسلم). وفي التعليق على الأحاديث التي أوصت باجتناب الإطالة يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :فالأولى أن يقصر الخطبة؛ لأن في تقصير الخطبة فائدتين :
أولاً: ألا يحصل الملل للمستمعين؛ لأن الخطبة إذا طالت -لا سيما إن كان الخطيب يلقيها إلقاءً عابراً لا يحرك القلوب، ولا يبعث الهمم-: فإن الناس يملُّون، ويتعبون
.
ثانياً: أنّ ذلك أوعى للسامع، أي: أحفظ للسامع؛ لأنها إذا طالت: أضاع آخرها أولها، وإذا قصرت: أمكن وعيها، وحفظها؛ ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إنّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه"، أي: علامة، ودليل، على فقهه، وأنّه يراعي أحوال الناس، وأحياناً تستدعي الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحياناً لاقتضاء الحال ذلك: فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهاً؛ وذلك لأن الطول والقصر أمر نسبي، وقد ثبت عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنه كان يخطب أحياناً بسورة "ق" ، وسورة "ق" مع الترتيل، والوقوف على كل آية: تستغرق وقتاً طويلاً.
يتبع..
التعليقات
GHOULEM
22-12-2019السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبراكاته، سمعنا ما قلت وكتبت ، فجزاك الله خير الجزاء ،ويا ليت الخطباء يستيقظون ...! لعلا المسجديين ينتفظون ...والله أنا بتنا نحلم أن نستمع خطبة يبقى رنينها في الأذان..وصداها في قلوبنا...لا نكاد ننساها...