عناصر الخطبة
1/وقتان وموقفان ونتيجة 2/تأملات فيما بين الخامسة والسابعة 3/أهمية وثمرات المحافظة على صلاة الفجر 4/رسائل للمتخلفين عن صلاة الفجر في وقتها 5/رسائل إلى هاجري صلاة الفجر.اقتباس
إن العجب لا ينقضي مِن قومٍ تشرّفوا بالإسلام، وارتضوا الله لهم ربًّا، والإسلام دينًا ومحمدًا نبيًّا، ثم إذا دعاهم داعي الحق إلى بيت الله إذا فريق منهم معرضون. عجبًا من قوم مسلمين، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف يستكثرون على رب الأرض والسماء، ومن له المنن والأفضال أن يقصدوا بيته دقائق معدودة، ليعودوا بالمنح والمكارم. قل للمخلفين: أتدرون ماذا أضعتم؟ وأي شيء خسرتم؟...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الولي الحميد ذو العرش المجيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود، وهو ذو البطش الشديد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الورى وقدوة العبيد؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم المزيد وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله يا أمة محمد، فمن اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه.
وقتان وموقفان ونتيجة؛ أما الأول فما بين الخامسة والسادسة، وأما الموقف فأصوات أبواب بيوت تفتح وسيارات تتحرك. وقلة تتسامى على المغريات وتتحدى الشهوات فذاك شاب جاء من هذه الناحية، وذاك شيخ أتى من تلك الناحية وصوته المفعم بالإيمان يردد: أصبحنا وأصبح الملك لله، والنتيجة أن اجتمع في بيت الله شمل ثلة من عباد الله الصالحين ممن يرجون وعد الله ويخشون وعيد الله.
كان من بينهم شيوخ تجللهم الهيبة والوقار، وشباب يغالبون النوم ويجاهدون النفس لإرضاء الواحد القهار، وصغار لا تكليف عليهم، ولكنهم تحت رعاية آباء عرفوا معنى المسؤولية وحملوا همّ الرعاية، بل وفي القوم فئة ظاهرهم لا ينبئ عن التزام ولكن قلوبهم تخفق بحب الرحمن، وتتلذذ بلقائه والوقوف بين يديه.
وفي لحظات يسيرة ودقائق معدودة قُضيت الصلاة ليعود الفائزون بعدها إلى بيوتهم، بعد أن تجاوزوا الامتحان ونجحوا في الابتلاء.
وأما الوقت الآخر فما بين السابعة والثامنة، والموقف: ترسل الشمس أشعتها، وتستقبل الحياة يومًا جديدًا، ويتغير وجه الحياة وتشتعل البيوت والشوارع بالحركة والنشاط، ويخرج من البيوت رجال بنفوس منشرحة ووجوه مشرقة، يستقبلون يومهم بالبشر والتفاؤل والهمة والعزيمة؛ لأنهم نجحوا في امتحان الساعة الأولى حينما قاوموا إغراء النفس ووسوسة الشيطان، وقهروا داعي الشهوات، واستجابوا لنداء الله للصلاة وللفلاح.
ويخرج من البيوت رجال تقطر آذانهم من بول الشيطان، يقوم أحدهم كما أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "يقوم خبيث النفس كسلان"؛ مثقلين بأعباء وقيود العقد الثلاث التي عقدها الشيطان في أقفائهم، يستقبلون يومهم بالوجوه الكالحة، والنفوس اليائسة والصدور الضيقة، ذلك بأنهم بدأوا يومهم بمعصية الله، وسنة الله أن (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)[طه:124]؛ أولئك القوم لهم قلوب ولكن لا يفقهون بها الوعد والوعيد، ولهم آذان ولكن لا يسمعون بها نداء الحق، ولهم أعين ولكن لا يبصرون بها مشاهد الإيمان ترسم في بيوت الله.
إن العجب لا ينقضي مِن قومٍ تشرّفوا بالإسلام، وارتضوا الله لهم ربًّا، والإسلام دينًا ومحمدًا نبيًّا، ثم إذا دعاهم داعي الحق إلى بيت الله إذا فريق منهم معرضون. عجبًا من قوم مسلمين، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف يستكثرون على رب الأرض والسماء، ومن له المنن والأفضال أن يقصدوا بيته دقائق معدودة، ليعودوا بالمنح والمكارم.
قل للمخلفين: أتدرون ماذا أضعتم؟ وأي شيء خسرتم؟ قل للمخلفين: (إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)[الإسراء:78]، وأن "من صلى البردين دخل الجنة"، وأن "من صلى الفجر فهو في ذمة الله"، حتى يمسي، وأن "من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله".
قل للمخلفين تخيلوا هذا المشهد المؤثر: "إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ: يقولُ اللَّهُ -تَبارَكَ وتَعالَى-: تُرِيدُونَ شيئًا أزِيدُكُمْ؟ فيَقولونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنا؟ ألَمْ تُدْخِلْنا الجَنَّةَ، وتُنَجِّنا مِنَ النَّارِ؟ قالَ: فَيَكْشِفُ الحِجابَ، فَما أُعْطُوا شيئًا أحَبَّ إليهِم مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ. تَلا هذِه الآيَةَ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يونس:26].
فيا لها من لحظات تُستلذ من أجلها المكاره وتسهل العقبات وتهون الشدائد.. أتدرون ما سبيلها: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر فإن استطعتم ألا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"، فما أعظم خسارة من آثر الحياة الدنيا واتبع هواه!
قل للمخلفين: ما لكم عن البشارة معرضين "بَشِّر المشائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة".
قل للمخلفين: أما يحرككم إلى بيوت الله إسلامكم فماذا يعني إسلام بلا استسلام؟! وما حقيقة التوحيد إذا لم تخضع القلوب والجوارح للخالق المجيد؟ ألا تحركم عبوديتكم لله فالعبودية في حقيقتها: الحب التام مع الذل التام والخضوع للمحبوب، ومن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
قل للمخلفين عن ركب المشائين في الظلم للمساجد: إن كان فراشكم الوثير والنوم والشخير أحب إليكم من الله ورسوله وصلاة في بيته؛ فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين.
قل للمخلفين: ألا يوقظكم للفجر رغبة في شهادة الملائكة لكم أمام رب العزة والجلال "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم -وهو أعلم بهم-: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".
قل للمخلفين عن ركب أهل الفجر: كيف هانت عليكم فريضة من فرائض الله؟!، فلا حرص عليها ولا تشديد على الذرية المتهاونين ولا حسرة ولا ندم إن فاتت أو خرج وقتها بينما يا ويل الأبناء إن تكاسلوا عن دراسة أو تأخروا في واجب دنيوي..
ويا كثرة عبارات التحسر والأسف وتأنيب الضمير يوم أن يتأخر أحدهم عن وظيفته فيخسر من الدنيا حطامًا.. (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)[التوبة:38]، كيف لم يعد يشوقنا وعد ربنا لنا إذ يقول: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)[النحل:96].
يا مسلمون: حين تتذكر شخير الساعة الخامسة صباحًا، في مقابل هدير السابعة صباحًا، فأخبرني هل تستطيع أن تمنع ذهنك من أن يتذكر قوله -تعالى- في سورة الأعلى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى:16-17]، وقوله: (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا)[الإنسان:27].
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: وإننا ومن خلال منبر بيت من بيوت الله، ومن قلوب تنبض بالحب والإشفاق؛ فإننا نوجه هذه الكلمات لإخواننا القاعدين الذين أضاعوا الصلاة وتبعوا الشهوات.
يا أهل الهجر: ما الذي خلّفكم والناس قائمون؟ وما الذي أنامكم والناس يصلون؟ لماذا بيوت الله تئن من هجركم؟ ما هذا الجفاء؟ ما لكم لا تنطقون؟ أما والله لو شئتم لنطقتم ولقلتم: خلّفنا ضعف الإيمان وقلة الخوف من الرحمن، وعدم استشعار عظمة الرب -جل جلاله-، وأقعدنا عن الصلاة شهوات غالبة، وملذات زائلة.
يا أهل الهجر: لو نطق الحال لقالت: إنكم لم ترجوا الله وقارًا، ولم تقدروا الله حق قدره.
يا أهل الهجر: ما لكم عن التذكرة معرضين؟! أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم، ويجركم من عذاب أليم. واستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء، أولئك في ضلال مبين.
يا أهل القطيعة والهجر: ألا تظنون أنكم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين؟
يا أهل الهجر: إن الذي صدكم عن إجابة نداء الله لذة المنام، ولكن ما تركتموه من لذة الطاعة وحلاوة العبادة خير وأبقى، ولذتكم زائلة وعاقبتها الإثم والعار، ولا خير في لذة من بعدها النار!
يا أهل الهجر: إنكم مخطئون يوم أن تظنوا أن الله بحاجة إلى ركعات عباده وسجداتهم، فإن العباد إنسهم وجنهم لو كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في مُلك الله شيئًا، ولكنه الابتلاء والامتحان، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.
يا أهل الهجر: يوم أن يبلغكم الناصحون هذا النداء، فوالله لا يريدون أن يستكثروا بكم من قلة، ولا أن يتعززوا بكم من ذلة، ولكنها الأمانة وحب الخير لكم، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرًا حسنًا، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابًا أليمًا.
يا أهل الهجر: أرضيتم لأنفسكم صفة من صفات أهل النفاق؟ أهان عليكم أن يغضب الرحمن وتقر عين الشيطان: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)[التوبة:38].
عباد الله: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ)[الشورى:47].
حافظوا على الصلاة، وتغلبوا على سلطان الهوى، من قبل أن تقول نفس: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)[الزمر:56].
حافظوا على الصلوات، وقاوموا سيل الشهوات، فمن باع لذة دائمة بشهوة عابرة فهو المغبون. هذه رسالتنا إليكم، مبعثها الحب ودافعها الشفقة، ورائدها النصيحة، ولن نغني عنكم من الله شيئًا.
أما أنتم يا أهل الفجر! فهنيئًا لكم يوم استعليتم على الشهوات، وتساميتم على الملذات، وأرضيتم رب الأرض والسماوات، وبُورك في تلك النفوس الأبية، ولله در هاتيك الهمم العالية، التي سمت فوق المغريات السفلية، وارتقت إلى سلم الأمجاد الأخروية.
ألا يا رجال الفجر! فاثبتوا على هذا الطريق، ولا يغرنكم كثرة الهالكين، فإنه عناء ساعة تتبعها لذة إلى قيام الساعة. وإن موعدكم يوم التغابن: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا)[آل عمران:30]، يوم أن يُقال للعاملين: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[النحل:32].
حقًّا أيها المسلمون، في ساعة الفجر ترسم معالم الإيمان، وتبرز سمة من سمات أهل النفاق فهنيئًا لكم يا رجال الفجر، ويا خسارة أهل الهجر، أهل الساعة الأخرى.
اللهم اهد قومنا؛ فإنهم لا يعلمون، اللهم افتح قلوبهم المقفلة بالشهوات، واغسلها من صدأ الغفلة والإعراض.
اللهم صَلِّ وسلم على مَن بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة...
التعليقات