عناصر الخطبة
1/حديث أدنى الناس منزلة في الجنة 2/الدروس والعبر من هذا الحديث 3/دعوة لعلو الهمةاقتباس
وَلَوْ أَمْعَنَّا النَّظَرَ، وَأَعْمَلْنَا الْفِكْرَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لأَوْلِيَائِهِ الصَّالِحِينَ، وَعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ؛ لَزَهِدْنَا فِيمَا فِي الدُّنْيَا، وَأَقْبَلْنَا عَلَى رَبِّنَا، وَصَدَّقْنَا بِمَا وُعِدْنَا،...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ نُزُلاً، وَنَوَّعَ لَهُمُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِيَتَّخِذُوا مِنْهَا إِلَى تِلْكَ الْجَنَّاتِ سُبُلاً، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: السَّعَادَةُ مَطْلَبُ الْجَمِيعِ، فَكُلٌّ يَنْشُدُ قَصْرًا رَضِيًّا، وَطَعَامًا شَهِيًّا، وَمَرْكَبًا وَطِيًّا؛ يَتَمَنَّى لِيَسْعَدَ بِزَوْجَةٍ حَسْنَاءَ جَمِيلَةٍ، وَمَلاَبِسَ جَذَّابَةٍ، وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ: أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَصِحَّةٌ وَفِيرَةٌ.
وَكُلُّهَا أَمَانٍ دَانِيَةٌ بِدُنْيَا فَانِيَةٍ تَعَلَّقَتْ بِهَا قُلُوبُ الْكَثِيرِينَ مِنَّا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)[النساء: 77].
وَلَوْ تَعَلَّقَتْ قُلُوبُنَا بِالآخِرَةِ، وَزَهِدْنَا في الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَحَصَلَتْ لَنَا السَّعَادَتَانِ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:97].
وَعَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ"(رواه مسلم).
وَلَوْ أَمْعَنَّا النَّظَرَ، وَأَعْمَلْنَا الْفِكْرَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لأَوْلِيَائِهِ الصَّالِحِينَ، وَعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ؛ لَزَهِدْنَا فِيمَا فِي الدُّنْيَا، وَأَقْبَلْنَا عَلَى رَبِّنَا، وَصَدَّقْنَا بِمَا وُعِدْنَا، لَنَنَالَ رِضَا اللهِ تَعَالَى، وَالْفَوْزَ بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ؛ مَنْزِلَةُ أَدْنَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَضْعَافِ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؛ فَعَنِ المُغِيرَةِ بْن شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عنْ رسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "سَأَلَ مُوسَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ربَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجنَّةِ مَنْزلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِل أَهْلُ الْجنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيقُولُ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ وقَدْ نَزَل النَّاسُ منَازِلَهُمْ، وأَخَذُوا أَخَذاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لهُ: أَتَرْضَي أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيا؟ فَيقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ ومِثْلُهُ، فَيقُولُ في الْخَامِسَةِ: رضِيتُ ربِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، ولَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رضِيتُ ربِّ، قَالَ -أَيْ : مُوسَى- : رَبِّ فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً؟ قالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ علَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بشَرٍ"(رواه مسلم).
فَإِذَا كَانَ هَذَا نَعِيمَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، فَكَيْفَ بِأَهْلِ الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى وَالْمَنَازِلِ الْعُلاَ، فَالْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ يَتَرَقَّى فِيهَا الْعَبْدُ بِحَسَبِ عَمَلِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَأَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً: هُوَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي أَمَرَنَا بِأَنْ نَسْأَلَ اللهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ".
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْفَعَ ذِكْرَنَا، وَتُصْلِحَ أَمْرَنَا، وَتُطَهِّرَ قُلُوبَنَا، وَتَغْفِرَ ذُنُوبَنَا، وَنَسْأَلُكَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا مِنَ الْجَنَّةِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ مِنْ حَدِيثِ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً: إِثْبَاتَ كَرَمِ اللهِ تَعَالَى وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ الَّذِي لاَ يُعَدُّ وَلاَ يُوصَفُ وَلاَ يُحَدُّ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْكَرِيمُ؛ الَّذِي جَعَلَ الْكَرَمَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ، يَغْفِرُ لِمَنْ عَصَاهُ، وَيُحِبُّ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَاتَّقَاهُ ؛ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ فَازَ وَغَنِمَ، وَمَنِ اتَّكَلَ عَلَى غَيْرِهِ خَابَ وَنَدِمَ، يَبْسُطُ يَدَيْهِ بِالْخَيْرَاتِ، وَيَجُودُ لِعِبَادِهِ بِالْعَطِيَّاتِ.
وَمِنَ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ: أَنَّ نَعِيمَ الدُّنْيَا مَهْمَا كَثُرَ وَتَنَوَّعَ لاَ يُقَارَنُ بِنَعِيمِ الآخِرَةِ، وَالْمُؤْمِنُ الصَّالِحُ النَّاصِحُ يَتَّخِذُ مِمَّا يَتَمَتَّعُ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا طَرِيقًا وَسَبِيلاً وَمُعِينًا إِلَى نَعِيمِ الآخِرَةِ، وَاللهُ عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ.
وَمِنَ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ: أَنَّ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَاتٍ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ هِيَ الْفِرْدَوْسُ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: ".. فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ"(متفق عليه).
وَهِمَّةُ الْمُسْلِمِ تَكُونُ دَائِمًا عَالِيَةً؛ يَطْمَعُ بِأَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَيَسْعَى لِتَحْصِيلِ أَوْفَرِ الْمَكَاسِبِ؛ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إِنَّ لِي نَفْسًا تَوَّاقَةً؛ كُلَّمَا أَدْرَكَتْ أَمْرًا تَمَنَّتْ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَلَقَدْ بَلَغْتُ الْخِلاَفَةَ وَإِنِّي لأَتُوقُ إِلَى الْجَنَّةِ".
فَكُنْ -أَخِي الْمُسْلِمُ- كَهِمَّةِ رَبِيعَةَ الأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "سَلْ" فَقَالَ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.
أَوْ هِمَّةِ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- السَّبْعِينَ الأَلْفِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلاَ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ؛ فَبَادَرَ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ".
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
التعليقات