اقتباس

ولأن رمضان شهر مضاعفة الحسنات ونزول البركات ومحو السيئات فإن ثواب العمرة في رمضان قد بلغ المنتهى وحاز القدح المعلى وجاء برداً وسلاماً على المحرومين والمعذورين، فقد جمعت بين فضائل الزمان والمكان والعمل، ولو أن الواقع يشهد بأن ركاب الراحلين إلى...

العمر من أجل كنوز العباد، واستثماره ديدن أهل الكياسة والإيمان، وإن من أشد الحمق التغافل عن مواسم الطاعات التي جعلها المولى -الكريم- فرصة لاستدراك ما فات، ورتق ما انفتق في عمر العباد في التفاهات والملهيات، وأعظم الغبن؛ تفويت مواطن القربات، ولولا فطنة أهل البصيرة لنفحات الله -تعالى- في تلك المواسم لما وُجد المقربون ولا السابقون في حياة الأمم.

فعن محمد بن أبي عميرة -رضي الله عنه- وكان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنَّ رجلاً يخرُّ على وجهه من يوم وُلد إلى يوم يموت هرَماً في طاعة الله -عز وجل- لحقره ذلك اليوم، ولَودَّ أنه رُدَّ إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب"(رواه أحمد وصححه الألباني).

وورد في الأثر عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله -تعالى-، فإن لله تعالى -عز وجل- نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا اللَّه عز وجل أن يستر عوراتكم، ويؤمِّن روعاتكم".

 

والعبد العاقل، هو الذي يأخذ من حياته لمماته، ومن دنياه لأخراه، فإن الأنفاس تعد، والرحال تشد، وما عقبى الباقي غير اللحاق بالماضي، وعلى أثر من سلف يمشي من خلف، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، ومن رحمة الله -تعالى- علينا أن جعل لنا مواسماً، فيها نفحات لمن يتعرض لها ويغتنمها، يفرح بها المؤمنون ويتسابق فيها الصالحون، ويرجع فيها المذنبون، ويتوب الله على من تاب، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، لسان حالهم يقول (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ)[طه: 84].

قال ابن رجب -رحمه الله- في لطائف المعارف: "وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله - تعالى - فيه وظيفة من وظائف الطاعة يتقرب بها العباد إليه، ولله -تعالى- فيها لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرّب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تُصيبه نفحةٌ من تلك النفحات، فيَسعدَ بها سعادةً يأمنُ بعدها من النار وما فيها من اللفحات".

وقال ابن القيم –رحمه الله-: "السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرته ثمرة طيبة، ومن كانت أنفاسه في معصية فثمرته حنظل".

 

غير أن أعمار أمة الحبيب –صلى الله عليه وسلم- قصيرة، وأجسامهم ضعيفة، وأعداؤهم كقلادة العنق؛ يحيطون بهم من كل مكان، وقليل منهم من يستفيد من عمره، لذلك جعل -الله عز وجل- لهم مواسم الطاعات لجبر القصر والضعف، وسد الخلل، كما رتب لهم الثواب العظيم الجسيم على الطاعات البسيطة الصغيرة والأعمال القليلة.

فقد أخرج الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– قد أُري أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم من طول العمر؛ فأعطاه الله –تعالى– ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر . وقال ابن مسعود: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فنزلت (إنا أنزلناه) الآية. خير من ألف شهر، التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل الله. ونحوه عن ابن عباس.

 

ورمضان ساحة فريدة جمعت الكثير من صنوف الطاعات: صيام وصدقة وتلاوة قرآن وذكر وعاء وقيام والعشر الأواخر من أيامه بما فيها ليلة القدر والاعتكاف وصدقة الفطر، فمن لا يطيق فضيلة فهو يجتهد في غيرها، ومن فاتته فرصة للخير فهو يغتنم أخرى، فغنائم رمضان كثيرة، ومن أعظمها ثواباً وأعلاها قدراً وأيسرها أداءً؛ العمرة.

 

والعمرة من القربات العظيمة التي رتب الله -عز وجل- لها من الأجر والثواب ما حدا بكثير من أهل العلم للقول بوجوبها، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "‏تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي‏ ‏الْكِيرُ ‏خَبَثَ الْحَدِيدِ ‏وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ "، وعن ‏أبي هريرة -رضي الله عنه- ‏قال: قال رسـول الله -‏صلى الله عليه وسلـم-: "‏العُمُرَةُ إلى العُمُرَةِ كَفَّارةٌ لما بينهما، والحَـجُّ المَبْرُورُ ليس له جَزَاءٌ إلا الجَـنَّة"، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "الغازي في سبيل الله، والحاج والمعتمر، وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم".

 

ولأن رمضان شهر مضاعفة الحسنات ونزول البركات ومحو السيئات فإن ثواب العمرة في رمضان قد بلغ المنتهى وحاز القدح المعلى وجاء برداً وسلاماً على المحرومين والمعذورين، فقد جمعت بين فضائل الزمان والمكان والعمل، ولو أن الواقع يشهد بأن ركاب الراحلين إلى مكة لم تتوقف منذ مئات السنين قاصدةً البيت الحرام لأداء المناسك، فإن الحج أيّامه معدودة، وأشهره معلومة، والعمرة في عموم الأيّام والليالي، أما عمرة رمضان فهي جامعة الفضل بين الحج والعمرة.

فقد روى البخاري ومسلم عن ابْن عَبَّاسٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ- وَسَلَّمَ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: " مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ (بعيران)، فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابْنُهَا عَلَى نَاضِحٍ، وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضِحُ عَلَيْهِ (نسقي عليه) الأرض، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً "، وفي رواية لمسلم: "حجة معي".

كما ثبت من حديث أبي معقل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عمرة في رمضان، تعدل حجة"(رواه أحمد وابن ماجه).

ولا شك أن العمرة في رمضان لا تجزئ عن حج الفريضة، بمعنى أن من اعتمر في رمضان لم تبرأ ذمته من أداء الحج الواجب لله -تعالى-، لأن المقصود من الحديث التشبيه من حيث الثواب والأجر، وليس من حيث الإجزاء، فالمساواة المقصودة بين ثواب العمرة في رمضان وثواب الحج هي في قدر الأجر، وليست في جنسه ونوعه.

 

فيا سعد من أكرمه المولى -الكريم- بالاعتمار في شهر رمضان، حيث يحل ضيفاً على أعظم مضيف وأكرم مزار، وإذا كان المضيف يُكرم ضيوفه ووارديه، والمزور يُكرم زواره ووفوده، فكيف إذا كانت الزيارة لبيت الله؟! وكيف إذا كان الزوار عبيد الله؟! فقد ثبت عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "الغازي في سبيل الله، والحاج والمعتمر، وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم"(رواه ابن ماجه).

 

وحيث تتكحل عيناه برؤية الكعبة المعظمة، وتتشرف قدماه بالطواف حولها سبعاً بعد سبع، ليزداد قرباً وطهراً من الآثام والأوزار، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "من طاف بالبيت أسبوعاً لا يضع قدماً، ولا يرفع أخرى إلا حطّ الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة، ورفع له بها درجة"(أخرجه ابن حبان، وصححه الألباني)، وفي رواية أخرى: "من طاف سبعاً، فهو كعِدْل رقبة" رواه النسائي".

 

ويا سعد من كان رمضانه في بيت الله الحرام، حيث يمكث في رحاب المسجد الحرام، وينظر إلى البيت العتيق، ويتشارك مع الصائمين إفطارهم، ويشق صيامه بماء زمزم المبارك، حيث يجمع النوايا الطيبة والدعوات الخالصة في معين واحد من شرف الزمان والمكان والطعام، وقد قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنها مباركة؛ إنها طعامُ طعمٍ، وشفاءُ سقمٍ"(رواه مسلم).

ثم يصفّ أقدامه مع المصلين في أقدس البقاع، حيث الركعة بمائة ألف ركعة، وفي السنن: "صلاة في مسجدي -أي المسجد النبوي- أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه"(رواه أحمد وابن ماجه)، فللمعتمر في رمضان نصيب وافر من هذا الفضل العظيم، خصوصاً وأن الأجر ينمو ويزيد كلّما زاد عدد المصلين بدلالة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كانوا أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل"(رواه النسائي).

 

فكيف يفرط في كل هذه الفضائل من ملك الزاد والراحلة، ووسع عليه ربه – عز وجل – في رزقه بحيث يستطيع أن يتابع بين عمرة رمضان، العام بعد العام؟! وقد صح عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب، والفضة"(رواه الترمذي)، ففي هذا دلالةٌ على فضيلة المداومة والاستمراريّة في أداء مناسك الحج والعمرة، وكونهما سبباً شرعيّاً في زوال الفقر الظاهر بحصول غنى اليد، والفقر الباطن بحصول غنى القلب، ناهيك عن قيامهما بمحو الذنوب كما تزيل النار خبث المعادن، فتلك كبرى الغنائم الرمضانية التي لا يحل لقادر تفويتها.

 

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life