كنا نعلم ولا نعمل

عاصم محمد الخضيري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ غفلة المسلمين عن الآخرة 2/ العلم يهتف بالعمل 3/ مفاسد مخالفة الأعمال للأقوال 4/ وجوب الاستجابة لله والرسول 5/ الآخرة هي المحطة الأخيرة 6/ مسارعة السلف الصالح لرضوان الله تعالى 7/ التحذير من عدم العمل بالعلم.
اهداف الخطبة

اقتباس

كنا نعلم أن صيام يوم واحد يباعد الله به عن وجه صاحبه النار سبعين خريفا، ولكننا لا نصبر على ظمأ الهواجر، أفنصبر عن ظمأ يوم واحد مقداره ألف سنة مما يعد الناس؟! كنا نعلم أن كثيرًا من المشاريع الخيرية التي لا تكلفنا شيئا في الدنيا، ولكنها قد تكون الضمانة الرئيسية لخلودنا هناك ولكننا لا نعمل. طالب علم أو مستقيم من عشرين سنة أو من ثلاثين سنة، ولكنه لا يغض بصره عن محارم الله. طالب علم أو مستقيم، ولكنه يغتاب الناس، ولا تَكادُ تَمُرُ بِهم أيةٌ أوْ حديثٌ إلَّا سمعوهِ مِنْ قبلِ لكِنّهم أبعد النّاسِ عَنِ العمل..

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله خلق الخلق وبالعدل حكم, مرتجى العفو ومألوهُ الأمم, كل شيء شاءه رب الورى, نافذ الأمر به جف القلم, الحمد له, له الحمد ربي, من ذا الذي يستحق الحمد إن طرقت طوارق الخير, تبدي صنع خافيه, إليك يا رب كل الكون خاشعة, ترجو نوالك فيضا من يدانيه, أشهد ألا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك, أتتك السماوات والأرض طوعا, وأسلم من فيهن لك طوعا وكَرْها وإليك يرجعون.

 

وأشهد أن محمدًا بن عبدالله, عبدُ الله ورسوله إمامُ الهدى أجلى الله به الدجى فأصبح ليلُ الأرض في أُفقه فجرًا, صلى الأولون والآخرون عليه ما صلت عليه وسلمت أم القرى, وصلى الله على آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

 

 (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1- 2].

 

أما بعد: عبادَ الله: هَتَفَ العِلمُ بالعملِ، فإنْ أجابَهُ وإلَّا ارتحلَ، يقولُ اللهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24]، تُفزِعُني كثيراً هذه الآيةُ، وحينَ أعلمُ أنَّ اللهَ قرنَ سُرعةَ الإجابةِ لأمرهِ، بإحالة القلبِ وتقليبهِ، وكأنَّ اللهَ يُهدِدُ عبادَهُ، أن مَنْ لمْ يستجبْ لأمره أنَ يحولَ بينهُ وبينَ قَلبِهِ، نعوذُ باللهِ مِنَ الضلالِ وفتنةِ الأقوال والأفعال.

 

أظنه يسعك معي أن نعدد النصوص التي حفظناها والآيات التي وعيناها والأحاديث التي استظهرناها قبل أن تستخشن أظفارنا وأظنه يسعنا كذلك أن نسرد كل المحفوظات التي تلقيناها كابراً عن كابر.

 

لا أرانا نعجز أن نعقد أدنى مقارنة بين الأوامر التي تلقيناها وبين حجم استجابتنا لها وتفعيلها وتطبيقها كما أراد الله -عز وجل- ورسوله منا.

 

كم حجم النصوص التي نسابق بذكرها كل أحد، وليس لنا منها إلا الاستذكار!! كم حجم النصوص التي كانت حجة علينا حين كان آخر عهدنا بها حين طرقت أسماعنا يوم كذا وكذا!!

 

أيقولُ اللهُ قولاً ويقولُ رَسُولُهُ قولاً ثُمَّ يَكونُ لنا الخِيرةُ فيهِ، أينَ مُسَمَّى الإيمانِ الذي نادانا اللهُ بهِ؟! (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب:36] تعالى الله عنه عبثهم.

 

أتظنُّ أنَّ اللهَ لمَّا أنزلَ إليكَ صفوةَ كُتُبِهِ، وأرسل إليكَ خيرَ رُسُلِهِ، أنَّ تكونُ أوامِرَهُ اختياراً، تأخذُ منها ما اشتهيتَ، وتدَعُ منها ما اشتهيتَ! أوَ دينُ اللهِ يُؤخذُ بالتَّشهي وبالتحلي والتَّمنِّي؟ كم عددَ الذينَ سُجِّلتْ في هوايَتِهم دينُ الإسلامِ؟ وليسَ لهمْ مِنْها نصيبٌ، ولولا أنَّهم وجدوا آباءَهم على أُمةٍ ما كانوا مُقتدينَ ولا مهتدينَ.

 

العِلمُ صِنوانُ العملِ *** فإذا عَمِلتَ فلا تدعْ عَمَلاً

فالعلمُ ليسَ بنافعٍ أربَابَهُ *** ما لمْ يُتَوِجْ رَبَّهُ بِفِعالِ

 

يا ويلَهم أولئك الذينَ عَلِموا فكانَ حُجةً عليهم، لمْ يَكنْ معشرَ اليهودِ، أخَسّ الأمم لا مَذهباً ولا مِلةً، وأدناهم خلقا ومسلكا، ولمْ تكنْ لَعناتُ اللهِ لتحق عليهم، إلَّا حينَ اختاروا غضب الله ومقته بترك العملَ بالعِلمِ، لمْ تُقبلْ لك صلاةٌ مِنْ صلواتِكَ الخمسِ، لن تقبل لك صلاة من صلواتك الخمس حتى تتبرأ من فعلهم فيها بالدعاء بأن يجنبك الله سبيلهم غير المغضوب عليهم في كل يوم سبعَ عشرةَ مرةٍ، أولئكَ الحُمُرُ الذين حَملوا التوراةَ ثُمَّ لمْ يَحمِلوها ، والله لن ترضى لنفسك أن ينزعك عرق من يهود..

 

أسَمِعتَ بالطامةِ الكبرى التي تُسمى تَركُ العملِ بالعلم؟!

أسمِعتَ عظم الجريرة حينَ يبلُغُكَ العلمُ ولكنك لا تَعملُ بهِ؟!

 

لقدْ كانَ الأولون مِنَ المؤمنينَ، لا يُثنيهم العَملُ بالعلمِ، إلَّا موتُ أو اغترار، ولمْ تكنْ لهم أعذارٌ كأعذار المعذَّرينَ مِنَ الأعراب.

 

كانَ العملُ معهم يمشي على سريرِ الموتِ، وعلى خَشبةِ الإعدام، وعلى سَلاسلِ الأسر،

ينزفُ مِنْ أحدِهِم دمُهُ، وهوَ يُكسِرُ الفناءَ أحمرَ..

والروحُ تطفو مِنْ سَجى الحُلقومِ*** مَلِكُ الفناءِ على يَمينِ فؤادهِ

في رِحلةٍ للقاهرِ القيومِ.

ثُمَّ يسألُ مَنْ حولَهُ، أصَلَّى الناسُ؟ فيجيبونَ نعمْ، ثم يتحاملُ على نفسٍ ثقيلةٍ، وجسدٍ مُمتلئٍ بالجِراحِ.

أرواحُنا يا ربّ فوقَ أكُفنَا*** نرجو ثوابَكَ مَغنَماً وجِواراً

كنا نموت على سرير جراحنا *** والموت ينصب حولنا الأسوار

ثُمَّ لا يرضى إلَّا أنْ يُصلي حتى آخرَ قَطرةٍ مِنْ دَمِهِ.

 

العِلمُ يَهتِفُ بالعملِ، العلمُ يهتِف بأولئك الضُعفاءِ فيستجيبون لداعيه أفلا تستجيبَ؟

العلم يهتف بالأعمى فَيُجيبهُ، حيثُ لمْ يجدْ له النبيّ -عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ- رُخصةً في تركه للجماعةِ، فتحمَّلَ أنْ يَمشيا في سبيل السِّباعِ والهوام التي في طريقهِ، وليتَهُ وجدَ قائداً يُلائمُهُ، ولكن الصِّعابَ كُلَّها هانتْ عليهِ حينَ أجاب هاتف الإعلام باللهِ الكبيرِ.

 

وبعض من لم يرزق كثير حياء ولا إيمان يسمع الحيعات في اليوم عشر مرات لكنه يتلكأ في سبيل إجابة الداعي وكأن المدعو بالنداء والصلاة سواه!!

 

العلم يهتف بالعلم..

العلم يهتف بصاحب العرجة عَمرِو بنِ الجَموحِ -رضيَ اللهُ عنهُ-، حين سَمِعَ نادي الجهادِ الحق حيّ على الجهادِ، ومَنْ سمع حيَ على الجهادِ، تُجبْهُ صيحاتُ الدماءِ،

لو كنت أشلاء ممزقة *** بأنحاء الفضاء

لم آل جهدا في كفاح *** مناصب الدين العداء

 

يقولُ أولادُهُ لهُ: إنَّ اللهَ قدْ عَذَركَ، وليسَ على الأعرج حرجٌ، فقالَ لهم: أتَرُدُّوني بعدَ إذ سمعت الذي سَمِعتَ، واللهِ إنّي لأرجو أنْ أطأَ بِعرجتي هذه إلى الجنةِ.

ما ضر عرجته! سما فيها السما *** والقاعدون عن السبيل تمنعوا

 

العلم يهتف بهم فيجيبون أما أنت؟........

ماذا يريد ابن حُمامٍ وهو يجيب داعي الحمام حين ألقى ثمراته بعد أن سمع الذي سمع من نبي الهدى -عليه الصلاة والسلام- حين قال لهم: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض" يجيب داعي الجهاد في سبيل الله، وهو ينظر إلى تمراته نظرة مودع وينظر إلى دنياه نظرات استخفاف ويقول لتمراته: "والله إنها لحياة طويلة إن أنا حييت حتى آكل هذه التمرات القليلات"، ثم انغمس غمسته الأخيرة.

 

باد هواك صبرت أم لم تصبرا *** وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى

كم غر صبرك وابتسامك صاحبا *** لما رآه وفي الحشى ما لا يرى

 

علم -رضي الله تعالى عنه- علم أمرًا فعمل به، واستبطأ الموت في تحقيقه "إنها لحياة طويلة" لحياة طويلة عند من ثبته الله عند العمل، لحياة طويلة أن يكون طول العمل هو الحادي.

يا من رجا طول الأمل الموت *** يأتي بغتة والقبر صندوق العمل

 

هلكت جارية في طاعون فرآها أبوها في المنام .. فقال لها: يا بنيه أخبريني عن الآخرة!! فقالت: يا أبتي قدمنا على أمر عظيم، وقد كنا نعلم ولا نعمل، والله لتسبيحة واحدة أو ركعة واحدة في صحيفة عملي أحب إليَّ من دنياكم هذه.

يدفن بعضنا بعضا ويمشي  *** أواخرنا على هام الأوائل

 

لقد كنا ندفن الموتى ولا نسمع صراخهم، وهم يستغيثون، هبونا من أعمالكم ما نتزود بها في الظلمات.

 

كنا نعلم ولا نعمل، إنها تختصر فلسفة المأساة، كنا نعلم أن هذا القبر هي محطة الركاب الأخيرة قبل ورود العرض الأكبر على الله، ولكننا لا نعمل على ظلمته ولا ما يضيئه وما يشيعه، كنا نعلم أن الآخرة هي المحطة الأخيرة، ونعلم أن الله -عز وجل- يقول لنا في محكم كتابه: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ)[الشورى: 47].

 

ولكننا لا نعمل بما نعلم ،كنا نعلم أن مجرد تسبيحة واحدة خير من الدنيا وما فيها، ومن زخرفها ومن ملكوتها، وأنها أسهل على اللسان من النفس، ولكنها ثقيلة شديدة، يا ويلهم أولئك الذين علموا فكان حجة عليهم.

 

كنا نعلم أن هذه الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولكنا جعلناها كل شيء، وجعلنا فيها محط آمالنا وركاب خلودنا، ولو قيل لأحدنا: إنك ستُخلد فيها لم يفعل أكثر مما فعل، فلم نعمل للدار الباقية.

 

كنا نعلم كثيرًا من الفضائل وما وسعنا العمل بها، ونحن لا نتحدث بمرض ولا موت ولا عجز إنما هي الأهواء والإحساس البارد، أدنى مقارنة خفية تبين الغبن العظيم، أول ما تنصب الموازين ويُسأل الناس يوم القيامة عن علمهم فيما عملوا به؟!

 

أخرج الترمذي عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه"، مقارنة خفية.

 

كنا نعلم أن "سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" لو اجتمعت ملائك السماء والأرض على أن يحصوا عشر معشار مخلوق واحد لله -عز وجل- لما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

أفيحصون رضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته؟!

إذاً ما هذه العقد على الألسنة؟!

 

كنا نعلم أن صيام يوم واحد يباعد الله به عن وجه صاحبه النار سبعين خريفا، ولكننا لا نصبر على ظمأ الهواجر، أفنصبر عن ظمأ يوم واحد مقداره ألف سنة مما يعد الناس!

 

كنا نعلم أن كثيرا من المشاريع الخيرية التي لا تكلفنا شيئا في الدنيا، ولكنها قد تكون الضمانة الرئيسية لخلودنا هناك ولكننا لا نعمل.

 

طالب علم أو مستقيم من عشرين سنة أو من ثلاثين سنة، ولكنه لا يغض بصره عن محارم الله.

 

طالب علم أو مستقيم، ولكنه يغتاب الناس، ولا تَكادُ تَمُرُ بِهم أيةٌ أوْ حديثٌ إلَّا سمعوهِ مِنْ قبلِ لكِنّهم أبعد النّاسِ عَنِ العمل..

 

لقدْ آنَ الأوانُ أنْ ننزعَ اللثامَ، لِثامِ الاستقامةِ الجوفاءِ، التي عَرَفَنا النّاسُ بها، وأنْ نَخلُقَ ميلاداً جديداً لِلعملِ.

 

أجبْ أيها القَلبُ العصيّ *** أكنتَ في هوى الدارِ مفتونٌ أمِ الخلدَ تأمل

إذا أرداك عِلمُكَ في مهاوٍ*** فليتكَ ثُمَّ ليتَكَ ما عَلِمتَ

 

لا يراك الله علمت شيئا ثم تخلفت عن العمل به، فالعلمُ صِنوانُ العملِ، هذه الذِكرى للذينَ يسمعونَ، وأمَّا الموتى فَيبعثُهُم اللهُ ثم إليهِ يرجعونَ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين العاملين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: لم يكن أبو عبد الرحمن السُلَميّ وأصحابُه يتفاخرونَ بحجم ما تعلموه بلْ كانوا كما قالَ أبو عبدِ الرحمنِ: "كُنّا إذا تَعلمنا عشرَ آيات مِنَ القرآنِ لمْ نتعلمْ العشرَ التي بعدها حتى نعرف حلالَها وحرامَها، وأمرَها ونهيَها"، قال أبو عبد الرحمن: "فتعلَّمنا العلمَ والعملَ جميعاً".

 

العلم يهتف بالعمل..

ليست مشكلتنا العظمى في يوم من الأيام هي العلم، كلنا ذاك الذي عنده حفظ ضروري مما تعلمه في الصغر وفي الكبر، ولكن مشكلتنا في العمل الأدنى لما تعلمناه.

 

إن المؤمنين هم أهل الاستجابة الحقة، وهم الذين إذا سمعوا داعي الله يقولون: "سمعنا وأطعنا"، إنهم الذين يعرفون الحكم الشرعي ثم يبادرون إلى العمل بمقتضاه مهما خالف أهواءهم ورغباتهم.

 

إن سبيل المؤمنين هو العمل، وإلا لم يكن للصحابة فضل عندما سكبوا أحب ما لديهم وهو الخمر، تشهد بذلك زقاق المدينة عندما أتاهم رسولُ رسولِ الله ليبلغوه الرسالة الصادقة "انتهينا .. انتهينا".

 

والله لم يتميز كبار هذه الأمة ولا أكابرها أو عظمائها بكبير علم مع أنهم كذاك، ولكن ميزتهم أعمال بها حقت كلمة الله -عز وجل- أنهم من أهل الخلود في الدنيا والآخرة، يقول رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه يوماً "لو جعلنا هذا البابَ لِلنِّساءِ، فيستجيبُ ابنُ عُمرَ -رضيَ اللهُ عنهما-، يقولُ نافعٌ: ما دخلَ منهُ ابنُ عُمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- حتى ماتَ".

 

يطلب علي -رضي الله تعالى عنه- من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خادمًا يخدمه، فيشير عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالذكر والتسبيح فيقول علي -رضي الله عنه-: "فما تركتها بعده"، قيل لعليّ: "ولا ليلةَ صِفِّينَ يا أبا الحسن؟ قالَ: ولا ليلةَ صِفِّينَ".

 

أخذوا الإجابة كابراً *** عَنْ كابرٍ فُرسانُ صِدقٍ

إذا قالتْ الأفواهُ *** شيئاً أجابتها الفِعالُ

 

يحدث النعمان بن سالم عن عمرو بن أوسٍ، قالَ حدَّثني عَنبسةُ بنُ أبي سُفيانَ في مَرضهِ الذي ماتَ فيهِ، بحديثٍ يَتسارّ إليهِ، قالَ: سمعتُ أمّ حبيبةَ -رضيَ اللهُ عنها- تقولُ سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "مَنْ صلى ثنتيَ عشرةَ ركعةً في يومٍ وليلةٍ بنى اللهُ لهُ بيتاً في الجنّةِ "، قالت أمّ حبيبةَ: فما تركتُهنّ منذُ سمعتُهنّ مِنْ في رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-.

 

وقالَ عنبسةُ: ما تركتُهنّ منذُ سمعتُهنّ مِنْ أمّ حبيبةَ، وقالَ عَمرُو بن أوسٍ: ما تركتُهنّ منذُ سمعتُهن مِنْ عنبسةَ، وقالَ النُّعمانُ بنُ سالمٍ: ما تركتُهن منذُ سمعتُهن مِنْ عَمرِو بنِ أوسٍ.

 

أخذوا الإجابة كابراً عَنْ *** كابرٍ فُرسانُ صِدقٍ

إذا قالتْ الأفواهُ شيئاً *** أجابتها الفِعالُ

 

يقولُ عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: "ما كَذبتُ منذُ عَلمتُ أنَّ الكذبَ يَشينُ صاحبَهُ".

ويقولُ البخاريّ: "ما اغتبتُ مسلماً منذُ احتلمتُ، وقدْ عَلمتُ أنَّ الغيبةَ حرامٌ".

 

وقد روي أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "نُبئتُ أنَّ بعضَ من يُلقى في النّارِ يتأذى أهلُ النّارِ مِنْ ريحهِ ونتنه، فيقول أهل النار له: ويلك ما كنتَ تعملُ في الدنيا ما يكفينا ما نحن فيه مِنَ الشّرِ حتى ابُتلينا بكَ ونتنِ رائحتِكَ، فيقولُ: "كنت عالما فلمْ أنتفعْ بِعلمي".

 

تُفٍ على هذه الدنيا، إنْ لمْ تكنْ زاداً تتزودُ بها لأخراك، واللهِ ما كانتْ تَغرُ مَنْ قبلنا أفتغُرُكَ؟! لقد كانوا يقولونَ لها: غُرّي غيرَنا غُرّي غيرَنا، وكانوا يَسخرونَ مِنَ الشيطانِ حتى في السكراتِ الأخيرة عندَ الموتِ.

 

يأتي الشيطانُ للإمام أبي عبدِ اللهِ أحمد بنِ حنبلٍ في سكرات موته يقول له متحسرًا: فُتَّني يا أُحَيمدَ، ما ظفرتُ منك بشيء كما ظفرتُ بِهم، فيقولُ الإمام -رضي الله تعالى عنه-: ليسَ بعدُ، ليسَ بعدُ.

 

لم يكونوا يهبوا فرصة لبطال أن يكبت أعمارهم أو يضيع أوقاتهم، ما هذه الدنيا إن لم تكن دار عمل واستجابة.

 

يهتف رب العزة "كل ليلة في السماء الدنيا فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟"

 

وبذا قس نفسك وغيرك باستجابة الداعي الكبير، يسألك الله في كتابه (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [البقرة: 245]، لا أن تقرضه السماع المبتور بل الأمل المبرور وتسمع داعي الله يهيب بك باسم الخيرية فيقول: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [آل عمران: 110].

فلا أمر ولا نهي ولكن *** رقاد سرمدي في رقاد

 

تطبع المنكرات من حولك فلا تحرك ضميرًا نائمًا، وتقنن المواثيق الكافرة التي يضيق بها على شرعة ابن عبدالله فلا تجد حراكا يقظا صادقا سليمًا، تقرأ المسلمة (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) فتخضع بالقول بل وتماكس بياع الحياء، وتصايح في الرجال، ولا تجد حرجا في مزاحمتهم بل ومعكاستهم.

 

تقرأ المرأة المسلمة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ) [الأحزاب: 59] فلا تدني جلبابها.

وتقرأ (وقَرنَ في بيوتِكُنَّ) [الأحزاب: 33] فتفر من بيتها!!

وتسمع قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية" فتكون كذلك.

 

إذا أنت لم ينفعك علمك لم *** تجد سوى النار مثوى الخاسر المتهتك

 

يناديك ربك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لتعمل مشرحة تختبر فيها قلبك، من أي شيء ركب قلبك بالله ليعرض هذا القلب عن ذاك النداء

 

ليست المسألة بكل هذه الاستحالة، ولن تحتاج لطاقم طبي يفحص لك عن قياس سرعة الاستجابة في نفسك ليدلك على كيفية التحكم بالأوامر التي تأتيك.

 

وما كانت هذه الأجيال ولا الأجيال اللاحقة ولا السابقة بحاجة لكل هذا الزخم من العلوم العظيمة قدر حاجاتها لتطبيق الأوامر العليا من رب الجنة والناس.

 

بل يكفيك قول الله -عز وجل- وإن لم يكفك فلا كفاك شيء: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور:51].

 

لم يكن أبو بكر -رضي الله عنه- بحاجة إلى أن ينفذ قسمه الكبير حين أقسم بالله -عز وجل- أقسم بالله "والله لا أنفق على مسطح بن أثاثة"، حين قذف ابنته عائشة -رضي الله تعالى عنها وعن أبيها- في حادثة الإفك، وكان قريبًا له مسكينا.

 

فلما أنزل الله -عز وجل- قوله: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور:22]، لم يتردد ولم يكن بحاجة إلى تأويلها لينجو أبو بكر من حنثه بل كان أول المسارعين لنزع فتيلة التكبر الشيطانية قائلاً وسامعًا "بلى والله إني لأحب أن يغفر لي"، ثم يسارع في عود نفقته لمسطح.

 

نفوس طابت وطاب أريجها*** فأريجها الأقوال والأفعال

 

أما كان أبو طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- حين أخرج زوجته أم طلحة من حديقته لما سمع قول الله -عز وجل-: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92] بحاجة إلى أن يسوّف في قراره ويستغني عنه بأي مال يخرجه حتى ينال به وصف البر، كلا وربي فلم يكونوا يتحججون بـ (لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) [المنافقون: 10]، بل كانوا يتمثلون (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء: 77].

 

أم كان عمر -رضي الله تعالى عنه- كما أخرج أحمد في مسنده حين قدم على رسول الله بكتاب ليس به إلحاد ولا تهوك إنما كتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، أو كان عمر -رضي الله تعالى عنه- بحاجة إلى أخذ ورد مع رسول الله؟ بل كان الجواب على مقدار الخطأ "أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ, وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً".

 

أو كان عمر بحاجة إلى أن يعتذر ويتعذر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه يريد أن يعرف الشر، أم كان عذره لرسول الله أن يا رسول الله لا تقم الوصاية على عقلي، ولا تستخف بي، فعقلي له الأهلية الكبيرة في علم الصحيح من السقيم! كلا، فهذا العبقري الذي لم يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبقريًّا يفري فريه لم يكتب له الضمانة ألا يسقط في هوى الأشراك.

كانوا يقولون: سمعنا وأطعنا..

 

وإن أعطيت فيه طويل باعٍ *** وقال الناس إنك قد علمتَ

فلا تأمن سؤال الله عنه *** بتوبيخ: علمتَ فما عملتَ

إذا ما لم يفدك العلم خيرا *** فخير منه أن لو قد جهلتَ

إذا أرداك علمك في مهاوٍ *** فليتك ثم ليتك ما علمتَ

 

اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن عمل لا يرفع، ومن دعاء لا يسمع ..

 

 

 

المرفقات
كنا نعلم ولا نعمل.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life