اقتباس
هناك اختلاف جوهري بين تعدد فصائل العمل الدعوي، وتعدد المذاهب الفقهية. فالمذاهب الفقهية حركات علمية بحتة، تمحورت حول عدة اجتهادات فقهية، وليس لها برامج واقعية حركية متعلقة بنشر الإسلام، وإبلاغ رسالته للعالمين، وتغيير المنكر الواقع بدرجات التغيير المعروفة، كما هو الحال في الدعوة الإسلامية. وفي خضم تحقيق هذه الرسالة السامية تقابل فصائل العمل الدعوي الكثير من النوازل والقضايا العامة، الأمر الذي يقتضي معه
الدعوة الإسلامية هي أشرف مهام المسلم، وأعلى درجات المؤمن، فهي نيابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمته، وخلافته في طريقته ومنهجه ووظيفته، بها اختص الله - عز وجل - صفوة خلقه. ومهما تكلمنا عن فضائل الدعوة الإسلامية، وفضل الدعاة، وما أعد الله - عز وجل - لهم من المثوبة والكرامة، فلن نوف الدعوة والدعاة حقهم الواجب. والأصل في هذه الأمة هو الوحدة بكل مفردات هذه الكلمة، أي وحدة في الجماعة، ووحدة في الراية، ووحدة القيادة، ووحدة المرجعية، وكل مظهر من مظاهر الخروج عن هذا الأصل، هو خلل طارئ يجب رده إلى أصله، ولا يكون الرضا به إلا من جنس قبول المضطر بالأمر الواقع، مع مواصلة السعي لاستصلاح الأحوال، والاجتهاد في تكميل المصالح، وتقليل المفاسد، تمهيدا للعودة إلى الأصل الثابت ؛ الوحدة الشاملة المتكاملة.
ومع اتساع دائرة الحياة، وكثرة المستجدات فيها، وتنوع رايات خصوم الأمة، وتكالب أعدائها عليها، يتم كل يوم استحداث باطل جديد تحارب به الأمة الإسلامية، فلم يعد الأمر كما كان من ذي قبل؛ كأس وغانية، إنما أصبح للباطل دول ومؤسسات وإستراتيجيات وخطط ومناهج وكوادر تعمل ليل نهار من أجل محاربة الإسلام، وصد الناس عن سماع دعوة الحق بشتى السبل والوسائل. لذلك كان من الطبيعي أن تتعدد فصائل العمل الدعوي وتتنوع في مقابلة خصم تتنوع أساليبه وتتعدد بنادقه المصوبة في صدور أبناء الأمة.
وهذا التنوع قد يكون مصدر إثراء للدعوة الإسلامية، وقد يكون مصدر بلاء تؤتى الأمة من قبله بصورة أشد مما تفعله نصال الخصوم. فالتعدد المحذور هو الذي ينشأ عنه التضارب والتباين في الرؤى السياسية، والاختيارات الفقهية بحيث يؤدي إلى التعصب، الذي يعقد على أساسه الولاء والبراء، والذي يفضي إلى تمزق العاملين وتدابرهم وفساد ذات بينهم، والذي يقود إلى رايات شتى وانتماءات متصارعة، وكيانات متحوصلة، وكلها أمور أفقدت الدعوة الإسلامية حلاوة الإنجاز، وأورثتها أدواء شتى ما زالت الأمة تعاني من آثارها وأعراضها الجانبية.
أما التعدد المقبول أو الراشد فهو الذي يخلو من كل هذه الآفات المزمنة، وليس معنى هذا أن تكون جميع فصائل العمل الدعوي عبارة عن نسخة واحدة مكررة من بعضها البعض، لا خلاف بينها في أي شيء، ولكن تلك التي تحصر خلافاتها في دائرة الفروع ومسائل الاجتهاد، فالتعدد والتنوع وقتها يكون تعدد تخصص، وتنوع تكامل، يتنافس به الناس في الخيرات، كل حسب ما فتح الله - عز وجل - عليه من أبواب الدين والعلوم والمعارف، وذلك في إطار من التسامح والتناصح والتراحم والتغافر. لذلك كان لابد من وضع الثوابت والضوابط العامة لبقاء التنوع الدعوي في إطاره الراشد، بحيث تكون ظاهرة تعدد فصائل العمل الدعوي ظاهرة إيجابية، ومن أهمها:
أولا: وحدة الأصول
فالعمل الدعوي إذا ما كان مجتمعا على أصول واحدة من الدين، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، والكتاب والسنة، وإجماع الأمة، بحيث ينحصر الخلاف في دائرة الفروع والمسائل الاجتهادية، عندها يكون قد جاوز العمل المتنوع عقبة كئودا، زلت عندها الأقدام، وتاهت عنها الأفهام. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لنفس المعنى فقال: " فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض، وهم أهل السنة والجماعة، وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء، قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) [ العنكبوت 69 ] وقال (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه) [ المائدة 15 ]، والتنوع قد يكون في الوجوب تارة، وفي الاستحباب تارة " ثم قال في موضع آخر بعد أن شرح هذه العبارة بعدة أمثلة: " فهذا وأمثاله يشبه تنوع شرائع الأنبياء، فإنهم متفقون على أن الله أمر كلا منهم بالدين الجامع، وأن نعبده بتلك الشرعة والمنهاج، كما أن الأمة الإسلامية متفقة على أن الله أمر كل مسلم من شريعة القرآن بما هو مأمور به، إما إيجابا وإما استحبابا، وإن تنوعت الأفعال في حق أصناف الأمة، فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم، ولا أخطأ أحد منهم، بل كلهم متفقون على ذلك يصدق بعضهم بعضا "
هذا بالنسبة للأصول التي لا يسع أحد أن يخرج عنها أو يتنازل في التمسك بها مهما كانت الضغوط والإغراءات. أما الأمور الاجتهادية التي يتنازع فيها، فيقر لكل فصيل العمل باجتهاده، وقد شبهها ابن تيمية - رحمه الله - بتنوع شرائع الأنبياء من وجه دون وجه، فقال رحمه الله: " فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء، فإذا قصدوا بها وجه الله – تعالى - دون الأهواء، ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة، بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام، هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله وعبادته الله وحده لا شريك له، وهو الدين الجامع. "
ثانيا: حصر الاختلاف
فلاشك أن وحدة الأصول المذهبية والاعتقادية من الأمور الأساسية في بناء مشروع التكامل الدعوي بين مختلف الفصائل الدعوية، وهذه الوحدة تقتضي حصر الاختلاف في دائرة الفرعيات والمسائل الاجتهادية، والعمل المستمر على بقاء أي خلاف بين الفصائل الدعوية في هذا النطاق. فمن الخطورة بمكان أن يتم تصعيد الخلاف في الفروع وموارد الاجتهاد إلى نطاق الأصول والكليات التي لا يسع أحد فيها التجاوز والتغافر، مما يقود للتفرق والاختلاف والتنازع، ومن هنا ينبغي اليقظة والبصيرة الدائمة والمتابعة المستمرة لكل ما يطرأ من قضايا ومستجدات ونوازل حتى يتم تنسيق المواقف المشتركة حيالها، ابتداء من توصيفها، وهل هي من جنس الفروع، أم جنس الأصول ؟ وذلك قبل الحكم عليها، واتخاذ موقف ما بشأنها، فالحكم على شيء فرع من تصوره، وإذا لم يتم التوصيف بدقة، تباينت الآراء واختلفت الفتاوى، ومن ثم وقع الخلاف والنزاع الذي نحذر منه.
ثالثا: بقاء الألفة وإخوة الدين
الأصل في العلاقة بين المؤمنين هو المحبة والإخوة والعصمة المتبادلة، فالمسلم أخو المسلم، والمؤمن مرآة أخيه، والمؤمنين مثلهم كمثل الجسد الواحد، لو أن المسلمين مع كل خلاف يقع بينهم تدابروا وتشاحنوا لم تبق ألفة ولا إخوة بينهم. ولو نظرنا لتاريخ الأمة الإسلامية وتراثها العلمي الزاخر بالاختلافات والتباينات لعلمنا أن الفضل في وجوده ابتداء بسبب ما كان عليه الأئمة الأوائل من سلف الأمة وصدرها من التغافر والتراحم والإخوة والمحبة المتبادلة، وما كانوا عليهم من إجلال بعضهم بعضا، والاقتداء بعضهم بعضا، ونهيهم أتباعهم هن التعصب لهم بغير الحق، وتأكيدهم الدائم على أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع، وأن كل الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فإن استطاعت فصائل العمل الإسلامي حاليا أن تبقى على تناصح وتآلف وتعاضد، وأن تعقد ولاءها وبراءها على أساس الإسلام لا غير، وأن تستأصل جرثومة التعصب المذموم من جسد العمل الدعوي، وألا تفرق بين المسلمين أو تمتحنهم بما لم يأمر به الله ورسوله ـ كما كانت تفعل المعتزلة وقت الخلفاء العباسيين ـ أو يتنابذوا بألقاب وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، عندها فقط يصل العمل لمرحلة الرشد الدعوي الذي يرقى بالعمل لأعلى درجات سلم الإنجاز. وإن آفة الآفات ونازلة النوازل وعلة العلل، في التعدد القائد في ساحة العمل الدعوي، يتمثل في عقد الولاء والبراء على أساس الانتساب لهذه الفصائل، والتفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في الشرع.
رابعا: توحيد المواقف العامة
هناك اختلاف جوهري بين تعدد فصائل العمل الدعوي، وتعدد المذاهب الفقهية. فالمذاهب الفقهية حركات علمية بحتة، تمحورت حول عدة اجتهادات فقهية، وليس لها برامج واقعية حركية متعلقة بنشر الإسلام، وإبلاغ رسالته للعالمين، وتغيير المنكر الواقع بدرجات التغيير المعروفة، كما هو الحال في الدعوة الإسلامية. وفي خضم تحقيق هذه الرسالة السامية تقابل فصائل العمل الدعوي الكثير من النوازل والقضايا العامة، الأمر الذي يقتضي معه تنسيقا كاملا بين هذه الفصائل، وتوحيدا في المواقف إزاء هذه المسائل العظام. فيجب على كافة فصائل الدعوة انتهاج إستراتيجية واحدة خاصة في إزاء مخططات الخصوم وأعداء الدعوة الذين لا يكفون أبدا عن التنسيق فيما بينهم ضد هذه الأمة ودينها.
خامسا: التكامل مع الآخرين
وذلك بتأسيس النظرة إلى التعدد على أنه تعدد تنوع وتخصص، تتكامل به الجهود، وتحيا به شعائر وفرائض الدين كله. وليس تعدد تضاد وتنازع، تنقطع به العلائق، وتتهارج به الصفوف، ولعل آكد ثمار هذه النظرة الشاملة التكاملية ؛ زوال عقدة الانغلاق على النفس، والتكور والاستعلاء على الآخرين، وامتهاد الطريق إلى مزيد من التواصي بالحق والتناصح في الله، وقطع السبيل على قالة السوء ودعاة الفتنة، وتصحيح النظرة إلى الآخرين، وانتهاء التشنيع عليهم بالجزئية والقصور، لأنه في ظل هذا التصور لا حرج في الجزئية والتخصص، وما يقصر عنه فصيل، يغطيه فصيل آخر، فتتكافل كل هذه الفصائل في أداء هذه الفروض الكفائية، ويرتفع الإثم عن الجميع، خاصة وأن التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية أكبر من طاقة الفصائل الموجودة فعلا مجتمعة، فكيف بها لو تفرقت واهترئت وتناحرت ؟!.
التعليقات