عناصر الخطبة
1/ وجوب شكر نعمة إدراك رمضان 2/ فضائل شهر رمضان 3/ الحث اغتنام رمضان بأفضل الأعمال 4/ من أبواب الخير في رمضان 5/ بعض الأحكام الفقهية في صيام رمضان وقيامه 6/ زجر المشككين في المواقيت.اهداف الخطبة
اقتباس
أيّها المسلم! استقبِل هذا الشهرَ بالفَرَح والسرور، واحمَدِ الله على هذه النّعمة، استقبله بتوبةٍ نصوح وإخلاصٍ لله في القول والعمل والدعاءِ الصالح وبذلِ المعروف وحسنِ الأخلاق والمحافظةِ على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعَة والتقرّب إلى الله بما يرضيه، فالنافِلة تعدِل فريضةً فيما سواه، والفريضةُ تعدِل سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهرٌ أوّلُه رحمة، وأوسطه مغفِرة، وآخره عِتق من النار، فمن فطّر فيه صائمًا كان له مثلُ أجورِ الصائم من غيرِ أن ينقصَ ذلك من أجور الصّائمين شيئًا، ومَن سقَى فيه ظمآن شربةَ ماء سقاه الله من حوضِ نبيِّه شربةً لا يظمَأ بعدها، فاستقبِلوه بالفرح والسرور، واحمدوا الله على إدراكه، واسألوا الله التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه، إنّه على كلّ شيء قدير.
الخطبة الأولى:
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله:
إنَّ كلَّ مسلمٍ موقنٌ بأنّ الله -تعالى- إنَّما خلَقَه لعبادَتِه، فالغايةُ مِن خلقِنا - معشرَ الثقلين الجنّ والإنس- عبادتُنا للهِ -جلّ وعلا- (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، تلك العبادةُ التي حقيقَتُها إخلاصُ الدِّين لله وتعلّقُ قلبِ العبد بربِّه محبّة وخوفًا ورجاءً، يعتقِد حقًّا أنّ الله وحدَه المستحقّ للعبادة دونَ ما سواه، فيكون دعاؤه لله ورجاؤه لله واستغاثته بالله واستعاذته بالله وخشيتُه وخشوعه لله -جلّ جلاله-، فقلبه متعلِّقٌ باللهِ في كلِّ أحوالِه.
ثمّ إنّه -تعالى- رحِم العِبادَ بأن شرَعَ لهم عباداتٍ متنوّعةً، شرَع لهم عباداتٍ ونوّع لهم تلك العباداتِ، وحِكمته -تعالى- مِن شرعِها ليزدادَ الإيمانُ وتتضاعَف الأجورُ وتقوَى الرّغبةُ في الخير، وسبحان الحكيم العليم.
خَلقُ الثقلين لم يكن سَفَهًا ولعِبًا، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الدخان:38، 39]. حِكمتُه -تعالى- تأبَى أن يتركَ عبادَه سدًى بلا أمرٍ ولا نهي؛ لذا رحِم العبادَ فشرَع لهم عباداتٍ متنوِّعةً، كلُّ عبادةٍ من تلكم العبادات رتَّب عليها الأجرَ العظيم والعطاء الجزيل.
نوَّع العبادات تمحيصًا لإيمانِ المؤمن، فإنّ من عباد الله من يقبَل فرضًا ولا يقبَل آخر، والمسلمُ الحقّ يقبَل فرائضَ الله كلَّها، ويؤمِن بوجوبها، ويعتقِد ذلك، ويطبِّقها كما افترَض الله عليه، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:2، 3].
أيّها الإخوةُ:
فأعظمُ أمرٍ هو عبادةُ الله وإخلاصُ الدّين له، ثم بقيّةُ أركانِ الإسلام العمليّة ما بين عبادةٍ متعلّقة بذاتِ البَدَن كالصلوات الخمس، وعبادةٍ متعلِّقة بالمال كالزّكاة، وعبادةٍ متعلِّقة بالمال والبَدَن كالحجّ وكالجهادِ في سبيل الله، وعبادةٍ متعلّقة بكفّ النّفس عن مشتهياتِها وما تهوَى كعبادة الصيام. فإذا وفَّق الله العبدَ فاستكمَلَ أركانَ إسلامه بإخلاصٍ ويقين سهَّل الله عليه بقيَّةَ واجباتِ الإسلام وانقادَ لها عن قناعةٍ ورضا.
أيّها المسلم:
ومِن هذه الأركانِ الخمسةِ صيامُ شهر رمضانَ، فصيامُ شهرِ رمضان أحدُ أركانِ الإسلام التي بُنِي عليها الإسلام، في الحديث عنه قال: "بُني الإسلام على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ بيت الله الحرام"(البخاري: 8).
فصيام رمضان ركنٌ من أركانِ الإسلام بإجماع أمّة الإسلام. صيام رمضان عبادةٌ قديمة تعبَّدنا الله بها كما تعبّدَ بها مَن قبلنا من الأمم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، لكن لأمّةِ محمّدٍ في هذا الشهرِ مزيدُ فضلٍ وإحسان ليس لمَن قبلهم مِنَ الأمم، (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [آل عمران:74].
أيّها المسلمون:
يرتقِب المسلمون شهرَ رمضان، ويترقَّبون هذا الشهرَ بفرحٍ وسرور واغتباط وشكرٍ لله وثناءٍ عليه. أجل، يترقَّب المسلمون هذا الشهرَ بفرَحٍ وسرور واغتباطٍ وشكرٍ لله على هذه النّعمةِ العظيمة.
أيّها المسلم:
نَعم نفرَح برمضان، ويفرح المسلمون برمضانَ، لماذا هذا الفرح بهذا الشهر؟ فرِحوا به لعِلمِهم ما أعدَّ الله فيه من الثوابِ الجزيل والعطاءِ العظيم ومضاعفةِ الحَسَنات وتكفيرِ الخطايا والسيّئات. هذا الشهر المبارَك يستقبِله المسلمون بالفرَحِ والسرور، يسألون اللهَ أن يبلّغَهم رمضانَ، فإذا أدركوه وصاموه سأَلوا ربَّهم أن يتقبَّله منهم، يسألون اللهَ أن يسلِّمَهم لهذا الشهرِ ويسلِّمَ لهم هذا الشهرَ وأن يتسلَّمَه منهم متقبَّلاً.
أخي المسلم:
إدراكُ رمضانَ نعمةٌ من نِعَم الله وفضلٌ من فضل الله عليك، إذ أبقَى في عمرِك أن تدركَ هذا الشهر، فعسى توبة نصوح، وعسى رجوع إلى الله، وعسى إقلاع من الخطايا والسيئات، وعسى تكفير للخَطَايا ورفع للدّرجات، وعسى دُعاء مستجاب، وعسى عمَل مقبول.
أيّها المسلم:
نبيُّكم يرغِّب في رمضانَ ويبيِّن لأصحابِه فضائلَ هذا الشهر ومزايا هذا الشهرِ ترغيبًا لهم في صيامِه وحثًّا لهم على القيامِ بحقِّه.
أيّها المسلم:
من خصائصِ شهرِ رمضانَ أنّ صيامَه وقيامَه سببٌ لمغفرَةِ ما مضى من الذّنوب، يقول : "من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبِه"(البخاري 38).
و"من قام رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه"(البخاري 37).
مِن خصائصِ هذا الشّهر أن صيامَه يكفِّر ما بينه وبين رمضانَ الآخر من صغائرِ الذنوب، في الحديث: "الصّلوات الخمسُ والجمعةُ إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضان كفّارة لما بينهنَ إذا اجتُنِبت الكبائر"(مسلم: 233).
أيّها المسلم:
هذا الشهرُ العظيم يستقبِله الناسُ على حسَب اختلافِ مقاصدِهم ونيّاتهم، فمِن مستقبلٍ له ليكونَ ميدانًا للتنافُس في صالح العمل، ومن مستقبلٍ له بأن يشغلَه في تتبُّع غفَلات الناس وعوراتِ الناس والبحثِ عن زلاّتهم وخطاياهم، فيذهبُ الشهر وما استفاد منه خيرًا، يقول يومًا وهذا رمضان: "أهلَّ عليكم شهرُكم هذا، ما مرَّ بالمسلمين شهرٌ خير لهم منه بمحلوف رسول الله ، ولا مرَّ بالمنافقين شهرٌ شرّ لهم منه بمحلوفِ رسول الله ، إنّ الله ليكتُب أجرَه ونوافلَه قبل أن يُدخلَه، ويكتب إصرَه وشقاءَه قبل أن يُدخلَه، ذلكم أنّ المؤمنَ يُعدّ فيه القوتَ من النفقة للتّقوِّي على العبادةِ، ويعِدّ فيه المنافق تتبُّع غَفَلات الناس وعوراتهم، فهو غنمٌ للمؤمن" وفي لفظ: "فهو غنم المؤمن يغتَنِمُه الفاجِر"(أحمد: 2/374، وابن خزيمة: 3/188).
أيّها المسلم:
في هذا الشهر تُفتَح أبوابُ الجنّة الثمانيَة وتُغلَق أبواب النيران، وينادي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغي الشرّ أقصِر، ولله عتقاءُ من النّار كلَّ ليلةٍ، حضَر رمضانُ يومًا فقال لهم النبيُّ مبيِّنًا لهم فضلَه، قال فيه: "إنّه شَهرُ برَكَة يغشاكم الله فيه، فينزِل الرّحمةَ ويحطّ الخطيئةَ ويستجِيب الدّعاءَ، ينظر الله إلى تنافُسِكم فيه، فأروا اللهَ من أنفُسَكم خَيرًا، فإنَّ الشقيَّ من حُرِم فيه رحمةَ الله"(عزاه المنذري في الترغيب: 2/99).
أيّها المسلم:
كتَب الله صيامَه علَى المسلمين تَشريفًا لهم ورَحمَةً بهم وإحسانًا إليهم وتَفَضُّلاً عليهم بما تَفَضَّل عليهم به منَ الفَضل، نادَى أهلَ الإيمان بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، خاطبَهم باسمِ الإيمان، فالمؤمِنونَ هم المستجيبون السّامعون المطيعون المنقادونَ لأوامِرِ الله، (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ) وفُرِض عليكم الصيام (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، فلَستم بِدعًا من النّاس، لكنها عبادةٌ قديمة تعبَّد الله بها من قَبلكم، ولكم - يا أيتها الأمة- من الخير والفضلِ ما ليس لمن سبقكم من الأمَمِ فضلاً مِنَ الله ورحمة، (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
هنا يقف المسلم ليتأمّلَ الجزءَ من الآية: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، هذا الصومُ الذي تُعُبِّدنا به الغايةُ منه أن نحقِّق لنا جانبَ التقوى، وأن نكونَ بالصيام متَّقين لله، وكلُّ عباداتنا من صلاةٍ وزكاة وحجٍّ هي أيضًا تحقِّق التقوى، فلماذا خُصَّ الصيام بهذا فقيل: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)؟!
أجل أيّها المسلم:
يتجلّى التقوَى على حقيقَتِه في حقِّ الصائم، فالصّائمُ يدَع الطعامَ ويدَع الشرابَ ويَدع النساءَ من طلوعِ الفَجر الثاني إلى غروبِ الشمس، يترُك تلك الشّهواتِ التي تميل إليهَا نفسُه بالطّبع، لكنه يتركها طاعةً لله وقربَةً يتقرَّب بها إلى الله وطاعةً لربِّه في كلّ أحواله، فبذا يكون من المتّقين.
الصائم الماء والطعام والمرأة قريبٌ منه، وفي خلوةٍ لا يطّلع عليه إلا عالم السّرّ والعلانية ربّ العالمين، إذًا بالحامل له على اجتنابها علمُه باطّلاع الله عليه، خوفُه من الله إن انتهك حرمةَ هذا الشهر، (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46].
الصائم يمتنع عن هذه المشتهياتِ مقدِّمًا رضا ربه على هوى نفسه وشهواتها. الصائم يتركها فيعرف عظيمَ نعَم الله عليه، تركها باختياره مع وجودها عنده فهو يتذكّر من لا يملكها ولا يقدر عليها.
إنه يدعوك إلى البذل والعطاء والسّخاء والإنفاق في الخير، إنه يدعها فيروّض نفسَه على قبول الأوامر وترك النّواهي، فإذا تُعُبِّد بتركِ المشتهياتِ المباحة زمنًا فليعلَم أنه متعبَّد بتركِ النواهي في كلِّ العام.
أيّها المسلم:
إنّ الصيامَ لم يأتِ لتعجيزِ البَشَر ولا للتّثقيلِ عليهم، ولكن جاء رحمةً وإحسانًا بهم؛ ليحقِّقَ لهم الخيرَ ويسمو بهم إلى العُلا، ليربّيَ نفوسهم التربيةَ الإسلامية التي حقيقتُها الانقياد لشرعِ الله والخضوع لأمر الله.
أيّها المسلم:
واسمَع الله يقول: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [البقرة:183، 184]، ما افتُرِض العام كلّه، ولا ثلث العام، ولا سدس العام، وإنما افتُرِض شهر من اثنَي عشر شهرًا، معدودةٌ ما بين ثلاثين أو تسعٍ وعشرين يومًا.
ثم اعلم -أيّها المسلم- أنَّ المطالب بالصّوم هو المسلم البالِغ العاقِل القادِر المقيمُ، فهذا مطالَب بالصَوم أداءً في وقتِه، ومن تركه متعمّدًا دلَّ على نَقص الإيمانِ وعدَم الإيمان والتّصديق، فإن كان منكِرًا لوجوبه فذاك مرتدّ عن الإسلام والعياذ بالله، وإن كان مقرًّا بالوجوبِ فقد ارتكَب إثمًا عظيمًا وجُرمًا كبيرًا.
فالمسلم البالِغ العاقل القادِر المقيم مطالَب بالصّوم أداءً، أمّا الصغير غيرُ البالغ فليس بواجبٍ عليه، ولكن ترويضُه وتعويده على الصّيام قدرَ الممكن فذا حسَن لينشَأَ محِبًّا للصّوم وراغبًا فيه.
أيّها المسلم:
المسافِر له أن يفطِر في سَفَره، وله أن يصومَ في سفره، فإن أفطَر قابلاً للرُّخصة فلا شيءَ عليه، فأصحابُ محمّد يسافرون معَه في رمضانَ، فمنهم الصّائم ومنهم المفطر، فلم يعِبِ الصائم على المفطرِ ولا المفطرُ على الصائم. (أخرجه أحمد: 2/108، والبيهقي 3/140، وصححه الألباني في الإرواء 564).
ونبيّنا يقول: "إنّ الله يحبّ أن تؤتَى رخصُه كما يكرَه أن تؤتَى معصيته"(أخرجه أبو داود: 2403)، ومن صام لكونِه قادرًا ويخشَى من مشقِّةِ القضاء فلا شيءَ عليه.
وعن حمزة الأسلميّ قال: يا رسول الله، إني شابٌّ قويّ، ولي جمل أعالجه أكريه وأسافر عليه، وأجِد فيّ القوّةَ على الصيام وأخشى من تبِعات القضاء، قال: "يا حمزة، أيَّ ذلك فعلتَ"(أخرجه البخاري: 1915)، أي: فهو مجزئ. فإن صام المسافر فالصّوم جائز له وإبراء للذمة، وإن أفطر فالفطر له إن كان هذا السّفر سفرًا مباحًا في طاعةٍ أو عملٍ أو تجارة ما لم يكن سفرًا يُستعان به على معاصِي الله.
المريضُ يباح له الفِطر بنصّ القرآن: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة:184]، وهذا المريضُ يختلِف حاله، فهناك المريض العاجِز الذي قرَّر الأطبّاء عجزَه عن الصيام بصِفَةٍ دائمة، ولا يمكنه القضاء مطلقًا، كالمصابِين ببعض الأمراضِ المعلوم استمرارُها عافانا الله وإياكم، فهؤلاء يفطرون ولا قضاءَ عليهم، بل عليهم أن يطعِموا عن كلِّ يوم مسكينًا أي: كيلو ونصف من الأرز، خمسا وأربعين كيلو عن الشّهر كلّه، سواء دفعها في أوَّل الشهر أو في آخره.
أمّا المريض الذي مرضُه ليس بالأمراضِ المستمرَّة، بل هي أمراض عارضة، فإن كان هذا المرَض لا يؤثِّر صام، وإن كان يشقُّ عليه استحِبّ أن يفطِر، وإن كان المرَض يهدِّد حياتَه فإنّه يجِب عليه أن يفطرَ ويقضيَ أيّامًا أخر والله يقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [النساء:29].
المريضُ الذي يُصرَف له علاجٌ مستمرّ وقُرِّرت له أدويَةٌ يأخذها في ساعاتٍ متعدِّدة ككلِّ ستِّ ساعات أو نحو ذلك، إذا كان هذا العلاجُ ضروريًّا لا يمكن تأخيره بل تعاطيهِ في الأوقات المحدَّدة فإنه في حكمِ المريض يفطر، فإن قدر على الصيام، وإن تعذَّر القضاء أطعَم عن كلِّ يومٍ مسكينًا.
المرأةُ الحامِل والمرضِع إذا خافَت من ألَم الصّوم ولم تتمَكّن منَ الصّوم في حملِها أو إرضاعِها جازَ لها الفِطر والقضاء، فإن كان الأمر متعلِّقًا بذاتِ الجنين قضَت وأطعمت، وإن كان متعلِّقا بذاتها أفطَرت وقضَت ولا شيءَ عليها.
أيّها المسلمون:
هذا شرعُ ربِّ العالمين، لا آصار ولا أغلالَ، ولكن رحمة بالعباد وإحسان إليهم. كان الصّيامُ في أوّل الإسلامِ يُخَيَّر المسلم بين الصيامِ والإطعام، ثم أمَر الله بقولِه: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة:185].
وكانوا في أوّل الإسلام من أفطرَ له أن يأكلَ ويشربَ ويأتي امرأتَه ما لم ينَم أو يصلِّ العشاءَ، فحدَث أنّ أحد أصحاب رسول الله كدَح في يومه كلِّه وعمل، وجاء لامرأته ليلتمِس عشاءً فقالت: مضى الوقتُ ولا شيء عِندنا، فبات طاويًا جائعا، وأصبح صائمًا، فغُشيَ عليه في أثناء النهار لطولِ العمل وقلّة الزاد، فعند ذلك أباحَ الله لنا الأكل والشربَ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة:187] (أبو داود: 2313، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: 2028).
أحدُ الصحابة أتى امرأتَه في إحدى ليالي الصّيام، فاشتكى إلى رسولِ الله فأنزل الله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) [البقرة:187]، وقال: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة:187] (البخاري: 37، ومسلم: 759)، فأباحه في الليل وأبقى التحريم في النهار.
كلُّ هذا رحمةٌ من الله بنا وإحسانٌ منه إلينا، والله يقول: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) [البقرة:185].
أيّها المسلم:
استقبِل هذا الشهرَ بالفَرَح والسرور، واحمَدِ الله على هذه النّعمة، استقبله بتوبةٍ نصوح وإخلاصٍ لله في القول والعمل والدعاءِ الصالح وبذلِ المعروف وحسنِ الأخلاق والمحافظةِ على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعَة والتقرّب إلى الله بما يرضيه، فالنافِلة تعدِل فريضةً فيما سواه، والفريضةُ تعدِل سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهرٌ أوّلُه رحمة، وأوسطه مغفِرة، وآخره عِتق من النار، فمن فطّر فيه صائمًا كان له مثلُ أجورِ الصائم من غيرِ أن ينقصَ ذلك من أجور الصّائمين شيئًا، ومَن سقَى فيه ظمآن شربةَ ماء سقاه الله من حوضِ نبيِّه شربةً لا يظمَأ بعدها، فاستقبِلوه بالفرح والسرور، واحمدوا الله على إدراكه، واسألوا الله التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه، إنّه على كلّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولعموم المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربنا ويَرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله -تعالى- حقَّ التقوى.
عبادَ الله: يقول: "من قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه"(أخرجه البخاري: 2010).
دلّ ذلك على فضلِ قيامِ رمضان. وإنَّ من قيامِ رمضان أداءَ صلاة التراويح، فأداؤها في الجماعة سنّة سنَّها محمّد ، صلّى بأصحابه ليلةً فصلى وراءَه أناس، وفي الليلة الثانية ازدادَ العدَد، وفي الثالثَة امتلأ المسجدُ، فلم يخرج عليهم، وقال لهم: "عرفتُ مكانَكم، ولكن خشيتُ أن تفرَض عليكم فلا تستطيعوها" (أخرجه أحمد: 5/159، وأبو داود 1375، وصححه الألباني في الإرواء 447).
وفي عهد أمير المؤمنين عمَر رضي الله عنه رأى الناسَ يصلّون أوزاعًا، فجمعهم على إمامٍ واحد. (أخرجه أحمد 1/333، وأبو داود 393، وصححه الألباني).
ووافقه الصّحابة على ذلك، فكان إجماعَ الأمة. والنبيّ لما قال الصحابة: يا رسول الله، لو نفَّلتَنا بقِيّةَ ليلَتِنا قال: "من قام مع الإمامِ حتى ينصرِف كتِب له قيامُ ليلة" (أخرجه البخاري: 617، ومسلم في الصيام:1092)، فحافظوا على التراويحِ وأدّوها واصدُقوا وارغبوا في الخير لعلكم تفلحون.
أيّها المؤذنون:
إنّ في هذا الزمنِ تُثار قضايَا ويتكلَّم من يتكلَّم ويقول من يقول، ويريد بعضُهم أن يغيِّر ما الناس عليه وما سار الناس عليه في أوقاتِ صلواتهم، ولا شكَّ أنّ الله جل وعلا افترَض خمسَ أوقات وأنَّ جبريلَ أَمَّ النبيَّ في يومين، أي: أمَّه في اليومِ الأول في أوّل الوقت، وأمَّه في اليومِ الثاني في آخرِ الوقت، وقال: "يا محمّد، الصلاة بين هذين الوقتين"، والله يقول لنبيِّه: (أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78].
ونبيُّنا بيّن طلوعَ الفجر وأنَّ وقتَ صلاةِ الفجر والإمساك عند طلوعِ الفجر الثاني، ولذا قال: "إن بلالاً يؤذِّن بليل، فكلوا واشرَبوا حتى يؤذِّنَ ابن أم مكتوم"، وكان رجلاً أعمى لا يؤذِّن حتى يقال: أصبحتَ أصبحتَ.
في هذه الأيّام يثير بعضُهم قضيّة، ويقول: إنَّ إمساكَنا في رمضانَ متقدِّم على الوقت بعشرين دقيقة أو سبع عشرةَ دقيقة، بل قد يبالغ بعضهم فيقول: إنّكم تمسِكون في رمضانَ قبل دخول الوقتِ بأربعين دقيقة، هذه المقالةُ الخاطئة التي لم تعتمِد على دليل ولم تستنِد لبرهان، وإنما هي تقوُّلات وتنطُّعات ممَّن قَلَّ فِقهه وضعُف عِلمه وقلَّ إدراكه، وتقويمُ أمِّ القرى الموجود بأيدي الناسِ هو تقويمٌ موثوق به من هيئةٍ عِلمية موَثَّقة، وقد جُرِّب وطبِّق على أرض الواقع فوُجدَ التناسب بينه وبين طلوعِ الفجر الثاني.
وهذا التقويم موثوقٌ به فلا ينبغِي لمؤذِّنٍ أن يؤخِّر أذانَ الفجر لهذه الدِّعايات وأمثالِها، بل يلتَزِم بالتقويمِ فهو إن شاء الله على حقٍّ وعلى هدى.
وقد زكَّى هذا التقويمَ بوضعِه الحاضرِ علماءُ المسلمين، وتعاقبَ عليه علماءُ المسلمين مقرِّين ومؤيِّدين ومدرِكين أنّه موافقٌ للوقت، فلا تقدُّمَ فيه كما يزعم، لا تقدّمَ فيه، بل هو موثوقٌ على حسَب التجاربِ مع طول الزّمَن، تعاقب مُلوكٌ وعُلماء على هذا التقويمِ مقتنِعين به راضِين به، فالأمر ولله الحمدُ واضحٌ جليّ لا إشكالَ فيه.
وشيخُنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- منذ سَنواتٍ - أي: في حدود عام ثمانية عشر وأربعمائة - أصدَرَ بيانًا وثَّق فيه هذا التقويمَ، وقال: "إنّ وقتَه منضَبِط وأنّه كوَّن لجنةً علمية طبّقوه على أرضِ الواقع فوجدوا التناسُبَ بين التقويم وبين الوقتِ الشّرعيّ، فلا اختلافَ ولا اضطرابَ. فكلُّ دعايةٍ يُراد بها تغييرُ الواقع بلا برهان لا سيما المتعلِّقة بعباداتِ المسلمين من صلاةٍ وصيام يجب أن تُرفَضَ ولا تقبَل؛ لأنّ الأمّةَ سائرةٌ على منهَج تعاقَبَ عليه سلفُها وأَعقبَها خلفُها على هذا المنهجِ، فلا ينبغي إحداثُ شكوكٍ ووساوِسَ وأمورٍ خاطئة لا تعتمِد على دليلٍ ولا تعوِّل على برهان، وإنما هو تنطُّعٌ وتكلّف ما أمَرَهم الله به، وشريعة الإسلام سَهلَة ميسَّرة لا أغلالَ ولا آصار فيها، فالحمد لله ربِّ العالمين أوّلاً وآخرًا".
واعلموا - رحمكم الله - أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدَثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعَةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذَّ في النار.
وصلّوا - رحمكم الله - على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائِه الرّاشدين...
التعليقات