اقتباس
وهذه الخطب لا يستغني عنها خطيب ولا داعية، وهي-في نفس الوقت-تحتاج لقراءات تقريبية للأذهان والأفهام؛ بحيث يستفيد منها الجميع، وتصبح معيناً صافياً، ومنبعاً رائقاً لكل الشاربين، يبني عليه اللاحقون، وينتفعون منه كما انتفع السابقون. ونحن في هذه السلسلة سنحاول استخراج الدروس والفوائد الخطابية من أبرز وأشهر خطبه-صلى الله عليه وسلم.
من أهم الأمور التي يحتاجها الخطباء عند مباشرتهم لمهمتهم الشريفة؛ القدرة على إيصال المعلومات والرسائل التي يُراد إيصالها وإقناع المخاطبين بها، فهي لب المهنة وغاية المهمة وعمود الخيمة، دونها تكون خطبة مضيعة للوقت، فاقدة للأثر، مكْلمة فارغة لا تؤثر ولا تغير. رتيبة مملة يستمع سامعوها بنوم عميق. وحتى تتحقق هذه المهمة الجليلة؛ كان لابد من توافر الكثير من الأدوات والوسائل واللوازم الخطابية حتى يصل الخطيب لأهدافه النبيلة.
وإذا كان العرب أمَّة البلاغة، وأئمة الفصاحة، تعنو لهم أَزمة القول، وتنقاد أعنة الكلام، ويهتفون بروائع الخيال، فينصاع لهم عصيُّه، ويذل لهم أبيُّه، وينقاد شامسه. وإذا كان الكلام صناعتهم التي بها يباهون ويتشدقون؛ فلابد أن يكون الرسول الذي يبلغهم عن ربهم، ويهدم عقائدهم الباطلة، ومذاهبهم الزائفة، ويغير ما ألفوا من عادات، وما ورثوا من تقاليد، لا بد أن يكون بيانه أسمى من بيانهم، ومنطقه أبلغ من منطقهم.
ومن هنا كان تأييد الله-سبحانه-له بمعجزة القرآن، وحجة البيان، ومن هنا كان بيانه-عليه الصلاة والسلام-السحر الحلال، والنبع الدافق، والمشرع العذب الذي يُفَجَّر من طبع مهذب مصقول، وفطرة عريقة أصيلة، تَساندت في صقلها أقوى العوامل، وتعاونت على إذكائها أبلغ المؤثرات، إذ نشأ وتقلب في أفصح القبائل وأصحها لهجةً، وأخلصها منطقاً، وأعذبها بياناً، وأرهفها جناناً، وأقومها سليقةً.
ولقد ترك النبي-صلى الله عليه وسلم-تراثاً خطابياً عظيماً بالغ النفع والأثر، وذلك في مواطن كثيرة ومناسبات عديدة، وكم من المواقف الصعبة والمشاهد المؤثرة؟ التي استطاع النبي-صلى الله عليه وسلم-أن يحسمها برائع بيانه، وعظيم بلاغته، وفائق دقته، وصائب نظره، وهذه الخطب لا يستغني عنها خطيب ولا داعية، وهي-في نفس الوقت-تحتاج لقراءات تقريبية للأذهان والأفهام؛ بحيث يستفيد منها الجميع، وتصبح معيناً صافياً، ومنبعاً رائقاً لكل الشاربين، يبني عليه اللاحقون، وينتفعون منه كما انتفع السابقون.
ونحن في هذه السلسلة سنحاول استخراج الدروس والفوائد الخطابية من أبرز وأشهر خطبه-صلى الله عليه وسلم.
وسوف نبدأ هذه السلسلة المباركة بخطبته-صلى الله عليه وسلم-في الأنصار بعد غزوة حنين في العام الثامن من الهجرة.
فقد بلغ الرسول-صلى الله عليه وسلم-سخط الأنصار على قلة الغنائم التي حصل عليها بعد غزوة حنين، حتى فشا القول فيهم بأن الرسول قد لقيَ قومه، فجمعهم وحدهم، وجاء بعض المهاجرين فلم يأذن لهم بالدخول حتى يكون الحديث خاصاً بالأنصار-وحدهم-دون غيرهم، فهم أصحاب الشكاية، ثم قال لهم:
يَا مَعْشَر الأَنْصَارِ: ما قَالَة بَلَغَتْني عَنْكُم، وَجِدَة وَجَدْتُمُوها في أَنْفُسِكم؟ أَلَمْ آتِكُم ضُلالاً فَهَداكُم الله، وَعَالةً فَأغْناكُم الله، وأَعْدَاءً فألَّفَ بَيْن قُلُوبِكم؟
قَالُوا: بَلَى، الله ورَسُولُه أَمَنُّ وأفْضَلُ.
ثم قال: " أَلا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَر الأَنْصَار؟
قَالوا: بماذا نُجِيبُك يا رَسُول الله؟ لله ورَسُولِه المَنُّ والفَضْل.
قال-صلى الله عليه وسلم: "أما والله لو شئتم لقلتم-فَلَصَدَّقْتُم ولَصُدِّقْتُم-أتَيْتَنا مُكذَّبًا فَصَدَّقْنَاك، ومَخْذُولاً فَنَصَرْناك، وطَرِيداً فآوَيْناكَ، وعَائِلاً فآسَيْنَاك، أَوَجَدْتُم-يا مَعْشَر الأنصار-في أَنْفُسكم في لُعَاعَة مِن الدُّنْيا تَأَلَّفْتُ بها قَوْمًا لِيُسْلِموا ووَكَلْتُكم إلَى إِسْلامِكُم؟
ألا تَرْضَونَ يا مَعْشَر الأنصارِ أنْ يَذْهَب الناسُ بالشَّاةِ والبَعِيرِ، وتَرْجِعوا برَسُولِ اللهِ إلى رِحالِكُم؟ فوَ الَّذِي نَفْسُ مُحمَّد بيَدِه: لولا الهِجْرَةُ لكنتُ امْرَءًا مِن الأنصارِ، وَلَو سَلَكَ الناس شِعْبًا، وسَلَكَتِ الأنصارُ شِعْبًا؛ لَسَلَكْتُ شِعْب الأنصار، اللهُمَّ ارْحَم الأنصارَ وأبناءَ الأنصارِ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ ".
فبَكَى الأنصارُ حتى اخْضَلًّتْ لِحَاهم، وقالوا: رَضِينا برَسُولِ اللهِ قَسْما وحظًّا.
أولاً: الجو العام (مناسبة) للخطبة:
كان الأنصار من أهم أسباب نصر المسلمين يوم حنين، فقد انهزم المسلمون في بداية الموقعة، ولكن شجاعة الأنصار وسرعة التفافهم حول النبي -صلى الله عليه وسلم-أعادت إلى المسلمين تماسكهم، وإقدامهم؛ فتحقَّق النصر الكامل لهم. وبعد انتهاء المعركة قسم النبيُّ الغنائم بين المسلمين، فإذا الأنصار أقل الناس نصيباً، في حين أنهم كانوا يتوقعون أن يكونوا أعظم المسلمين حظاً؛ لما أبلوه وما حققوه من نصر، وعندئذ أخذت تسري همهمة قوية من الفتن والإشاعات بين الأنصار، وكان الأنصار يفزعون لمجرد تصورهم أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-سيترك الإقامة في المدينة، وينتقل إلى موطنه الأصلي في مكة حينما يفتحها، وكان النبي-صلى الله عليه وسلم-حينئذ قد فتح مكة، واتجه إلى الطائف حيث دارت معركة حنين، والمفروض أنه سيعود إلى مكة، فكان الأنصار يخشون كلَّ الخشية أن يقيم فيها ولا يعود إلى المدينة، فحينما وجدوا نصيبهم من الغنائم قليلاً؛ قوي هذا الخوف في نفوسهم.
ثانيا: مقدمة الخطبة:
النبي -صلى الله عليه وسلم-بدأ خطبته بالتمهيد الموجز المركَّز، الذي يملأ نفوس السامعين اقتناعاً وتسليماً، فهو يذكِّرهم في صورة سؤال: "أَلَم آتِكُم ضُلالاً فَهَداكُم الله؟ وليس أحد من الأنصار أو من غير الأنصار-من المسلمين-يشك في أن الرسولَ هو سبب هدايتهم إلى الله، ولولاه لم يكونوا مسلمين. فهذه حقيقة لا نزاع فيها بين أحد منهم. وكذلك كونهم فقراء-فأصبحوا بالغنائم وموارد الإسلام أغنياء-حقيقة أخرى لا ينازعون فيها، وكذلك كونهم كانوا أعداء دائمي التصارع والتقاتل أمرٌ لا يتنازعون فيه؛ لأنه كان واضحاً ومعروفاً لهم ولغيرهم، وكون الرسول-صلى الله عليه وسلم-كان سبباً في تآلفهم وتآخيهم؛ أمرٌ واضحٌ ومسلَّمٌ من الجميع.
إذن، فهذه حقائق مسلَّمة، يذكِّرهم بها الرسول، ليلفت نظرهم-مقدماً-إلى أنهم مهما كان من جهدهم وتضحيتهم في سبيل الإسلام؛ فإن فضله عليهم أعظم وأسبق، وحيث كانوا يسلِّمون بذلك ولا ينازعون فيه، فإنَّ نفوسهم تكون بهذا التمهيد؛ قد بدأت النظر للموضوع نظرةً تختلف عن نظرتها قبله؛ وبهذا يكون من أهم العوامل في تغيير مجرى تفكيرهم، وفي جذبهم إلى موضوع الخطبة بعقل مقتنع-مقدماً-بأنَّ الذي يخاطبهم صاحب أفضال بالغة العِظَم، ولا يقلَّلُ من عظم هذه الأفضال ما يقدمونه له وللإسلام.
وحتى يقتلع النبي-صلى الله عليه وسلم-كلَّ جذور الفتنة، وحتى يسد كلَّ منابعِ الوساوس والهواجس في نفوس الأنصار؛ فقد آثر أن ينهج معهم من حيث الشكل المظهري منهج الخصومة. فقد صوَّرهم في صورة الخصم الذي يدافع عن حقه، وعن وجهة نظره، ولكن حكمة الرسول البالغة السمو؛ تجعله ينوب عنهم في هذه الخصومة، مدافعاً عنهم، وعارضاً وجهة نظرهم كاملةً، مع أن المفروض أنها خصومة ضده هو. وذلك ليقتلع من نفوسهم كلَّ الوساوس والشكوك. فصوَّرهم في صورة الخصم الذي يشْحذُ كلَّ فكره؛ ليستجمع حججه وأسلحته في الخصومة، وأخذ-هو-يعرض هذه الحجج على طريقة العرب في المفاخرة والمنافرة.
وقد آثر النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-أن يخاطبهم بالمألوف والمتداول في المجتمع، حتى يعطيهم حقهم كاملاً في الخصومة، وحتى يشعروا بأنهم أَدْلوا بكل ما لديهم من حجج.
وهذه المقدمة هي التي تريح نفوسهم، وتستلُّ كلَّ ما فيها. ولذلك بعد أن عرض النبيُّ فضله عليهم فيما ساقه من التمهيد، كأنَّه انتظر أن ينوب عنهم شخصٌ يوضِّح موقفهم في الخصومة، بأن يعرض فضلهم على الرسول وعلى الإسلام.
ولما لم يتقدم أحد قال-صلى الله عليه وسلَّم: " ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟" يعني ألا تردون عليَّ كما يرد الخصم على خصمه؟ ولكنَّ الأنصار أبوا أن يقفوا من النبيِّ موقف الخصم، وإذا كل ردهم: "بماذا نجيبك يا رسول الله"؟ لله ورسوله المَن والفضل. ولكنَّ حكمةَ الرسول، ونفاذ بصيرته؛ أعلمتْه أنَّ هذه إجابة الإيمان، وإجابة العقل والمنطق، ثم تبقى بعد ذلك في النفس الأمارة بالسوء وساوسُها. فلا بد أن يبرز هذه الوساوس على السطح، وذلك بإبراز العوامل أو الأسباب التي تستند إليها.
ثالثاً: موضوع الخطبة:
الموضوع الأساسي للخطبة كان متعلق بغضب الأنصار من ضعف نصيبهم من غنائم حنين، وأن هذا الضعف قد يفهمه البعض على أنه قلة بلاء منهم في المعركة، أو ازدراء خفي لمكانتهم، وأثرهم في الإسلام، والأبرز من ذلك: تخوفهم من أن يكون ذلك مقدمة لعودة النبي-صلى الله عليه وسلم-إلى مسقط رأسه بمكة؛ لذلك لما شرع النبي-صلى الله عليه وسلم-في موضوع الخطبة؛ اعتمد أسلوباً أدبياً بلاغياً؛ من أجل تبديد المخاوف وإرساء المعالم، وإنزال المنازل. حيث شبَّه كلَّ هذه الغنائم والأموال-التي يتزاحمون عليها-بشيء من النبات الضعيف الصغير وهو (اللُّعاعة) بضم اللام، مشيراً إلى أن متاع الدنيا كله تافه يسير، لا ينبغي أن يكون موضع التزاحم والتخاصم.
ثم بيَّن الحكمة في إيثار بعض القبائل الأخرى على الأنصار في أنصبة الغنائم، وهي " تألفتُ بها قومًا ليسلموا " أمَّا الأنصار فهو واثق من إسلامهم، ولذلك لم يكونوا في حاجة إلى أن يُعطيهم ما يستميلهم به، ولذلك يقول لهم: "ووكلتكم إلى إسلامكم" فقد ساق لهم النبي-في هذه الفِقْرة-ثلاثة معان: أحدها: تفاهة متاع الدنيا مهما كثر، والثاني: أن كثرة العطاء ليست دليلاً على علو الشأن، بل على العكس دليلٌ على عدم الثقة في إيمان مُعْطاها.
الثالث: أن النبيَّ مطْمئِنٌ إلى إسلام الأنصار، ولذلك لم يكن في حاجة إلى أن يتألف قلوبهم. وبالتالي استطاع أن يُقنعَهم بأن ما يتخوفون منه هو عين ما يجب به أن يفخروا ويفرحوا، فهي شهادةٌ نبويةٌ بصدق الإيمان، وتمام الثقة، وسلامة النوايا.
أما بالنسبة للنقطة الثانية في الموضوع وهي: تخوفهم من عودة النبي إلى مكة، فقد عرضها-صلى الله عليه وسلم-بأروع أسلوب وهو (أسلوب المقارنة) الذي يطرق القلوب والنفوس بقوةٍ داعياً للتدبر والتفهُّم والتبصُّر، فالنبي-صلى الله عليه وسلم-لا يكتفي بأن يقول لهم: إنه سيرجع معهم إلى المدينة، وإنما يقارن كسب الأنصار في رجوعه معهم بكسب غيرهم من الغنائم، حيث يقول في صورة السؤال الذي يجسد هذا المعنى في نفوسهم: " ألا ترضون-يا معشر الأنصار-أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟
وبهذا تكون الخطبة قد حسمت الموضوع بصورة تقلب كيان تفكير الأنصار كله، حيث بينت لهم-من حيث الغنائم-أن أنصبة الغنائم لُعاعة تُسخَّر لخدمة الإسلام، فلا ينبغي للمؤمن أن يجعلها هدفاً وغايةً لجهاده في سبيل الله، ومن حيث الإقامة: بينت لهم الخطبة عظم نصيبهم-إذا قارنوا استئثارهم بشخص النبي في إقامته بينهم-بنصيب غيرهم من الإبل والغنم. وهو بذلك لا يكتفي باقتناعهم بأنهم كانوا مخطئين في ظنونهم، وهواجسهم، وأنهم من تلقاء أنفسهم سيعودون إلى ما كانوا عليه من حبهم للنبيِّ وتفانيهم في هذا الحب، بل يخشى أن يَظُنَّ الأنصارُ أن موقفهم هذا قد يُغيِّر قليلاً أو كثيراً من حب النبيِّ وإيثاره لهم، فيؤكد لهم بأكثر من صورة: أنه لم يُغيِّر رأيه فيهم، ولا موقفه منهم، بل يكشف لهم عن جوانبَ من حبه لهم؛ لعله لم يكشفها لهم قبل اليوم بهذه الصورة، أو بهذه الدرجة من الوضوح، فيقول لهم: "فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة؛ لكنت امْرَءَاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً، وسلكتِ الأنصار شعباً؛ لسلكت شِعبَ الأنصار" فماذا يتمنى الأنصار أَبْعَدَ من هذا ؟! وأيّ حلم يراود أمانيهم أعظم من أن الرسول يتمنى أن يكون واحداً منهم، لولا أنَّ الهجرة في سبيل الله منزلة رفعها الله-وهو فيها-فلا يملك خفض شيء رفعه الله. وأي خيال في الأماني والأحلام راود نفوسهم أعظم من أنهم لو كانوا في طريق والناس جميعاً في طريق آخر، فالنبي يترك طريق الناس جميعاً ويختار طريقهم؟! ولهذا كان أبلغ ما أجاب به الأنصار النبي، هو دموعهم الغزيرة التي تدفقت من قلوبٍ: مَلأَهَا الحب والإيمان، وهَزَّهَا الندمَ والتأثُّر، وإذا هذه الدموع تظل تنسكب حتى تُبَلِّلَ اللِّحى، ثم يقولون: ( رضينا برسول الله قَسْماً وحظاً ).
رابعاً: تحليل الأسلوب الخطابي:
اشتملت الخطبة على العديد من السمات الخطابية التي لا يستغني عنها خطيب في مثل هذه المواقف من أبرزها:
1-تخصيص الخطاب: ومما تعتمد عليه الخطبة اعتماداً أساسياً، التخصيص في الخطاب، فليس الكلام موجهاً إلى كل سامع، وإنما هو موجَّهٌ إلى الأنصار بالذات، بحيث يشعرون أن هذا الكلام خاصٌ بهم، وموجهٌ إليهم، وهذا أساس هامٌ من الأسسِ التي يمتاز ِبها أسلوب الخطابة عن غيره من أساليب الأدب، فالأسلوب العادي يكفي فيه أن يكون الكلام موجهاً إلى أيِّ سامع.
أما الخطابة: فلكي تكون مؤثرة ينبغي أن يشعر السامع أنه مَعْني بهذا الكلام بصفة خاصة، وأن ما يقال موجه إليه دون غيره، أو قبل غيره-على الأقل-فهذا الشعور يملأ نفس السامع اهتماماً وإصغاءً. والخطبة تحفل بتذكير الأنصار بأنَّهم-هم-المخاطبون فابتدأت بعِبارة " يا معشر الأنصار " ثم تكرر هذا التعبير. وتكرر ذكر الأنصار مراتٍ عدِيدة، وكأن الخطبة تراعي أنَّهم كلَّما استغرقوا في تعميق المعاني ومتابعة الخطبة، أعادهم هذا النداء "يا معشر الأنصار" إلى التَّنبُّهِ والتَّيقُّظِ، فضلاً عن إشعارهم بأنهم المخاطبون والمعنيون.
2 ـ الأسئلة: وممَّا تعتمد عليه الخطبة-أيضا-تكرار توجيه السؤال إلى المخاطبين، فإن توجيه الأسئلة إلى السامعين؛ يحقق للخطيب عدةَ أهدافٍ، منها:
أنَّ المسئول دائماً في موقف أضعف من موقف السائل، من حيث إنَّ السؤال يتطلب جواباً، وليس من المؤكد أن يحسن المسئول كلَّ الإحسان في الإجابة، وإذا أحسن في بعضها؛ فقد يسيء أو يقصر في بعض آخر، وضَعفُ موقف المسئول في ظروف الخطابة؛ يهيئ نفسه للاستجابة، بل إلى الانقياد؛ إذا أحسن الخطيب القياد، ومما تحُقِّقُهُ الأسئلة من أهداف:
أنَّها تُوقظ عقول السامعين، وتثير حماسهم، واهتمامهم للبحث عن إجابة فيما بينهم وبين أنفسهم، وهذه اليقظة يحتاجها الخطيب؛ لِيَعُوا كلامَهُ وأهدافَهُ، والواقع أن الخطيب لا ينتظر من السامعين الإجابة ولا يتوقعها، بل هو الذي سيجيب عن أسئلته؛ لأنها أسئلةٌ هادفةٌ، صاغها بطريقةٍ معينةٍ في تسلسل وترتيبٍ يؤدي بها-عادةً-إلى إجابةٍ تلقائيةٍ يريدها الخطيب.
والخطبة حافلةٌ بالأسئلة العديدة المتنوعة، بل تكاد الأسئلةُ تكون أبرز ما فيها، فقد اسْتَهلَّها النبيُّ-صلَّى الله عليه وسلم-: "ما مقالةٌ بلغتني عَنْكُم؟ ثم يواصل الأسئلةَ أَلَمْ آتِكمْ ضلاَّلاً فهداكم الله؟" ثم: " ألا تجيبونني-يا معشر الأنصار؟"، وهكذا.
3 ـ التفريغ النَّفْسِي: وممِّا تَعْتَمِدُ عليه الخطبة: تفريغ نفوس المخاطبين، مما يثقلها فيما يتعلق بالموقف والموضوع، وذلك بموافقة المخاطبين في أهم ما يثير نفوسهم، فالخطبة لا تُعَارِض المخاطبين ولا تخالفهم على طول الخط، فضلاً عن أن تُخَطِّئَهم من كلِّ وجهٍ أو تُسَفِّهَ موقِفَهم، ولو عَمِدتْ أيُّ خطبةٍ إلى هذا المسلك؛ لما وجدتْ طريقاً واحداً مفتوحاً إلى قلوب السامعين. فليس من الحكمة: أن يلتزمَ أيُّ خطيبٍ أسلوبَ التَّعارض أو العداء مع المخاطبين، وإلا لأوصدَ قلوبَهم وعقولهم دون كلامه، وإنَّما الحكمة: أن يكتسبَ عواطفهم-أولاً -بأيِّ صورةٍ، ثُمَّ يقودهم إلى الفكرة، أو الاتجاه الذي يريد، وقد يَصِلُ كسْبَ عواطفهم إلى درجة مجاراة السامعين ولو في الخطأ، من باب الافتراض أو الجدل ثُمَّ يدور بهم الخطيبُ (المحاورُ) إلى الطريق المنشود، بلْ إنَّ إبراهيمَ-عليه السلام-بلغ من الحكمة إلى درجة أنْ جارى سامعيه في الكفر شَوْطاً؛ ليعود بهم إلى طريق الإيمان؛ لأنه لو عارضهم بادئَ ذي بدء فسينفرون منه، أما مجاراتهم هذا الشوط فإنَّها تُؤلِّفُ بينه وبينهم حيثُ أصبحوا جميعاً في طريق واحدٍ، هو طريقُ الكفر في بِدايته، وقد صور القرآن الكريم هذا الموقف من إبراهيم فيما ساقته سورة الأنعام من قوله تعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ)[ الأنعام:76].
وهذه الخطبة التي مَعَنَا تمتص كلَّ ما في نفوس المخاطبين من غضب وموجدة، وتُفرِّغُ هذه النفوس من كلِّ ما تضيق به-بالنسبة لهذا الموقف-حتى لا يبقى جانبٌ أو هاجسٌ يوسوس فيها مع الخطبة أو بعدها، فيسلم لهم النَّبيُّ-صلَّى الله عليه وسلم-بأنَّهم أصحاب فضل عليه وعلى المسلمين، ويعدد لهم كلَّ ما في نفوسهم، أو أكثر مما في نفوسهم من هذا الفضل، ويُسلِّمُ لهمْ-ضمناً-بأنَّه أعطى أكثر مما أعطاهم لمنْ همْ دونهمْ إسلاماً وفضلاً، ويُسلِّم لهمْ ضمناً بغير هذا أيضا، وهذه الأمور التي يُسلِّم لهم بها ويوافقهم عليها، هي ما تشغل نفوسهم، وتثير مشاعرهم، ولكنَّ هذا التسليم يطفئ كلَّ ما في نفوسهمْ من حرارةٍ وتوتُّرٍ، ويَجرُّهم إلى قياده، ولو بقي أمرٌ ذو أهمية يقتنعون به ويخالفهم فيه الخطيب من أساسه دون إقناعهم؛ لظلتْ نفوسهمْ في هواجسها، ولكنَّ الخطبةَ تُفرِّغُ كلُّ ما في النفوس، مسلِّمةٌ به-من حيث المبدأ-ولكنها تقودهم-مع ذلك-إلى الطريق المنشود، وكأنه بقوله لهم: "أنا مسلم بما تقولون فلستُ مكذباً لكم، ولا منكراً عليكم هذا، وإنما أُنكِرُ عليكم ألاَّ تحاولوا فهم الحكمةِ من وراء ما أفعل".
4 ـ الشمول: وممِّا يعتمد عليه نجاح أيُّ خطبةٍ: شمولهُا واستيعابُها لجوانب الموضوع، وموقفٌ كموقف الأنصار-الذي تعددت فيه العوامل والهواجس-يحتاج فيه السامعون إلى إجابة عن عدة أسئلة ماثلة في النفوس، ولو بقي سؤال واحد لم تعالجه الخطبة؛ لبقيتْ في النفوس بعض الهواجس والوساوس. ومن هذه الأسئلة الماثلة في نُفوس الأنصار، أو نفوس كثير منهم: لماذا أعطى الرسول أغلبية الناس من الغنائم أكثرَ مما أعطى الأنصار؟، وهل سيعود الرسول مع الأنصار إلى المدينة، أم يستقر في مكة؟، وهل هناك علاقة بين الأنْصِبَةِ والإيمان (بمعنى أن كثرة النصيب تدل على الإيمان والعكس بالعكس) أم لا توجد بينهما علاقة؟، وهل غَضَبُ الأنصار-من أجل الغنائم-سيترك أثراً في نفس الرسول-صلَّى الله عليه وسلم-أم سيظلُّ راضياً عنهم، محباً لهمْ؟.
الخطبة استوعبتْ كلَّ هذه الجوانب، فأجابتْ عنها إجابةً شاملةً مقنعةً، ملأتْ نفوسَ الأنصار راحةً، واطمئناناً، ورضاً، حتى بلغوا من تأثرهم أن تبلَّلتْ لحاهم بالدموع، ولو بقي شيءٌ من هذه التساؤلات-دون أن تناقشه الخطبة أو تجيب عنه-لبقيتْ نفوسُهم مهومة-بعض التهويم-في آفاق التردد والتساؤل.
5 -الإقناع: ومما يعتمد عليه نجاح الخطبة: الإقناع (بمعنى أن يكون منطق الخطيب مقنعاً، قوي الحجة)، فمن الواضح أن عدم اقتناعهم يفقد الخطبةَ تأثيرَها وقيمتَها، حيث لا يتحقق للخطيب ما يهدف إليه من استجابة السامعين. وفي هذه الخطبة نجد الإقناع يبلغ قمة ما يرجى منه، حيث لا يترك مجالاً للتردُّدِ أو التَّساؤلِ، فضلاً عن الخلاف والمعارضة.
التعليقات