اقتباس
ما الذي جعَلَنا نتعامل مع هذه الأحداثِ في غِيابٍ تامٍّ لرُؤيتنا الأُخرويَّة؟! نَتعاطى فِعلَ الإنسان وتَغيبُ عنا شِرعةُ السماءِ وسُنَنُ الله في الكونِ والحياةِ! مَن حوَّلَنا إلى هذه الآلاتِ اللاهثة من أجْل...
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ
يُعجبني ذلك الاتِّساقُ بيْن الإسلامِ والحياةِ، وأشعر أنَّ هذا ممَّا نفاخِرُ به الدنيا ونتباهَى به أمامَ العالم.
نَعيشُ في هذا الوقت مرحلةً استثنائيةً تُطبَّق فيها الإجراءاتُ الاحترازيةُ -وهي بلا شكٍ مهمَّةٌ وضروريَّةٌ-، حيثُ المفسدةُ والضررُ الحقيقيُّ (تُصاب بالفيروس) أو الظَّني (أن تُصاب أو لا تُصاب به)، ورغم ذلك فالمبدأُ المعمولُ به في مِثل هذه الحالات أنْ لا شيءَ يَستحقُّ المغامرةَ بصحَّتك وحياتِك حتى لو كان مِن قَبيلِ المصافحةِ! فالأخذُ بالأسبابِ هو من صَميمِ التوكُّل الذي أمَرنا به الشرعُ الحنيفُ، وهو بالتأكيد ضِدُّ التواكُلِ والقُعود وترْك الأسباب، والوقايةُ دومًا خيرٌ من العلاج.
أين الاتِّساقُ -إذن- بيْن الإسلامِ والحياةِ؟
جَوابُ هذا السؤالِ: هو أنَّ هذه الإجراءاتِ الاحترازيةَ هي الوجهُ الدُّنيويُّ لِما أبدَعه الإمام مالك، والشاطبي، وغيرهما من العلماء في صَكِّ وتَحريرِ قاعدةِ: "سَد الذرائعِ"، والتي نَعمل بها في دِيننا ودُنيانا، وتعريفُها باختصار: "ترْك المباحاتِ إذا غلَب الظنُّ بفسادِها". وبعبارة أخرى: "ترْك ما كان ظاهرُه الإباحة، لكنَّه يُفضي ويَؤولُ إلى المفسدةِ أو الوقوعِ في الحرام".
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ رحمه الله: "الذَّريعةُ: الفِعلُ الذي ظاهِرُه أنه مُباحٌ وهو وَسيلةٌ إلى فِعلِ المُحرَّمِ"(انتهى من الفتاوى الكبرى لابن تيمية:6-172).
ويُضيف الإمامُ الشاطبي بُعدًا آخَر؛ وهو أنَّ الفِعل قد يكون ظاهرُه ليس فقط الإباحةَ وإنما المصلحة، ولكنَّه يُفضي إلى مَفسدةٍ حقيقيَّة، فيقولُ رحمه الله: "حَقِيقَتُها -أي: قاعدة "سَد الذرائع"-: التَّوسُّلُ بما هو مَصلحةٌ إلى مَفسدةٍ"(الموافقات:5/183).
فالمقصودُ بقولهم: "سد الذرائع"، أي: سدُّ الطُّرق المؤدِّيةِ إلى الفسادِ، وقطْعُ الأسبابِ المُوصِلةِ إليه، وحسْمُ مادَّةِ الفَسادِ من أصلِها.
وأرجو منك -أيُّها القارئُ الكريمُ- أنْ تُعيدَ في عقْلك كلمة "حسْم مادة الفَسادِ مِن أصلها"؛ لتَعلَمَ أهميةَ الوقايةِ. ولذلك عدَّ ابنُ القيِّم رحمه الله باب "سَد الذرائع": رُبُع الدِّين!
ما الذي أثار الحديثَ عن هذه القاعدة الأُصولية الفِقهية الآن؟
في الحقيقة؛ إنَّ الإجراءاتِ المهمَّة والضروريَّة التي تنشُرها منظَّماتُ الصحة العالَمية ووزاراتُ الصِّحة في الدُّول على مُستوى العالَم كلِّه، والحديثَ عن عدمِ انتظارِ الإصابةِ أو الانتشارِ للتحرُّك، وأنَّ الجميع يجِب أنْ يُساهمَ في إيقاف نشْر العَدوى بترْك الكثيرِ من الممارساتِ الحياتيَّة الطَّبيعية والمباحةِ، مِثل المصافحةِ، والاجتماعِ خارجَ الدائرةِ القريبة، وتقبُّلَ الناس للفِكرة بكلِّ انسيابيَّة، بل والمساهمة في نشْر الوعي المجتمعيِّ عن ذلك؛ فالأرقامُ مُفزِعةٌ، ونِسَبُ المصابين تَتزايدُ، ممَّا يجعل الموضوعَ غيرَ قابلٍ للتهاون -كلُّ ذلك يَجعلنا نتعجَّب كيف يَكيلُ العالَمُ بمكيالَينِ، حيثُ يُؤمِن بهذه القاعدة في فَسادِ حياتِه ودُنياه، ولا يتَّبِعها في ما يتعلَّقُ بفَسادِ دِينه وأُخراه، وهو أهمُّ وأعظمُ!
كيف تحوَّلتْ رُؤيتنا العميقةُ للكونِ الواسع -المشهودِ منه والغَيبي- إلى رُؤية ضيِّقةٍ لا تَعِي إلَّا المحسوسَ المادِّيَّ، والقريبَ العاجل؟! مَشغولون دائمًا بالأحداثِ التي أصبحتْ في الآونةِ الأخيرةِ مُتتاليةً وسريعةً بوتيرةٍ غيرِ مسبوقةٍ، نَتساءل عن القادمِ وعن الأرقامِ، كأنَّنا نشاهِد فيلمًا لسْنا أحَدَ أبطالِه!
ما الذي جعَلَنا نتعامل مع هذه الأحداثِ في غِيابٍ تامٍّ لرُؤيتنا الأُخرويَّة؟! نَتعاطى فِعلَ الإنسان وتَغيبُ عنا شِرعةُ السماءِ وسُنَنُ الله في الكونِ والحياةِ!
مَن حوَّلَنا إلى هذه الآلاتِ اللاهثة من أجْل الحياةِ والبقاءِ فقط على أيِّ صُورةٍ كان البقاءُ؟! (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)[البقرة: 96]، هكذا بالتنكيرِ.. أيّ حياةٍ!
لماذا تفهَّمْنا ودافَعْنا عن سدِّ الذرائع من أجْل سلامةِ صِحَّتنا، وسَخِرنا من سدِّ الذرائع من أجْل سلامةِ دِيننا؟!
أيُّهما أهمُّ؟ لا لنفْسك فقط، لكن للأجيال المتعاقِبة مِن بعدِك؟
ما أقسَى وأعظمُ شيءٍ يَترتَّب عليه الإصابةُ بفيروس كُورونا مثلًا؟ أن تَفسُدَ حياتُك وتنتهي بالموتِ.
هل لاحظتَ النقطةَ في نهاية كلمة "الموت"؟ هل لاحظْتَ بساطةَ ما تَخافُ منه؟ أن تموتَ فقط!
وماذا يكون شَبَحُ الموت أمامَ الخُلود السَّرمديِّ في عَذابات أهلِ النارِ أو نَعيم أهلِ الجَنَّةِ؟! الموتُ يَتحوَّلُ إلى كَبْشٍ يُذبَح على تلك الأسوارِ، لا وُجودَ للموت أمامَ هذا الخلودِ!
هل استوعبْتَ وَفرةَ العقلِ وزَكاءَه عندَ عُلمائنا الأوائل حِينَ سطَّروا تلك القاعدةَ، حِفاظًا لا على حياتِك الدُّنيوية فقط، وإنَّما على الأهمِّ من ذلِك وهي حياتُك السَّرمديةُ ممَّا يُفسِدها أيضًا؛ يَتلمسَّون بها الطريقَ الذي يُوصِل إلى الخلودِ في نَعيمٍ مُقيمٍ بعيدًا عن صُراخِ أهلِ النارِ وصَيحاتِ نَدَمِهم.
حدِّثني بالله.. أيُّ ذنْب يَستحقُّ أن تُعذَّبَ مِن أجْله ليلةً في جهنَّم؟ فكيف بأيامٍ وشُهورٍ؟! بل كيف بسِنينَ؟!
أنت الآن تَرجف خَوفًا من فايروس وتُعيد تشكيلَ حياتِك من أجْلِ الوِقاية منه -وهذا جيِّد ومطلوب-؛ فكيف بعقلك لا يرَى ما يَستقبلُه في حياتِه الأُخرويَّة؟! كيف لا تُعيدُ تشكيلَ حياتِك استعدادًا للرحيلِ الحقيقيِّ والجزاءِ الحقيقيِّ؟!
العالَمُ يَرجُف، والمطاراتُ تُعلِّق الرحلاتِ، والبلدانُ تُغلِق حُدودَها. خوفًا من مواجهةِ فايروس لا يُرى بالعينِ المجرَّدة!
فكيف بك أنت -أيُّها الضعيفُ- في مُواجهة سيِّدِك وخالقِك في اجتماعٍ لن يَحضرَه إلا أنت وهو سُبحانَه أمامَك، وشُهودُك مِن خلفِك، والملائكةُ تَحملُ مَلفَّاتك في سِجِّلاتٍ دَقيقة، لا تَظلِم ولا تُظلَم! ما استعداداتُك؟
كم عُمُرك؟
وكم -بظنِّك- تَستحقُّ جَزاءَ تماديك وجُرأتِك وطُغيانِك؟
عقْلُك الذي طالَمَا تكبَّرَ واستحقَر فَهْمَ البُسطاء، وفَرْيُك في الكتُب بكلِّ اللُّغات وكلِّ الثقافات، وإيمانُك الكبيرُ بقُوَّة العِلم التَّجريبي المتهاوي الآنَ أمامَ هذا المشهدِ.. ألم يُساعدْك على فَهْمِ هذا الدرسِ اليسيرِ؟
أنَّك مِن غيرِ اللهِ لا شيءَ!
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر: 15].
التعليقات