عناصر الخطبة
1/حال الناس قبل توحيد المملكة 2/ما من الله به علينا بعد توحيد المملكة 3/من مظاهر الحب الحقيقي للوطن 4/المواطنة الحقة وحقوق الوطناقتباس
آن لنا أن ندرك أن الأمن والتلاحم والرخاء الذي نعيشه ونتفيأ ظلاله، إنما هو منحة ربانية ومنة إلهية، مربوطة بأسبابها ومقوماتها، والتي من أعظمها إقامة شرع الله، وتنفيذ حدوده، والاعتزاز بعقيدة التوحيد ومناصرتها والدعوة إليها، ومحاربة البدع بكل مسمياتها...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله مسبغ النعم، ومحيي الرمم، وموجد الناس من عدم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أرأف من ملك وأعدل من حكم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الورى وقدوة الأمم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة القمم، وسلم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله -يا مسلمون- فمن اتقى الله وقاه ورزقه وكفاه، وبتقوى الله صلاح الحال والمآل، والعاجل والآجل، والحاضر والمستقبل، واشكروا نعم ربكم؛ (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)[سبأ: 15].
تحدث الآباء والأجداد عن زمن كان الناس فيه خائفين، لا يأمن الإنسان على نفسه ولا على ماله ولا على عرضه، ولو كان في قعر بيته حدث الآباء والأجداد عن زمن جوع ومسغبة؛ أكل الناس فيه الميتة والجيف، وهمّ بعضهم بأكل بعض!.
حدث الآباء والأجداد عن زمن صار في كل بلدة أمير للمؤمنين ومنبر، يصبحون على حاكم ويمسون على آخر، في مشاهد دامية، وصراعات قبلية، وتنافسات فوضوية!.
حدثنا الآباء والأجداد عن زمن كانت فيه البلاد صحراء قاحلة، وأهلها يشدون الرحال ويغيبون السنوات الطوال؛ ليبحثوا عن لقمة عيش تسد الرمق، وتخفف من القلق.
حدثنا الآباء والأجداد عن زمن كثرت فيه الأوبئة والأدواء؛ حتى خلت بيوت من أهلها، لا يجدون من يداويهم أو يؤويهم.
حدثنا الآباء عن رحلات للحج مخوفة، الذاهب فيها مفقود، والعائد مولود؛ لكثرة قطاع الطرق والمتربصين.
ثم أذن الله لهذه الأرض المباركة، فتوحد شملها، واجتمعت كلمتها، وتبدل الخوف أمنا، والوباء عافية، والفقر غنى، والجفاف رخاء، والتشتت اجتماعا، والاختلاف تآلفا، والنزاع تلاحما، الدولة واحدة، وقيادتها واحدة، دينها واحد، ومنهجها واحد؛ (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)[سبأ: 15].
هكذا كنا ثم صرنا، ليعلم الله من يشكر ومن يكفر؛ (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[لقمان: 12]
يا ساكن هذا البلد الأمين: حلق بفضاء بصرك وبصيرتك؛ لتعرف موقعك ومكانة بلدك، فسيأتيك الجواب من رب العالمين: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت: 67]، فمن حولك وغيرُهم في خريطة هذا العالم يتخطفهم قتل وخوف، ويعيشون في قلق ورعب وعنف، وسيأتيك الجواب من رب العالمين: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص: 57]، ففي خريطة هذا العالم جوع ومسغبة وأجساد تتهاوى؛ من سوء الغذاء وقلة الدواء.
يا ساكن هذا البلد الأمين: حلق ببصيرتك وعقلك في فضاء الزمان والتاريخ؛ لتعرف كيف كنت؟ ثم كيف أصبحت؟ ليأتيك الجواب في كتاب رب العالمين: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ)[الأنفال: 26]، وليأتيك البيان: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)[آل عمران: 103]، ولتظهر حقيقة القرآن (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 63].
نعم يا مسلمون: من نحن إن لم ينعم الرحمن علينا بالأمن والعافية ورغد العيش وتآلف القلوب؟ (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا)[النور: 21]، فورب السماء والأرض ما نحن إلا كالأنصار يوم أن وقف فيهم -صلى الله عليه وسلم- خطيبا في حنين قائلا: "يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟"، قالوا: بلى، الله ورسوله أمَنّ.
فلنتذكر ما كانت بلادنا عليه ثم ما آلت إليه، ولنتبع التذكر بالحمد والشكر قولا وفعلا لله الخالق، حيث كنا عالة فأغنانا، ومشردين فآوانا، وجياعا فأطعمنا، وخائفين فأمننا، وأذلة فأعزنا، ومتفرقين فجمعنا.
إننا -بحمد الله- في بلادنا ننعم بكثير من وسائل اجتماع الكلمة ووحدة الصف، فلدينا عقيدة تحدد علاقة الراعي بالرعية، ولدينا مبادئ ومثل، تنظم سير حياتنا، وتلزمنا بحقوق نحو الوطن وولاته وساكنيه، فإذا أردنا أن ينمو الولاء، ويتجدد الحب للوطن، ويتحقق الحفاظ على مكتسباته ومقدراته؛ فلنعمل على بناء الإنسان المسلم الصالح عقيدة وسلوكا.
إن اصدق الناس وطنية أصدقهم تدينا؛ فالمتدين الحق يبني ولاءه لدينه ووطنه وولاته ومجتمعه، على أسس عقدية ثابتة لا تغيرها المصالح، ولا تبدلها الأهواء، وإن الذي يزعم حب الوطن حباً مجرداً من مبادئ الإسلام وضوابطه فهو كاذب في زعمه، خائن لوطنه وأمته، وهو أول من يفر من معركة الذب عنه والدفاع عن حرماته؛ لأنهم أصحاب مصالح؛ (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)[التوبة: 58]، وإن العلائق الدنيوية والمصالح المادية لا يمكن أن تصنع ولاء صادقاً، بل سرعان ما تذوب تلك الولاءات عند أول تيار ساخن يعصف بها.
إن هذا الوطن سفينة، وحكامه ربانها، والناس ركابها، وإن الحب الحقيقي لهذا الوطن يكون بالحفاظ على هذه السفينة، وحمايتها من العابثين الذين يريدون خرقها؛ ليغرقوا أهلها بطوفان الفساد والمنكرات، التي لا ينتج عنها إلا جيل هزيل غارق في الشهوات، لا يحمي بلدا ولا يدافع عن حمى.
الحب الحقيقي للوطن يكون بالحرص الأكيد والعمل الجاد في نشر العقيدة الصحيحة؛ ليتحقق للناس الأمن الحقيقي؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].
المواطنة الحقة تتطلب قيام الكوادر الخيرة من علماء ودعاة بدورهم المأمول في بث القيم الفاضلة والمثل العالية في أوساط المجتمع المسلم، ودعوة الناس إلى الدين الحق وفق منهج السلف الصالح، ومن ذلك أن الوطن دين ودولة، وراع ورعية، وحقوق وواجبات، وأمانة ومسؤولية؛ (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ)[البقرة: 283]، ولنرفع راية الشكر لرب العالمين على ما ننعم به قولا وفعلا وسلوكا؛ (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[لقمان: 12].
أقول هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا ساكن هذا البلد الأمين، يامن يتقلب في ثراه، وينعم بأمنه ورخائه، ويسعد بوحدته وتآلفه: إن مما تميزت به هذه الأرض المباركة ذلك الأمن الوارف، والتلاحم النادر، والتآلف المميز؛ (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[الحجرات: 8].
إن قدرنا أن ننعم في هذه الحياة بالأمن متى استقمنا على شريعة الله، وأن نحرمه متى انحرف بنا المسار عن الله ومنهجه، فإن حدنا عن منهجه حصل خلل واضطراب؛ يؤدي هذا الخلل إلى فساد وإفساد، كما حدث للأمم من قبلنا ومن حولنا عندما تركت شرع الله ودينه؛ فحل فيها الخصام محل الوئام، وزرعت في نفوس أهلها البغضاء، بعد أن كانت تظللها المحبة والألفة والإخاء، (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ)[المائدة: 14].
الإيمان هو الذي يحقق الأمن للمجتمع ويقيه من الأخطار، فإذا تخلى أبناء ذلك المجتمع عن دينهم وكفروا نعمة ربهم؛ أحفت بهم المخاوف من كل جانب، وانتشرت بينهم الجرائم، وهذه هي السنة الربانية.
إن من حق وطننا أن نحمي ثغوره، وأن نستجلب أمنه ورخاءه، ووالله الذي لا إله غيره لن تنعم أمة بالأمن إلا بالإيمان، ولن تستجلب الأمن بقوة عسكرية ولا بشرية ولا اقتصادية، فقد فشلت كل هذه الوسائل، وأفلست كل نظم الأرض وحيل البشر، فلم تستطع توفير الأمن، وانظر إلى الغرب مثالا وجرائم القتل والسرقة والاغتصاب تحصى عندهم بالثواني واللحظات!.
لقد آن لنا أن ندرك أن الأمن والتلاحم والرخاء الذي نعيشه ونتفيأ ظلاله، إنما هو منحة ربانية ومنة إلهية، مربوطة بأسبابها ومقوماتها، والتي من أعظمها إقامة شرع الله، وتنفيذ حدوده، والاعتزاز بعقيدة التوحيد ومناصرتها والدعوة إليها، ومحاربة البدع بكل مسمياتها.
ولكي نحمي أرضنا ويدوم أمننا فلا بد من تربية الأمة رجالها ونسائها على طاعة الله، والاستقامة على شرعه، والبعد عن معصيته، واجتناب المنكرات وهجر مواقعها، والنأي بالأهل والذرية عن معاطنها، فالمؤمنون حقا إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه؛ (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)[الفرقان: 72]، وعندما تستقيم النفوس على طاعة الله -سبحانه-، ويعرف كل إنسان حقوقه وواجباته، وتعمر قلوب المؤمنين محبة الله ورسوله، والشفقة على العباد، ويسود التكافل والتراحم بين أبناء المجتمع؛ فما أسعد هذا المجتمع وأهنأه!.
وإن أمننا ورخاءنا لا يتحقق إلا بوجود الأمن الفكري؛ وذلك بحماية الأجيال الناشئة وشباب الأمة من دعوات التغريب، ودعايات الفساد والإفساد، وتحصينهم من غمرات الغلو، ودركات الانحلال والإلحاد.
لكي يتحقق الأمن لابد من حماية شباب الأمة وتحصين أفكارهم من الهجمات التقنية التي تسمم العقول، وتحرف السلوك، وتسيء إلى الدين، وتقضي على الأصالة وتشكك في الولاء وصدق الانتماء.
حينما نصدق مع الله يصدقنا الله؛ (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)[التوبة: 111]، وحينما نحقق شرط الله يتحقق موعوده؛ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)[النور: 55].
التعليقات