عناصر الخطبة
1/من فضائل ومكرمات رمضان 2/حالنا البائسة في رمضان 3/تذكر آلام المسلمين وجهادهم في رمضان 4/اتخاذ رمضان فرصة لتربية النفس على العبادة 5/الصوم الحق 6/المبادرة بالتوبة واستغلال رمضان 7/تثمينٌ لجهود مشاريع الإفطار وذمّ التزهيد فيهااقتباس
شهر العزة والكرامة، شهر الجهاد والنصر، شهر الجدية والعزيمة؛ فهل آن للأمة أن ترفعَ عن نفسها أسبابَ الذلة والهوان؟ ونحن نرى مآسيها تزدادُ هنا وهناك، والمؤامراتُ تحيط بها للخلاف والشقاق، والتطّرّف والغلوّ والنفاق، تبينُ عوارَ المسلمين، وتشرذمهم، فتآمرٌ للأعداءِ بالخارج، وللمنافقين من بني جلدتنا، يمكرون الليل والنهار للإفساد وإشاعة الفاحشة..
الخطبة الأولى:
الحمد لله على نعمة الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده الغفور المنان، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله قائدنا للجنان، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أسلم رَجُلَانِ مِنْ قُضَاعَةَ وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا ومات الْآخَرُ بعده بسَنَة، قَالَ طَلْحَةُ: فرأيتهما بالمنام، فإذا الذي مات آخرا مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ! فَعَجِبْتُ! ثم ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَة؟"حديث حسن رواه أحمد وغيره.
أيها الإخوة: ها نحن نعيشُ رمضانَ وأدركناه، نقرأ القرآنَ ونبتهل في القيام. ولكن؛ كيف نحن في رمضان؟ وهل عرفنا معنى الصيام؟ هل استغلّينا فرصتَه؟ فهو موسم كريم الفضائل، عظيم الهبات والنَّوَائل، أيامه ولياليه نفحات للخير وللتقوى، ونسائم للرحمة والرضوان. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
هو أشرُف الشهور، وأيامُه فرصة من فرص الآخرة، فأين المبادرون؟ وأين المسارعون ليتعلّموا من مدرسته، ويتهذّبوا فيه؟ شهر الطاعة، والقُرْبَى، والبر، والإحسان، والمغفرة، والرحمة، والرضوان، والعتق من النيران؛ تصلُحُ النفوسُ به، وتُغفر الذنوبُ، وتُكفَّر السيئات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفّرها الصلاة والصوم والصدقة" متفق عليه.
رمضان هو إجابةُ الدعوات، وإقالةُ العَثَرات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لكلّ مسلمٍ دعوةٌ مستجابةٌ يدعو بها في رمضان"، وبالحديث: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم" رواه أحمد.
إن شهرًا بهذه الصفات، وتلك الفضائل والمكرمات، لحَريٌّ بالإقبَال والاهتمام. فكيف أنت مع رمضان؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "جاءكم شهر رمضان، شهرٌ مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تُفْتَحُ فيه أبوابُ الجنة، وتُغْلقُ فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه الشياطين، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، مَن حُرِمَ خيرها فقد حُرِمْ" رواه أحمدُ والنسائيُ وصحّحه الألباني.
شهر العزة والكرامة، شهر الجهاد والنصر، شهر الجدية والعزيمة؛ فهل آن للأمة أن ترفعَ عن نفسها أسبابَ الذلة والهوان؟ ونحن نرى مآسيها تزدادُ هنا وهناك، والمؤامراتُ تحيط بها للخلاف والشقاق، والتطّرّف والغلوّ والنفاق، تبينُ عوارَ المسلمين، وتشرذمهم، فتآمرٌ للأعداءِ بالخارج، وللمنافقين من بني جلدتنا، يمكرون الليل والنهار للإفساد وإشاعة الفاحشة.
يزورنا رمضان فيجدُنا أمما مُتَناثِرَةٌ، وقلوبا مُتَنافِرَة، ودولا متقاطِعة، وأحزابا مُتصارِعة. فتنٌ مُحْدِقَةٌ، وشهواتٌ مُفرِّقةٌ.
وللأمةُ في مَسَاغِبِها ومجاعاتها وأمراضها المُهلكة اهتمامٌ في مظاهر الدين، وإهمالٌ لجوهره وخلقه، أفلا نجعلُ من رمضانَ مفتاحَ خيرٍ للأمة وعودةً لقوّتها وإحياءً لتاريخِ عزتها؟ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعجبُه الفأل، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسهُ القرآنَ، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أجودُ بالخير من الريح المُرْسَلَة.
وكما ترى قوافل العابدين تصوم وتبتهج وتتلو القرآن وتتصدّق، فهناك من الناس غافلٌ لا يعرف ربَّه إلا في رمضان، فلا يُصلِّي ولا يقرأُ القرآن إلا في رمضان، فإذا انقضى أهمل الصلاةَ والقرآن، وبئس القومُ لا يعرفون الله إلا في رمضان! ويا حسرةً على أقوام تُعَساء يستقبلونه بالضَّجَر والتضايق والحرج! على أنه شهرُ جوعٍ نهاري ينامون ويفوّتون الصلاةَ المفروضة، وشبع ليلي، يسهرونَه في الأسواق والغفلة، ويرون الصيام مانعًا لهم من شهواتهم ومن مآربهم الباطلة، فهم على شرّهم وفجورهم في رمضان وغيره يؤذون الناس، لاسيما عبر وسائل التواصل وبرامج القنوات التي تجاوزت بما تعرضُه كلَّ المُحرّمات في رمضان وغيره من الأوقات.
أيها المسلم: من نعم الله -تعالى- عليك أن مدّ في عمرك، لتُدرك خيرات هذا الشهر العظيم، فاحمدوا الله -عباد الله- أن بلَّغكم رمضان، واشكروه على ذلك، فكم من طامعٍ بلوغَ هذا الشهر فما بلغه! كم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه! فاجأه الموت فأهلكه! كم من جنازة مرت علينا ودفنّاها هذه الأيام!.
يا ذا الذي ما كفَاهُ الذنبُ في رجبٍ *** حتَّى عصى ربَّه في شهر شعبانِ
لقد أظلك شهرُ الصّـوم بعدهُمـا *** فلا تصيّرْه أيضًا شهـرَ عِصْيانِ
كم كنت تعرف ممن صام في سَلَفٍ *** من بين أهل وإخـوان وجيرانِ
أفناهمُ الْموتُ واستبقـاك بعدَهمُ *** حيّاً فما أقرب القاصي من الداني
يا عبدَ الله: تعيشُ آمنًا مُستقِرًّا تتلذّذُ بخيرات الله، فهل توقّعت نفسَك واحدًا من هؤلاء الذين يصومون وهم أُسارى أو يتسحّرون ويُفطرون على الحدود وفي الملاجئ أو تحت نيران القصف؟ توقع نفسك واحدًا ممّن يحتاجون إلى الفِطْر دفاعًا عن الملة، أو جندياً مرابطاً تدافع عن حدود بلادك والدين، تخيّل نفسك جائعًا مطرودًا شريدًا كما يحصل للمسلمين المضطهدين الخائفين في سوريا وغير ما مكان، وكلها أمثلةٌ حاضرة. هل إذا جلسنا بين أولادنا للإفطار بمائدة الخيرات عرفنا ما نحن فيه من نعم وتذكّرنا إخواننا هؤلاء؛ فشكرنا الله على نعمته، وسألناه المعونة، وقدمنا لهم ما نستطيع؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها" رواه مسلم.
هل عرفنا قدر هذه النعمة فشكرناها أم أننا لاهون بتصوير موائدنا لنستعرضَ بها أمام فقراء قلّت ذات يدهم، وجوعى لا يجدون ما يسدُّ رمقهم؟ ربنا لا تؤاخذنا بما يفعلُ السفهاء منا!.
لا بد للمسلم الصائم أن يشعر بآلام المسلمين في كل مكان، فإذا جاع تذكّر آلافَ البطونِ الجوعى، وإذا عطش تذكّر أكباداً عطشى، وإذا لبس تذكر أجساداً عُرياً، وإذا أمن فليتذكر أناساً خائفة؛ ليشعر بنعمة الله -جل وعلا- عليه أن أعطاه الأمنَ والغذاءَ واللباسَ والدواءَ، وغيرُه محروم. فالحمد لله على نعمائه، نسأل الله أن يحفظ هذه النعم التي نعيشها ويُديمها، ويرزقنا شكرها، ويحفظَها من الزوال.
هل اتخذت من رمضان -يا عبد الله- فرصةً لتربيةِ نفسك على العبادة؟ تقول عائشةُ -رضي الله عنها-: "كان -صلى الله عليه وسلم- يجتهدُ في رمضان ما لا يجتهد في غيره" أخرجه مسلم. ورمضان شهر القيام: "أفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل"، "ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه. فاحرص على أداء صلاة التراويح وأكملها مع إمامك حتى ينصرف، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قام مع إمامه حتى ينصرف كُتِب له قيام ليلة". فلله الحمد والمنة، يقومُ المصلي ساعةً من الليل مع الإمام فكأنما قام الليل كله! فأين ذلك ممن يستعجلون بالتراويح مع أئمتهم؟ وهي أيام وليال معدودة!.
ما حال أولادنا -أحبتي- مع الفرائض في رمضان، والمواظبة عليها في المسجد جماعة، فالله -عز وجل- يحبّ التقرب إليه بالفرائض، فلا ننس الفرض ثم نهتمُّ بالنوافل والمستحبات، كما يفعله البعض ممّن ينام عن الصلوات المكتوبة في النهار! ويا حسرةً على المفتونين الذين يجعلون وقت السحر والاستغفار والتوبة فرصةً للعب واللهو ومشاهدة القنوات والانشغال بالمباريات! أما علموا أن قراءة القرآن ليلاً أفضل؟ فمدارسةُ جبريلَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن كانت برمضان ليلا.
رمضانُ شهر التقوى، تقوى حسّيةٍ وتقوى معنويّة، ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري. قال بعض السلف: "أهونُ الصيام تركُ الطعام والشراب". فصيامٌ لا يمنعُك من النظر إلى الحرام، والسب والشتم والتلاحي والخصام، والغيبة والنميمة والقِيل والقال، والولوغ في الأعراض، ليس بصيام؛ فإنما الصيام من اللغو والرفث، إذا تحقّق ذلك كانَ تقوى الله، ووقايةً من النار، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الصيام جُنَّة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل، فإن سابَّه أحدٌ فليقل: إني صائم" رواه الشيخان، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر" رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وقال جابر رضي الله عنه-: "إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ، ولا يكنْ يومُ صومِك ويومُ فطرِك سواءً". ويقول الإمام أحمد -رحمه الله-: "ينبغي للصائم أن يتعاهد صومَه من لسانه، ولا يُماري في كلامه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظُ صومنا، ولا نغتابُ أحدًا".
يا عبد الله: هذا أوان الجدِّ إن كنتَ مجدًّا، هذا زمان التعبّد إن كنت مستعدًّا، هذا نسيم القبول هَبّ، هذا سيل الخير صَبّ، هذا الشيطان كَبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحبّ، هذا زمان الإياب، هذا مغتسلٌ بارد وشراب، رحمة من الكريم الوهاب، فلنسرع بالمتاب، قبل إغلاق الباب، ولنبادر الفرصة، ونحاذر الغفلة.
ها هو موسم التوبة والإنابة، فباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح، فمتى يتوب من أسرف في الخطايا وأكثرَ من المعاصي إن لم يتب في شهر رمضان؟ فبادر بالعودة إلى الله، واطرق بابَه، وأكثر من استغفاره، واغتنم زمنَ الأرباح، فأيام المواسم معدودة، وأوقات الفضائل مشهودة، وفي رمضان كنوز غالية، فلا تضيِّعها باللهو واللعب وما لا فائدة فيه، فإنكم لا تدرون متى ترجعون إلى الله، وهل تدركون رمضان الآخر أو لا تدركونه.
وإن اللبيب العاقل من نظر في حاله، وفكَّر في عيوبه، وأصلح نفسه قبل أن يفجأه الموت، فينقطع عمله، وينتقل إلى دار البرزخ، ثم إلى دار الحساب.
اللهم كما بلغتنا رمضان فبارك لنا فيه، وتقبل منا الصيام والقيام، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، وارزقنا فيه توبةً نصوحاً تمحو الأوزار، يا عزيز يا غفار.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: أيها الأحبة، موائد التفطير خيرٌ عظيم تقام في المساجد والبيوت للمحتاجين، وهي علامةٌ خير للمجتمع بحسن التآخي والاستقبال والترحيب والإطعام، وسندٌ للعمال المقيمين وعابري السبيل، ومن فطّر صائماً فله مثل أجره، وهذه الموائد ما أجملها إذا نُظِّمت وتجنبنا الإسراف فيها واستغليناها لنشر الدعوة والعلم في أوساط المستفيدين منها! حتى ولو كان من يحضر من المقصّرين في دينهم أو من غير المسلمين، نستقبلهم تأليفاً لقلوبهم، وسبباً لتعليمهم ودخولهم في الإسلام، ففي كل كبدٍ رطبةٍ أجر، خاصة إذا كانت هذه المشاريع تحت إشراف جهات خيرية ومنظمة، كمكتب الدعوة وتوعية الجاليات.
ولمشاريع التفطير ثمار كثيرة أكثر من ملاحظاتٍ شاذةٍ يمكن أن تعالج، فما بالنا إذن نرى تزهيداً من البعض في تلك الأعمال الخيرية وهو ليس من المساهمين ولا الباذلين؟ لكنه لم يكفَّ لسانه عن انتقاد أيِّ عملٍ خيريٍّ لم يعجبه! وربما لا يعرفه حقيقة! فقط يردد كلام الناس، وهذا خطأ، وهو إغلاق وتضييق لأبواب الخير، وأخشى أن من ينال من مشاريع الخير ويلمز بها وهو لا يريد الإصلاح أن يكون من (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:79].
نسأل الله أن يتقبل من الباذلين بذلهم، وأن يجعل صيامنا صيامًا مقبولاً، وأن نكون وسائر المسلمين ممن صام الشهر واستكمل الأجر، وفاز بليلة القدر.
اللهم اكتب صيامنا في عداد الصائمين، وقيامنا في عداد القائمين المقبولين، وبارك لنا في رمضان والصيام، والقيام، والصدقة، والقرآن.
التعليقات