اقتباس
تاريخ كذبة أبريل يشبه إلى حد كبير اسمها ووصفها!! فلا يُعلم على وجه التعيين كيف بدأ الاحتفال بهذا اليوم، وفي أي البلاد نشأ، والمؤرخون له أقوال كثيرة تكشف مدى تطابق العادة الذميمة مع المقولة السائرة "الكذب ليس له أقدام"، فليس لهذه العادة الذميمة أصل....
لابن خلدون-رحمه الله-كلاماً نفسياً يكتب بمداد الذهب في تفسير أحد أهم الظواهر الاجتماعية؛ ألا وهي ظاهرة التقليد والتشبه بالآخرين، وما نتج من آثار مدمرة عن هذه الظاهرة الخطيرة، حتى إنه -رحمه الله- خصص فصلاً مستقلاً لها في مقدمته التاريخية الشهيرة.
فقد قال في الفصل الثالث والعشرين من مقدمته: "إذا كانت أمّة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التّشبّه والاقتداء حظّ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنّك تجدهم يتشبّهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر للَّه".
وصدق العلاّمة فيما قاله، فإن التقليد الأعمى والتبعية هي أثر من آثار الانهزام النفسي وسبب من أهم أسباب السقوط والذوبان "الاستيلاء"-على حد وصفه-.
والتقليد بصوره المتباينة في الدين والاجتماعيات والعادات والثقافة ارتبط إلى حد كبير بحالة الأمة الإسلامية السياسية وموقعها بين الأمم وواقعها الحضاري، ففي حالات الضعف السياسي والتراجع الحضاري يغلب التشبه والتقليد إذ إن الحالة الحضارية تنعكس على الحالة الثقافية والأخلاقية طبقا للقاعدة التي أبرزها ابن خلدون، ولهذا بلغت حالات التقليد أقصاها في القرن الأخير الذي تسلط فيه خصوم الأمة عليها فاحتلوا أقاليمها ونهبوا خيراتها وحاربوا دينها ولغتها وأذابوا خصوصيتها إلى حد كبير.
والإسلام كعقيدة وشريعة عمل منذ بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- على بناء شخصية مستقلة ومتفردة ومميزة للمسلم، حيث صاغ الإسلام للمسلم شكل حياته بكل تفاصيلها ودقائقها في العام والخاص والتي لا تخطر على بال أحد من حيث الشمول والدقة والاتساع ومراعاة الثابت والمتغير في هذه الحياة. فالإسلام أراد منذ البداية أن يكون المسلم صاحب شخصية مقاومة لضغط الآخر ومحاولات التذويب والاحتواء، فالبناء العقدي والتشريعي والتعبدي والأخلاقي له خصوصية خاصة، ولعل من أظهر المعاني في هذا الصدد الحديث الذي يؤسس به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمة من خلال بناء الفرد على هذا المبدأ حيث قال-عليه الصلاة والسلام-: "لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءاتهم".
ومساحات الحلال والحرام، والجائز والممنوع، والمباح والمكروه في شريعة الإسلام ترسم للمسلم نطاقات الحركة بصورة متكاملة بحيث لا تجد فيها فراغات ينفذ منها المتربصون بالأمة والمستهدفون لها، وتلك المساحات المحكمة تعمل على تحصين المسلم من محاولات الآخرين الاستيلاء والتذويب، بحيث يستطيع المسلم بهذا الميزان الذهبي شديد الحساسية معرفة ما يمكن قبوله من منتجات الحضارات الأخرى الدينية والثقافية والاجتماعية وما لا يمكن قبوله.
والمتتبع لمسيرة الأمة الإسلامية يجد أن هذا السياج الحامي من شريعتها وعقيدتها قد تعرض لحملات ممنهجة عبر العصور من أجل إيجاد الثغرات التي تمكن أعداء الأمة من النزول بساحة المجتمعات الإسلامية وبث روح الهزيمة النفسية والشعور بالدونية لدى أبناء المسلمين، ولكن هذه الحملات لم تنجح إلا خلال القرنين الأخيرين، وهما قرني التأخر والتخلف الحضاري للأمة الإسلامية، وهما في نفس الوقت قرني نهضة الغرب وتقدمه وتفوقه على العالم الإسلامي، وهو التفوق الذي بلغ أوجه باحتلال الغرب لمعظم أقاليم العالم الإسلامي وفرض الغرب لثقافته وقيمه وعاداته وسلوكياته ولغته على المسلمين بقوة السلاح، وهذا الأمر أوجد على المدى الطويل جرح غائر في عزة المسلمين واستعلائهم، وأحدث شرخاً كبيراً في السياج الحامي للشخصية المسلمة المتفردة والمميزة والمستعلية في نفس الوقت، ومن ثم بدأت آفات التقليد والتبعية والهزيمة النفسية تؤتي أُكلها في أجيال الأمة جيلاً عقب جيل.
والإسلام جاء بشديد الانكار والتنفير من قضية "التقليد والتبعية" لغير المسلمين وغير المفيد في آن واحد، بل اتخذ الإسلام صنم التقليد والتبعية خصماً ووثناً يُعبد من دون الله حذر المسلمين منه وأمرهم باجتنابه والترفع عنه لأنه من الأسباب المباشرة للهلاك ورفض دعوة الحق وقبول الحق.
قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)[البقرة: 170-171]، وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا)[المائدة:104]، وقال:(قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ)[يونس: 78]، وقال:(إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ)[الأنبياء: 52-53]، وقال:(إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا)[الأحزاب: 67].
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر-رحمه الله-بعد أن ساق العديد من الآيات الناهية عن التقليد والتبعية:" قال: "وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد، كما لو قُلِّد رجل فكفر، وقُلِّد آخر فأذنب، وقُلِّد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها، كان كلُّ واحد ملومًا على التقليد بغير حجة؛ لأنَّ كلَّ ذلك تقليد يشبه بعضه بعضًا، وإن اختلفت الآثام فيه".
ومن أعظم أعلام النبوة في باب التقليد ما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعُنَّ سَنَنَ من كان قبلَكم، شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ تبعتُمُوهم"، قلنا: يا رسولَ اللهِ، اليهودُ والنصارى؟ قال:" فمَنْ؟".
وبلاغة النبي -صلى الله عليه وسلم- في اختيار جحر الضب مضرب الأمثال في الإعجاز اللغوي؛ فجحر الضبّ شديد القذارة، وله فتحة واحدة، ليس كباقي الحيوانات التي تحفر جحورها في الأرض وتصنع لها عدة فتحات لتخدع أعداءها وتستطيع الهرب منها، فجحر الضب كأنه مسكنه وقبره في نفس الوقت! لأن فيه مهلكة محققة إذا وقف على بابه عدو مفترس، حيث لا مهرب ولا مفر، فجمع جحر الضب القذارة والهلاك، ورغم تلك الحياة البائسة والمصير المظلم إلا إن المقلد سيسير على خطى الهلاك إلى النهاية، وهو واقع في الأمة لا محالة.
أصل كذبة أبريل
كذبة أبريل، أو يوم الخداع واللهو، نبتة خبيثة لم تنبت في أرضنا، ولا هي بنت ثقافتنا الشعبية، أو من إفرازات مجتمعاتنا، بل محض هراء وعبث تم استيراده من الغرب، ونزل بساحتنا رفقة الدبابات والمدرعات التي احتلت بلاد الإسلام في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
تاريخ كذبة أبريل يشبه إلى حد كبير اسمها ووصفها!! فلا يُعلم على وجه التعيين كيف بدأ الاحتفال بهذا اليوم، وفي أي البلاد نشأ، والمؤرخون له أقوال كثيرة تكشف مدى تطابق العادة الذميمة مع المقولة السائرة "الكذب ليس له أقدام"، فليس لهذه العادة الذميمة أصل يرجع إليه في تفسيرها ظهورها.
فقد رجحت بعض الأراء أن أصل هذا اليوم هو أن الكثير من مدن أوروبا ظلت تحتفل بمطلع العام في الأول من أبريل، حيث بدأت هذه العادة في فرنسا بعد تبني التقويم المعدل الذي وضعه شارل التاسع عام 1564م وكانت فرنسا أول دولة تعمل بهذا التقويم وحتى ذلك التاريخ كان الاحتفال بعيد رأس السنة يبدأ في يوم 21 مارس وينتهي في الأول من أبريل بعد أن يتبادل الناس هدايا عيد رأس السنة الجديدة. ثم جاء البابا جريجوري الثالث عشر بنهاية القرن السادس عشر وعدل التقويم ليبدأ العام في 1 يناير، وتبدأ احتفالات الأعياد من 25 ديسمبر، وأطلق الناس على من ظلوا يحتفلون حسب التقويم القديم تعليقات ساخرة لأنهم يصدقون (كذبة أبريل). في حين يرى آخرون أن هناك علاقة قوية بين الكذب في أول أبريل وبين عيد هولي المعروف في الهند بعيد الألوان الوثني، والذي يحتفل به الهندوس في 31 مارس من كل عام وفيه يقوم بعض البسطاء بمهام كاذبة لمجرد اللهو والدعاية ولا يكشف عن حقيقة أكاذيبهم هذه إلا مساء اليوم الأول من أبريل.
وهناك جانب آخر من الباحثين في أصل الكذب يرون أن نشأته تعود إلى القرون الوسطى إذ أن شهر أبريل في هذه الفترة كان وقت الشفاعة للمجانين وضعاف العقول فيطلق سراحهم في أول الشهر ويصلي العقلاء من أجلهم وفي ذلك الحين نشأ العيد المعروف باسم عيد جميع المجانين أسوة بالعيد المشهور باسم عيد جميع القديسين، وإن صحّ هذا التفسير فيكون لهذه العادة الذميمة بعداً دينياً يضفي مزيداً من الحرمة على المتشبه به. وبالجملة فإن كذبة أول أبريل لم تنتشر بشكل واسع بين غالبية شعوب العالم إلا في القرن التاسع عشر بسبب وقوع الكثير من دول العلم تحت الاحتلال الأوروبي الذي نشر ثقافته وعاداته داخل البلاد المحتلة، ومن ثم انتقلت هذه العادة الذميمة إلى بلاد الإسلام.
موقف الإسلام من كذبة أبريل
كذبة أبريل تلك العادة الذميمة التي يتساهل بها الكثيرون ويحرصون عليها في مطلع شهر أبريل من كل عام، اجتمع فيها ثلاث موبقات ومحرمات في معين واحد يجعل من هذه العادة المستوردة واحدة من أسوأ تجليات وتداعيات الاحتلال الأوروبي للعالم الإسلامي. فهذه العادة الذميمة اجتمع فيها التقليد الأعمى للغرب أو اليهود والنصارى بالتعبير النبوي والضبط الشرعي للوصف الكائن، وقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "من تشبه بقوم فهو منهم"، واجتمع فيها الانهزام النفسي أمام عادات المحتل وسلوكياته وأخلاقياته والانبهار بمنتوجاته الثقافية حتى ولو كانت محرمة وتافهة ومذمومة، واجتمع فيها خلق الكذب الذي هو أسوأ وأخبث الصفات البشرية، وأكثر الصفات المذمومة التي نهى عنها الشرع الحنيف وحذر منها وتظاهرت الدلائل الشرعية على تحريمها وشد النكير على المتصف بها.
فالكذب من شعب النفاق، ومن خصال المنافقين، فعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان".
والكذب ليس معدوداً من الصغائر كما يعتقد الكثيرون، بل هو من جملة الكبائر لكثرة ما ورد من نصوص في النهي عنه وتقبيح فاعله، وقد يكون كفراً وموجباً للخلود في النار بأن يكذب الإنسان ويفتري على الله-سبحانه-أو على رسله-صلوات ربي وتسليماته عليهم-قال تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)[النحل:116]، وعن علي -رضي الله عنه- قال: قال النبي- -صلى الله عليه وسلم-:" لا تكذبوا عليَّ ؛ فإنه من كذب علي فليلج النار".
والكذب من أجل ترويج التجارة والتكسب بالأيمان الكاذبة من جملة الذنوب العظيمة التي تستوجب عقاباً ثلاثياً من الله-تعالى-، فعن أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: "المسبل، والمنَّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".
بل وصل تحريم خلق الكذب الذميم لدرجة تحريم الكذب لو في المنام، وهو من أعجب التحريمات وأشد الإنذارات للتنفير من الكذب. فعن ابن عباس-رضي الله عنهما- عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "من تحلَّم بحلم لم يره كلِّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل". وأيضا جاءت الأدلة الصحيحة على حرمة الكذب على الأطفال وحتى على الدواب، حتى أن الإمام البخاري-رحمه الله-رفض قبول رواية من يكذب على دابته.
أما ما يعتذر به البعض من أن مقارفتهم لعادة كذبة أبريل الذميمة المستوردة، من باب المزاح والهزل وأن كذبهم لا يجلب نفعاً ولا يدفع ضراً. فهو من قبيل الحيل النفسية التي يلقيها الشيطان في قلوب العصاة لتبرير معاصيهم وتسويغ انبهارهم وتقليدهم الأعمى للغرب. فالشرع لا يعرف هذه الحيل الشيطانية، وجاء بسد المنافذ نحو المعاصي والمنكرات. فالكذب في المزاح حرام كالكذب في الجد. فعن ابن عمر-رضي الله عنه- قال: قال-صلى الله عليه وسلم-:" إني لأمزح ولا أقول إلا حقّاً".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: "إني لا أقول إلا حقا". وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يسيرون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسير فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى نبل معه فأخذها فلما استيقظ الرجل فزع فضحك القوم فقال: "ما يضحككم فقالوا لا إلا أنا أخذنا نبل هذا ففزع فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً".
فأين هؤلاء الحمقى السائرون كالعميان خلف كل ما يأتي من الغرب مهما كان قبحه؟! وأين المتشدقون بحضارة الغرب وما وصل إليه من رقي ونهضة وهم يرون عاداتهم الذميمة في الكذب والاحتيال وترويع الآمنين، فقط من أجل انتزاع الضحكات والسخرية من ردّ فعل المروعين؟
التعليقات