عناصر الخطبة
1/فداحة خسارة أهل النار 2/عظم النار وحجم الكفار فيها 3/بعض الذنوب المتحقق دخول أهلها النار 4/بعض الذنوب المتوعد أهلها بالنار 5/تفاوت عذاب أهل النار 6/أصناف وأنواع عذاب أهل النار 7/بعض الأحوال المأسوية لأهل النار 8/بعض صور العذاب النفسي لأهل الناراهداف الخطبة
اقتباس
النار -عباد الله-: دار الذل والهوان، والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، دار أهلها أهل البؤس والشقاء، والندامة والبكاء، والأغلال تجمع بين أيديهم وأعناقهم، والنار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم، شرابهم من حميم يصهر به ما في بطونهم والجلود، وأكلهم شجر الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، يدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ويسألون...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
إكمالاً لخطبة الجمعة الماضية، والتي كانت عن النار -عافانا الله وإياكم منها- فاستكمالاً، نقول: بأن النار هي الدار التي أعدها الله للكافرين، المتمردين على شرعه، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه، وسجنه الذي يسجن فيه المجرمين.
وهي الخزي الأكبر، والخسران العظيم، الذي لا خزي فوقه، ولا خسران أعظم منه: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)[آل عمران:192].
(قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[الزمر: 15].
وكيف لا تكون النار كذلك، وفيها من العذاب والآلام والأحزان، ما تعجز عن تسطيره الأقلام، وعن وصفه اللسان: (إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)[الفرقان: 66].
(هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ)[ص: 55].
النار -يا عباد الله- شاسعة واسعة، بعيد قعرها، مترامية أطرافها، الذين يدخلونها أعداد لا تحصى، الذين يدخلونها يكون ضرس الواحد منهم في النار مثل جبل أحد، وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام.
ومع ذلك، فإنها تستوعب هذه الأعداد الهائلة التي وجدت على امتداد الحياة الدنيا، من الكفرة والمجرمين، ويبقى فيها متسع لغيرهم؛ روى البخاري ومسلم، حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، وينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قطٍ قط، بعزتك وكرمك".
عباد الله: هل تعلمون أن نار جهنم تتكلم وتبصر؟
قال تعالى: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)[الفرقان: 12].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج يوم القيامة، عنق من النار، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، تقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين"[رواه الترمذي].
أيها المسلمون: هناك ذنوب متوعدٌ صاحبها بالنار، وهناك ما هو متحقق دخوله نار جهنم -والعياذ بالله- نذكر بعضها:
أولها وفي مقدمتها: الكفر والشرك بالله -جل وعلا-: قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة: 39].
وقال جل وعز عن الشرك: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)[المائدة: 72].
ومما توعد صاحبه بالنار: النفاق: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)[النساء: 145].
(وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ)[التوبة: 68].
ومن الذنوب: الكبر: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول الله -تعالى-: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار".
ومن الذنوب والكبائر التي متوعد صاحبها بالنار، وهي بلية هذا الزمان، ومصيبتها العظمى: الربا: (وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة: 275].
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)[آل عمران: 130- 131].
ومن الذنوب أيضاً: أكل أموال الناس بالباطل: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا)[النساء: 29- 30].
ومن الذنوب: عدم دفع الزكاة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)[التوبة: 34- 35].
ومما قد يُدخِل النار: الغفلة عن الآخرة والرضا، والاطمئنان بالدنيا: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[يونس: 7- 8].
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[هود: 15].
ومما توعد صاحبه بالنار: الركون والميل إلى الظلمة: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)[هود: 113].
الإجرام بكل صوره وأشكاله من الذنوب التي توعد صاحبه بالنار: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ)[إبراهيم: 49- 50].
(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)[الكهف: 53].
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)[القمر: 47].
فليفكر كل مجرم في حاله، وليتذكر هذه الآيات، خصوصاً إذا كان إجرامه في حق غيره!.
ومما متوعد صاحبه بالنار: استبدال نعمة الله بالكفر، بل وإلزام الآخرين بذلك: قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ)[إبراهيم: 28- 29].
ومما قد يوجب النار: الفسق بكل أنواعه ودرجاته: (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ)[السجدة: 18- 20].
ومما متوعد صاحبه بالنار أيضاً: معصية الله ورسوله: قال تعالى: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)[الجن: 23].
(وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)[النساء: 14].
ومما متوعد صاحبه بالنار -والعياذ بالله-: إضاعة الصلوات، وعدم الاهتمام بها، وهذا لا يكون إلا عن طريق إتباع الشهوات: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مريم: 59].
ومن الذنوب التي يستحق فاعلها النار: الذي يقطع شجرة السدر الذي يستظل به الناس: عن عبد الله بن حبيش قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قطع سدرة، صَوّب الله رأسه في النار"[رواه أبو داود].
هذا الذي يقطع ظل شجرة ينتفع الناس بها، فكيف بالذي يقطع ظل الشريعة؟!
ومن الأمور أيضاً -يا عباد الله- المتوعد صاحبها بأن يعذب بسببه في نار جهنم، وهذا خاص بطلاب العلم، وهو: عدم الإخلاص في طلب العلم: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة"[رواه ابن داود والحاكم] -يعني ريحها-.
وعن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا تماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، من فعل ذلك فالنار النار"[رواه ابن ماجة وابن حبان].
عباد الله: النار موعود بها: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، والمصدق بالسحر، والمنان، والنمام، وما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار.
ومن أشد الناس عذابا طائفتان: المصورون الذين يضاهون خلق الله، والذين يعذبون الناس في الدنيا.
أيها المسلمون: إن أهل النار ليسوا على درجة واحدة من العذاب، فهم يتفاوتون، وكل بحسب ما قدم من الأعمال، يقول عليه الصلاة والسلام، فيما رواه مسلم في صحيحه فقال في أهل النار: "إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته".
وكذلك -يا عباد الله-: فليس كل أحد يعذب كالآخر، وأيضاً فصور العذاب تختلف؛ فمن المعذبين في جهنم -أجارنا الله وإياكم منها-: من يُحرق جلده، وكلما احترقت بُدّل بجلد آخر ليحترق من جديد، وهكذا دواليك: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء: 56].
ومن الناس من يصب الحميم فوق رأسه.
والحميم، هو ذلك الماء الذي انتهى حره، فلشدة حره تذوب أمعاؤه: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ)[الحـج: 19].
ومن الناس من يأتيه العذاب عن طريق وجهه، وأكرم ما في الإنسان وجهه، ولذلك نهانا الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ضرب الوجه.
ومن إهانة الله لأهل النار؛ أنهم يحشرون في يوم القيامة، على وجوههم عمياً وصماً وبكماً: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)[الإسراء: 97].
ويلقون في النار على وجوههم: (وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[النمل: 90].
ثم إن النار تلفح وجوههم، وتغشاها أبدا، لا يجدون حائلاً يحول بينهم وبينها: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ)[الأنبياء: 39].
(أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ)[الزمر: 24].
وانظروا -يا عباد الله- إلى هذا المنظر، الذي تقشعر لهوله الأبدان، وهو قول الله -عز وجل-: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)[الأحزاب: 66].
أرأيتم كيف يقلب اللحم على النار؟ كذلك تقلب وجوههم في النار -نعوذ بالله من عذاب أهل النار-؟!
ومن الناس من يسحب في النار: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)[القمر: 47- 48].
والذي يزيد في العذاب أنهم حال سحبهم في النار، يكونون مقيدين بالقيود والأغلال والسلاسل: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)[غافر: 71- 72].
ومن الناس من يسود وجهه في النار؛ بفعله السيئات في الدنيا: (وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[يونس: 27].
أما سمعت بأهل النار في النار *** وعن مقاساة ما يَلقُون في النار
أما سمعت بأكباد لهم صَدَعت *** خوفاً من النار قد ذابت على النار
أما سمعت بأغلال تُناط بهم *** فيسحبون بها سحباً على النار
أما سمعت بضيقٍ في مجالسهم *** وفي الفرار ولا فرار في النار
أما سمعت بحياتٍ تدبُ بها *** إليهم خُلقت من خالص النار
أما سمعت بأجسادٍ لهم نَضجت *** من العذاب ومن غليٍ على النار
أما سمعت بما يُكلَّفون به *** من ارتقاء جبال النار في النار
حتى إذا ما علوا على شواهقها *** صُبوا بعنف إلى أسفل النار
أما سمعت بزقوم يُسوغه ماءٌ *** صديدٌ ولا تسويغ في النار
يسقون منه كؤوساً مُلئت سقما *** ترمي بأمعائهم رمياً على النار
يشوي الوجوه وجوهاً ألبست ظُلماً *** بئس الشراب شرابُ ساكن النار
ولا ينامون إن طاف المنام بهم *** ولا منام لأهل النار في النار
إن يستقيلوا فلا تقال عثرتهم *** أو يستغيثوا فلا غياث في النار
وإن أرادوا خروجاً رُدّ خارجهم *** بمقمع النـار مدحوراً إلى النار
فهم إلى النار مدفوعون بالنار *** وهم من النار يهرعون للنار
ما أن يخفف عنهم من عذابهمُ *** ولا تفتر عنهم سورة النـار
فيا إلهي ومَن أَحكامه سبقت *** في الفرقتين من الجنات والنار
رحماك يا رب في ضعفي وفي ضعتي *** فما وجودك لي صبرٌ على النار
ولا على حر شمس إن بَرزتُ لها *** فكيف أصبر يا مولاي للنار
فإن تغمدني عفوٌ وثقت به *** منكم وإلا فإني طعمةُ النار
ما ظنك بعذاب دار أهون أهلها عذاباً من كان له نعلان يغلي منهما دماغه! ما يرى أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم؟!.
أما حال أهلها، فشر حال، وهوانهم أعظم هوان، وعذابهم أشد عذاب!.
وما ظنك بقوم، قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة! لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، حتى انقطعت أعناقهم عطشاً، واحترقت أكبادهم جوعاً، ثم انصرف بهم إلى النار، فيسقون من عين آنية، قد آذى حرها، واشتد نضجها، فلو رأيتهم وقد أسكنوا دار ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، يسحبون فيها على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، والنار من تحتهم، والنار عن أيمانهم، والنار عن شمائلهم: (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)[الأعراف: 41].
فغطاؤهم من نار، وطعامهم من نار، وشرابهم من نار، ولباسهم من نار، ومهادهم من نار، فهم بين طبقات النيران، وسرابيل القطران، وضرب المقامع، وجر السلاسل يتجلجلون في أوديتها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشها، ويطوفون بينها وبين حميم آن، تغلي بهم كغلي القدر، وهم يهتفون بالويل، ويدعون بالثبور: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ)[الحـج: 19].
يتفجر الصديد من أفواههم، وتتقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود عيونهم وأهدابهم: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء: 56].
أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم من أسرها فكاك، فما حال دار إذا تمنى أهلها تمنوا أن يموتوا؟
كيف بك لو رأيتهم وقد اسودت وجوههم؟
فهي أشد سوادا من الحميم، وعميت أبصارهم، وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم، ومزقت جلودهم، وغلّت أيديهم إلى أعناقهم، وجمع بين نواصيهم وأقدامهم، يمشون على النار بوجوههم، ويطؤون حسك الحديد بأحداقهم، ينادون من أكنافها، ويصيحون من أقطارها: "يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك العدمُ خير من هذا الوجود" فيجيبهم بعد ألف عام بأشد وأقوى خطاب، وأغلظ جواب: (إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)[الزخرف: 77- 78].
فينادون ربهم، وقد اشتد بكاؤهم، وعلا صياحهم، وارتفع صراخهم: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)[المؤمنون: 106- 107].
فلا يجيبهم الجبار -جل جلاله- إلا بعد سنين، فيجيبهم بتوبيخ أشد من العذاب: (قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)[المؤمنون: 108].
فعند ذلك أطبقت عليهم وغلقت، فيئس القوم بعد تلك الكلمة أيما إياس، فتزداد حسراتهم، وتنقطع أصواتهم، فلا يسمع لهم إلا الأنين والزفير والشهيق والبكاء، يبكون على تضييع أوقات الشباب، ويتأسفون أسف أعظم من المصاب، ولكن هيهات هيهات، ذهب العمل، وجاء العقاب.
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
عباد الله: النار وما أدراكم ما النار! لله ما أشد عذابها! وما أبأس أهلها! فأنى لهم باحتمال حرها وسمومها؟! أي جزء من أجسامهم يقوى على آلامها؟! كم تعلو لهم من صيحات، ويتردد منهم من صراخ؟! ولكن لا يجاب لهم نداء!.
يستغيثون من الجوع، فيغاثون بشجرة الزقوم، فيأكلون منها، فتنسلخ وجوههم، فإذا أكلوا منها ألقي عليهم العطش، فيستغيثون منه، فيغاثون بماء كالمهل، فإذا أدنوه من أفواههم أنضج حره الوجوه، فيصهر به ما في بطونهم والجلود، ويضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور!.
ويذكرون الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار، فينادونهم بطلب الغوث منهم: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)[الأعراف: 50- 51].
ويزيد في عذابهم تلك الخلقة التي زيدت فيهم؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب السريع".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام".
وهم في ذلك كله يتنقلون من عذاب إلى عذاب، ومن ألم إلى ألم، لا يفترون عن عويل وصياح: يا ويلنا! يا ويلنا!.
من يطيق زفرة من زفراتها؟ من يطيق لحظة من أيامها؟ من يطيق لفحة من لهيبها؟ من يطيق لقمة من زقومها؟ من يطيق شربة من حميمها؟ من يطيق الحجاب عن ربه -عز وجل-، وهو أشد عذابها؟!.
إلهـي لا تعذبـنـي فإنـي *** مقر بالـذي قـد كـان منـي
فمـالي حيلـة إلا رجائـي *** لعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من زلة لي في الخطايا *** وأنت علـيّ ذو فضـل ومنّي
إذا فكرت فـي ندمي عليها *** عضضت أناملي وقرعت سنّي
أجن بزهـرة الدنيـا جنوناً *** وأقطع طـول عمري بالتمنّي
ولو أني صدقت الزهد عنها *** قلبت لأهلهـا ظهـر المجـنّ
يظـن الناس بي خيراً وإني *** لشرّ الخلق إن لـم تعف عنّي
النار -عباد الله-: دار الذل والهوان، والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، دار أهلها أهل البؤس والشقاء، والندامة والبكاء، والأغلال تجمع بين أيديهم وأعناقهم، والنار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم، شرابهم من حميم يصهر به ما في بطونهم والجلود، وأكلهم شجر الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم.
يدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ويسألون ربهم الخروج منها فلا يكلمون، كيف لو أبصرتهم وهم يسحبون فيها على وجوههم وهم لا يبصرون؟! أم كيف لو سمعت صراخهم وعويلهم وهم لا يسمعون: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185].
جثت الأمم على الركب، وتبين للظالمين سوء المنقلب، انطلق المكذبون إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، وأحاطت بهم نار ذات لهب، سمعوا الزفير والجرجرة، وعاينوا التغيظ والزمجرة، ونادتهم الزبانية: (فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)[النحل:29].
الهاوية تجمعهم، والزبانية تقمعهم، في مضايقها يتجلجلون، وفي دركاتها يتحطمون.
(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ)[إبراهيم: 49- 50].
الأغلال في أعناقهم، والسلاسل يسحبون، وبالنواصي والأقدام يؤخذون، و: (فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)[غافر:72].
(يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ)[الحـج: 19- 21] فوق رؤوسهم.
تكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم.
(ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)[القمر:48].
طعامهم الزقوم والضريع: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ)[الغاشية:7].
شرابهم الحميم والغساق، والماء الصديد، يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء، ويملأ البطون: (يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ)[إبراهيم:17].
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)[فاطر: 37].
يتمنون الموت والهلاك، ولكن أين المفر؟ ومتى الفكاك؟!
(وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)[الزخرف: 77- 78].
ثم يعلو شهيقُهم، ويزداد زفيرهم، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فيعظم يأسهم، ويرجعون إلى أنفسهم (سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) نعوذ بالله ربنا من غضبه وأليم عقابه وعذابه.
التعليقات