عناصر الخطبة
1/السر في وصال النبي -صلى الله عليه وسلم- للصيام 2/لذة الصيام والقيام وكيفية نيلها 3/لذة القرآن والدعاء والصدقة وكيفيه الحصول عليهااقتباس
بينما هو يتلوى من جوع البطن إذ به يطأطئ منكسرًا، خائفًا ألاّ يقبلَ الله منه، فيُفيضُ عليه من جميل لطفه وإنعامه، وينقلبُ الألم حلاوةً غامرة، ولذةً عامرة، بل وشوقًا للقاء الله؛ لتتم فرحته التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- وفرحَةٍ عند لقاء ربه.
الخطبة الأولى:
الحمد لله المبتدئِ بحمد نفسه قبل أن يَحمدَه حامد، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، والمتكلمِ بالقرآن، والخالقِ للإنسان، وأشهد أنه المرسِلُ عبده ورسولَه محمداً بالبيان، فصلى الله وسلم عليه ما اختلف الملوان، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا ربكم؛ فتقواه خير ما اخترتم وادخرتم.
أصوم وأصلي التراويح كل يوم لكني لا أجد لهما لذة؟! فكيف أتلذذ بصيامي وتراويحي؟!
وقبل محاولة الجواب عن هذا السؤال الجليل الذي نحتاجه كلُّنا لابد من المقدمة التالية: كان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يشتاق للصيام شوقً عظيمًا، حَتّى إنّهُ لا يحس بالجوع فكَانَ يُوَاصِلَ أَحْيَانًا فِي رمضان الليلة والليلتان: "لِيُوَفّرَ سَاعَاتِ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ الْوِصَالِ فَيَقُولُونَ لَهُ: إنّك تُوَاصِلُ! فَيَقُولُ: "لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ؛ إنّي أَبِيت عِنْدَ رَبّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" أي: مَا يُغَذّيهِ اللّهُ بِهِ مِنْ لَذّةِ مُنَاجَاتِهِ وَقُرّةِ عَيْنِهِ بِقُرْبِهِ وَتَنَعّمِهِ بِحُبّهِ وَالشّوْقِ إلَيْهِ، فهذا هو غِذَاءُ الْقُلُوبِ، وَنَعِيمُ الْأَرْوَاحِ، حَتّى يُغْنِيَ عَنْ غِذَاءِ الْأَجْسَامِ مُدّةً مِنْ الزّمَانِ".
إذًا، فكيف أحصِّل تلكم اللذة بالصوم؟ تحصيلها سر من أعجب الأسرار، فالصوم يتحصل فيه الالتذاذُ بالخدمة لمولاك، والشعورُ بنسبة الصوم له؛ كما قال تعالى في الحديث القدسي: "الصوم لي وأنا أجزي به" هذه هي النسبة، وقال: "ترك طعامه وشهوته من أجلي"، وهذه هي حقيقة الالتذاذ بالخدمة.
فبينما هو يتلوى من جوع البطن إذ به يطأطئ منكسرًا، خائفًا ألاّ يقبلَ الله منه، فيُفيضُ عليه من جميل لطفه وإنعامه، وينقلبُ الألم حلاوةً غامرة، ولذةً عامرة، بل وشوقًا للقاء الله؛ لتتم فرحته التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- وفرحَةٍ عند لقاء ربه.
فيا أيها الطالب لذتَه في صومه: لا تغفل عن ديوان العتقاء والمقبولين الذي يفتحه الرب -جل وعلا- في هذا الشهر، ولا تنسَ المردودين الذين حظهم الجوع والسهر، ولتعصر عينيك لتفيض بالدمع حزنًا، وندمًا، وشوقًا، بل حتى اقشعرار جلدك عظيم أجره عند ربك، وفي حديث صححه ابن حجر: "إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا"، وبنظرةٍ عابرةٍ إلى جمهور التائبين تجد بداياتهم كانت بعبرات هاطلة في سكون ليلةٍ ذات نفحات من ليالي رمضان.
من وسائل تحصيل لذة الصلاة: الحياء باستشعاره التقصير في العبادة، ويقوىَ ذلك: بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها وقلة إخلاصها، مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله، وأنه مطلع على خطرات القلب وإن خفيت، وإذا أحسستَ من نفسك خشوعًا عند ملاحظة عبد مسكين فعاتِب نفسك وقُل لها: إنكِ تدّعين معرفةَ الله وحبَّه؛ أفلا تستحين من استجرائك عليه مع توقيرك عبدًا من عباده؟!
كيف أحصل لذة التلاوة وقراءة القرآن؟
بفهم عظمة هذا الكلام وعلوه وفضل الله -سبحانه وتعالى- ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة إفهام خلقه، فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه إلى أفهام خلقه؟ ولولا تثبيت الله لموسى -عليه السلام- لما أطاق لسماع كلامه كما لم يطق الجبل مبادئ تجليه حيث صار دكًا، فإذا حضر بباله العرش واستواء ربه عليه، والكرسي الذي وسع السموات والأرض، واستحضر مشهد السموات والأرض وما بينهما من الكائنات، وعَلِمَ أن الكل في قبضته، مترددون بين فضله ورحمته، وبين نِقمته وسَطوته؛ إن أنعم فبفضله، وإن عاقب فبعدله، وأنه الذي يقول: "هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي".
وهذا غاية العظمة والتعالي، فبالتفكر في أمثال هذا يُحضر تعظيمَ المتكلِّم ثم تعظيمَ الكلام، بأن يَشهد بقلبه كأن اللهَ يراه، ويخاطبه بألطافه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم.
كيف أذوق حلاوة الذكر والدعاء، ولذة المناجاة؟!
فيقال: متى صفا لك حالك من الشوائب خلصت لك حلاوته من مرارة الأكدار، فذقت تلك الحلاوة في حال مناجاته، بتعظيم مولاك في أسمائه وصفاته، وبإجلال مقامه، والخوف منه، وخشيته، وقدْرِهِ حق قدره، وأن يستشعرَ ويستحضرَ أحدُنا معنى حديث: "أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ"، وحينها سيجد لذة عند مناجاة ربه، وأنسًا به، وقُربًا منه، حتى يصيرَ كأنه يخاطبُه؛ يعتذرُ إليه تارة، ويتملقُه تارة، ويثني عليه تارة، فيزدادُ لهجًا بالدعاء؛ تذللاً لله الغنيِ الكريمِ -سبحانه-.
فيا أيها السالك طريقَ الآخرة: دونَك الميدانَ؛ أثِر نَقعه، وتوسّط جَمعه، وتدبر قولَ ربِّك الذي يستحثُّك: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)[الإسراء: 19].
فثمت سؤالان عظيمان خطيران: هل اشتقتَ للقاء الله؟ هل تسأل ربَّك كثيرًا بأن ترى وجهَه في الآخرة؟
إن شوقَنا لربنا ولرؤيتِه أفناه رَينُ الشبهات والشهوات، وأهلكتْه جوائحُ معاصي الخلوات، وأضعفَه طولُ الأمد دون كدحٍ إلى الله، ولا جرَم؛ كان من دعاء نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في صلاته: "وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ"(رواه النسائي بسند صحيح).
ألا فلتحدِّث نفسك قائلاً: هل سأنال شرفَ رؤيةِ ربي؟ وهل سأكون ممن قال عنهم حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ"(رواه مسلم).
إن هذا الشوق الجليل هو نوع من الوقود الإيماني؛ ليذوق المتعبد طعمَ عبادته ومناجاته.
ولكن يا ترى كيف نُشعِل في نفوسنا جذوةَ هذا الشوقَ إلى ربنا ومولانا؟
إنه بمطالعة أسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ لتتحرك كوامن التعظيم والعلم بالله، ويأتي عندئذٍ المدد.
وتأمل هذه القصة قصة أبي الدحداح الأنصاري في فهمه كلام ربه؛ كيف حرَّكه وألبسه حبَّ البذل، فإنه لما نزلت هذه الآية: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ)[الحديد: 11]، قال أبو الدحداح لأم الدحداح: حائطي فيه600 نخلة، فاخرجي منه؛ فإني أقرضته ربي، فقالت له امرأته الصالحة: قد ربحْتَ البيعَ، ثم عمِدتْ إلى صبيانها؛ تُخرجُ ما في أفواههم، وتَنفُضُ ما في أكمامهم، فما موقف الذي هو أجود بالخير من الريح المرسلة -صلى الله عليه وسلم-؟! لقد فرح بهذا الجود والشهامة، فقال مبشِّرًا: "كم من عِذْقٍ رَدَاح في الجنة لأبي الدَّحداح؟".
وتأمل -وقاك الله من عَطَنِ الشبهات- كيف أن هذا الصحابيَ بفطرته فهِمَ من إقراض الله المعنى الظاهرَ دون أن يكون في قلبه تهيُّبٌ أو تنقُّص لقدر الله؛ لأن شجرة إيمانه قامت على ساق التنزيه.
ثم توَّجَ فهمَه بالعمل بمقتضى هذا الخطاب الرباني الكريم.
فاللهم تقبل بفضلك صومَنا بل ونومَنا، وصلواتِنا وصدقاتِنا وسائر ما قدمنا لأنفسنا من خير، فأنت سبحانك الذي أعنتنا عليها، ثم تجزينا عليها الجزاء الأوفى فضلاً ورحمة.
اللهم وفي هذه الأيام المباركة ارزق الأمة الإسلامية عزة وكرامة، ونصرًا وتمكينًا.
اللهم وفِّق إمامنا خادمَ الحرمين الشريفين، ونائبيه لما فيه عزُّ الإسلام وصلاح المسلمين.
اللهم واكفنا كيد من كاد بنا من ملالي إيران وأذنابهم الحوث الرفضة، واليهود النقضة، والنصارى والنصيريين، والمنافقين المتربصين.
التعليقات