اقتباس
إن وصول الخطيب إلى درجة التأثير في المجتمع وتحقيق المقاصد الشرعية من خطبة الجمعة يتطلب العمل بإخلاص وفق المنهج الصحيح والإعداد المتقن والدربة والمران والمراجعة المتواصلة فمهمة الخطيب مهمة شاقة ولا ريب، مشقة تحتم عليه أن يستعد الاستعداد الكافي في صواب الفكر, وحسن التعبير، وطلاقة اللسان، وجودة...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن خطبة الجمعة شعيرة من شعائر الإسلام العظيمة لها دورها الفاعل في صياغة سلوك الناس والتأثير عليهم في شتى المجالات، وأثرها البارز في خدمة الدعوة إلى الله.
ودور الخطبة وتأثيرها يتوقف على الدور الكبير للخطيب في المجتمع, وأثره البالغ في بيئته، وسامعيه، وقومه؛ فالخطيب قرين المربي والمعلم، ورجل الحسبة والموجه، وبقدر إحسانه وإخلاصه يتبوأ من قلوب الناس مكاناً، ويضع الله له قبولاً قد لا يزاحمه فيه أصحاب الوجاهات، ولا يدانيه فيه ذوو المقامات، ومرد ذلك كله إلى حسن الإجادة، وجودة الإفادة، والقدرة على التأثير المكسو بلباس التقوى، والمدثر بدثار الإخلاص والورع.
إن وصول الخطيب إلى درجة التأثير في المجتمع وتحقيق المقاصد الشرعية من خطبة الجمعة يتطلب العمل بإخلاص وفق المنهج الصحيح والإعداد المتقن والدربة والمران والمراجعة المتواصلة فمهمة الخطيب مهمة شاقة ولا ريب، مشقة تحتم عليه أن يستعد الاستعداد الكافي في صواب الفكر, وحسن التعبير، وطلاقة اللسان، وجودة الإلقاء.
وفي هذه المقالة إشارة إلى أبرز القواعد والأسس في الخطابة وهي توصيات وتوجيهات أحسب أنها مفيدة للخطباء بإذن الله:
1- على الخطيب أن يتسربل بسربال التقوى ويتدثر بدثار الاستقامة ناهجاً نهج الورع والعفة والصلاح مع الاجتهاد في تحري الصدق والإخلاص وتجرد الإيمان والبعد عن الأغراض والأهواء مستشعراً عظم المسؤولية والأمانة التي تحملها.
2- ينبغي على الخطيب أن يظهر جداً وحرصاً على قول الحق والعمل به والدعوة إليه, مبتعداً عن فاحش القول وبذيئه مستغنياً بالكناية عن التصريح فيما لا يحسن فيه الإفصاح، وعليه أن ينحو منحى الرفق والتبشير والتيسير قدر المستطاع.
3- يجب أن يكون الخطيب شديد الثقة بما يقول، صادق اليقين بما تفيض به نفسه وينطق به لسانه، إذ لا يؤثر إلا المتأثر، وما كان من القلب فهو يصل إلى القلب.
إن قوة الاعتقاد وصحة اليقين تُكسب الكلام حرارة، والصوت تأثيراً، والألفاظ قوة، والمعاني روحاً, وكل ذلك يولد جواً عاطفياً حول الخطيب يجعل كلامه متصلاً بوجدانه.
4- على الخطيب الابتعاد عن الخوض فيما لا يعلم فإن هذا مُوقعٌ في الارتباك والحديث غير المفهوم، فتضيع الهيبة والوقار.
ومن الخطأ وقلة الفقه في خطاب الناس الخوض في دقائق العلوم والمعارف، والغوص في الخلافات العلمية والفقهية مما مجاله حلق العلم، وقاعات الدراسة، ناهيك عن الخوض في العلوم التجريبية، والعلوم البحتة؛ كالطب والفلك وخلق الإنسان والحيوان ومكونات الأرض والصخور وغيرها مما لا تدركه فهوم عموم المستمعين وليس من وظائف المنبر.
5- ومن أهم ما يجب على الخطيب أن يتنبه له مراعاة أحوال السامعين؛ فلكل مقام مقال، ولكل جماعة لسان، فالحديث إلى العلماء غير الحديث إلى الأغنياء, والحديث إلى العامة غير الحديث إلى العِلْية, وخطاب الأميين غير خطاب المثقفين، ومخاطبة الثائرين غير مخاطبة الفاترين؛ فالثائر يطامن، والفاتر يوقظ, والكلام في حالات الأمن يختلف عن حالات الخوف، وقل مثل ذلك في اختلاف الظروف وتقلبات الأحوال من غنى وفقر وصحة ومرض ورخاء وجدب.
6- من المعلوم أن الخطبة وسائر الأعمال العلمية والأدبية تعتمد على أسس ثلاثة: قلب مفكر, وبيان مصور, ولسان معبر؛ فالأول يكون به إيجاد الموضوع، وبالثاني تنسيقه وترتيبه ورصُه, وبالثالث التعبير به وعرضه.
فكلما كان الخطيب صادقاً في قصده, مهتماً بسامعيه، جادََاً في طرحه، محترماً لنفسه؛ فسوف يُحْسن الاختيار، ويقدح زناد فكره بجدية نحو الابتكار، يُضاف إلى ذلك الظروف المحيطة والأحوال المستجدة والأغراض الباعثة التي تستدعي الحديث عن بعض الوقائع والتعليق على الأحداث.
والخطيب المتقن هو من تكون ألفاظه سهلة النطق لا يتعثر اللسان في إبرازها، ولا تتزاحم حروفها؛ فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد, بجرس خاص. وعبارات قصيرة؛ كل جملة كاملة في مقطع.
7- إن عنصر التكرار والتفنن في التعبير عنصر مهم في الخطابة؛ فالخطيب محتاج إلى تكرار فكرته، ومغايرة تصويره؛ فمرة بالتقرير، ومرة بالاستفهام، وأخرى بالاستنكار, ورابعة بالتهكم.
ومن الحذق في المعرفة أن يُدرك الخطيب أن خطاب الحماس غير خطاب التألم، وحديث الترغيب غير حديث الترهيب، وأسلوب تعداد المفاخر وزرع الثقة غير أسلوب التواضع وذم الكبر والمتكبرين، والخطيب المتمرس هو الذي يضع كل نوع في موضعه، ويختار لكل كلمة قالبها وميدانها.
8- إن النطق السريع المتعجل يفقد المتابعة, كما أنه قد يشوه إخراج الحروف فيختلط بعضها ببعض، وتتداخل المعاني، وتلتبس العبارات، وقد يؤدي به التعجل إلى إهمال الوقوف عند المقاطع ورعاية الفواصل.
ومن جهة أخرى فإن التمهل والترسل في الأداء من أدل الدلائل على رباطة الجأش؛ فيجتمع للخطيب الهدوء في الكلام، والأناة في النطق, والجزالة في الصوت.
وهذا التمهل المقصود لا ينبغي أن يقود إلى هدوء بارد وتثاقل مميت، وإنما رفع للصوت وخفضه وعلو نبرات يبعث على الحياة وحسن المتابعة ودفع السآمة.
9- إن للإشارات والحركات أثرها أثناء الحديث والخطابة لذا ينبغي أن تكون الحركات والإشارات منضبطة بقدر معقول، انفعال غير متكلف، ومتساوية مع الشعور الحقيقي.
10- من المعلوم أن الخطبة تبنى من ثلاثة عناصر: المقدمة والموضوع والخاتمة, وهي عناصر لا يصرح بها أثناء الكتابة أو الإلقاء.
فينبغي أن يهتم الخطيب بمقدمته وافتتاحيته، فيأتي بعبارات الاستهلال التي توحي للسامع بمقصود الخطبة، مما يشدُُ الانتباه ويهيئ النفوس.
والموضوع هو مقصود الخطبة الأعظم، وقد يكون من المناسب التصريح به في مبتدأ الخطبة، وقد يكون التصريح به غير مناسب إما لأنه شائك أو يوجب انقسام الناس، وفي هذه الحالة ينبغي أن يدخل إليه الخطيب دخولاً متدرجاً، ويتناوله تناولاً غير مباشر.
أما الخاتمة فيحسن فيها جمع أفكار الخطبة وتلخيص موضوعها بعبارت مغايرة، وطريقة مختصرة؛ لأن الإطالة في هذه الحالة تجلب الملل وتشتت الأفكار, ولا ينبغي أن تحتوي الخاتمة على أفكار جديدة وأدلة جديدة؛ لأنها حينئذٍ لا تكون خاتمة، وإنما جزء من الخطبة وامتداد لها.
هذه إضاءات عامة، وقبسات يسيرة أحسب أنها هامة للخطيب؛ سائلاً العلي القدير أن يوفق الجميع لما فيه الخير والصلاح، وأن يبارك في الجهود ويسدد الخطى؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات
زائر
07-05-2023ماشاء الله جزاكم الله خيرا مقال رائع