قضايا الشباب (5) بناء العلاقات والصداقات

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/أهمية العناية بالعلاقات والصداقات للشباب ودور المربين في ذلك 2/لبنات مهمة في بناء العلاقات والصداقات بين الشباب 3/ثمار العلاقات والصداقات الناجحة على الشباب في الدنيا والآخرة 4/نماذج في الصداقات والعلاقات الحميدة.

اقتباس

وَصَدَقَ مَنْ قَالَ: صُحْبَةُ الْأَخْيَارِ تَجْلِبُ الْخَيْرَ، فَقَبْلَ أَنْ تَبْنِيَ عَلَاقَةً وَتَعْقِدَ صَدَاقَةً -أَيُّهَا الشَّابُّ- فَانْظُرْ مَعَ مَنْ تَبْنِيهَا، وَاخْتَرْ صَاحِبَ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ تَغْنَمْ فِي دُنْيَاكَ وَأُخْرَاكَ، فَإِذَا لَاقَيْتَهُ وَآخَيْتَهُ فَتَمَسَّكْ بِهِ وَلَا تُفَرِّطْ فِيهِ أَبَدًا؛ فَإِنَّهُ كَنْزٌ نَادِرٌ فِي يَدَيْكَ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ صَدَاقَاتٍ وَعَلَاقَاتٍ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْعَلَاقَاتُ صَادِقَةً سَوِيَّةً وَكَانَتْ تِلْكَ الصَّدَاقَاتُ صَالِحَةً قَوِيمَةً فَهُوَ فَوْزُ الدُّنْيَا وَسَعَادَةُ الْآخِرَةِ، يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ خَيْرًا مِنْ أَخٍ صَالِحٍ".

مَا نَالَتِ النَّفْسُ عَلَى بُغْيَةٍ *** أَلَذَّ مِنْ وُدِّ صَدِيقٍ أَمِينِ

مَنْ فَاتَهُ وُدُّ أَخٍ صَالِحٍ *** فَذَلِكَ الْمَغْبُونُ حَقَّ الْيَقِينِ

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ أَنْ نَعْتَنِيَ بِمَا يُقِيمُ شَبَابُنَا مِنْ عَلَاقَاتٍ وَصَدَاقَاتٍ، فَإِنَّ تِلْكَ الْعَلَاقَاتِ وَالصَّدَاقَاتِ تُحَدِّدُ مَسَارَهُمْ وَوُجْهَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَقَدْ سَمِعْنَا رَسُولَنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: "إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

عَاشِرْ أَخَا الدِّينِ كَيْ تَحْظَى بِصُحْبَتِهِ *** فَالطَّبْعُ مُكْتَسَبٌ مِنْ كُلِّ مَصْحُوبِ

كَالرِّيحِ آخِذَةٌ مِمَّا تَمُرُّ بِهِ *** نَتِنًا مِنَ النَّتْنِ أَوْ طِيبًا مِنَ الطِّيبِ

 

وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ حِبَّانَ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الْعِنَايَةِ بِاخْتِيَارِ الصَّدِيقِ الصَّالِحِ قَائِلًا: "وَكُلُّ جَلِيسٍ لَا يَسْتَفِيدُ الْمَرْءُ مِنْهُ خَيْرًا تَكُونُ مُجَالَسَةُ الْكَلْبِ خَيْرًا مِنْ عِشْرَتِهِ"، بَلْ هَذَا أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: "الصَّاحِبُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَالْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنْ صَاحِبِ السُّوءِ".

 

وَالصَّدِيقُ الصَّالِحُ مِنْ مُتَعِ هَذِهِ الدُّنْيَا، فَلَوْلَاهُمْ لَآثَرَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ؛ فَهُوَ الْقَائِلُ: "لَوْلَا الْقِيَامُ بِالْأَسْحَارِ، وَصُحْبَةُ الْأَخْيَارِ، مَا اخْتَرْتُ الْبَقَاءَ فِي هَذِهِ الدَّارِ"، وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

دِينُ الْمَحَبَّةِ وَالتَّآلُفِ دِينُنَا *** وَبِفَضْلِهِ شَمَلَ الْجَمِيعَ إِخَاءُ

فَالْمُسْلِمُونَ جَمِيعُهُمْ جَسَدٌ إِذَا *** عُضْوٌ شَكَا سَهِرَتْ لَهُ الْأَعْضَاءُ

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ هُنَاكَ لَبِنَاتٍ مُهِمَّةً عِنْدَ بِنَاءِ الْعَلَاقَاتِ وَالصَّدَاقَاتِ بَيْنَ الشَّبَابِ، فَأَوَّلُهَا: أَنْ تَقُومَ عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى: وَهَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقَائِلِ: "لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَالصَّدِيقُ الْمُؤْمِنُ وَحْدَهُ هُوَ مَنْ يُعِينُكَ عَلَى الْخَيْرِ وَإِنْ وَقَعَتْ عَيْنَاهُ عَلَى عَيْبٍ أَصْلَحَهُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، لِذَا كَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُولُ: "إِنَّكَ إِنْ تَنْقُلِ الْأَحْجَارَ مَعَ الْأَبْرَارِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَأْكُلَ الْخَبِيصَ مَعَ الْفُجَّارِ".

 

وَلَنْ تَجِدَ الْأَصْدِقَاءَ الصَّالِحِينَ إِلَّا فِي الْمَسَاجِدِ، فَقَدْ كَتَبَ سَلْمَانُ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ: يَا أَخِي، عَلَيْكَ بِالْمَسْجِدِ فَالْزَمْهُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَثَانِيهَا: التَّحَابُبُ فِي اللَّهِ -تَعَالَى-: فَهُوَ صِمَامُ الْأَمَانِ لِدَوَامِ الْعَلَاقَاتِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَيَنْصَحُ الْفَارُوقُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَائِلًا: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ وُدًّا مِنْ أَخِيهِ فَلْيَتَمَسَّكْ بِهِ، فَقَلَّمَا تُصِيبُ ذَلِكَ".

سَأَلْتُ النَّاسَ عَنْ خِلٍّ وَفِيٍّ *** فَقَالُوا: مَا إِلَى هَذَا سَبِيلُ

تَمَسَّكْ إِنْ ظَفِرْتَ بِوُدِّ حُرٍّ *** فَإِنَّ الْحُرَّ فِي الدُّنْيَا قَلِيلُ

 

وَثَالِثُهَا: أَنْ تَتَوَافَقَ الطِّبَاعُ وَالْأَرْوَاحُ: فَقَدْ يَكُونُ الدِّينُ وَالْأَخْلَاقُ وَلَا يَكُونُ التَّنَاغُمُ وَالتَّلَاؤُمُ بَيْنَ الْأَصْدِقَاءِ الصَّالِحِينَ، وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، كَذَلِكَ فَـ"النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَاخْتَرْ مَنْ ثَمُنَ مَعْدِنُهُ.

 

وَرَابِعُهَا: تَجَنَّبِ الْجِدَالَ وَالْمِرَاءَ: فَإِنَّهُمَا مَفْسَدَةُ الصَّدَاقَاتِ وَالْعَلَاقَاتِ، فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَحْبَبْتَ أَخًا فَلَا تُمَارِهِ"، بَلْ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا"(حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

وَأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاحْذَرْ مِرَاءَهُ *** تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لَمْ تُمَارِهِ

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّنَا إِنْ أَحْسَنَّا إِقَامَةَ الْعَلَاقَاتِ وَاخْتِيَارَ الصَّدَاقَاتِ عَادَ ذَلِكَ عَلَيْنَا بِجَمِيلِ الْبَرَكَاتِ وَطَيِّبِ الثَّمَرَاتِ، وَمِنْهَا:

الْعَوْنُ عَلَى الطَّاعَاتِ: فَعَنْ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ: كَانَ ابْنُ رَوَاحَةَ يَأْخُذُ بِيَدِي وَيَقُولُ: "تَعَالَ نُؤْمِنْ سَاعَةً"(رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ) (ضعفه الألباني وغيره)، بَلْ إِنَّ رَبَّ الْعِزَّةِ -سُبْحَانَهُ- أَمَرَ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمُجَالَسَةِ الطَّائِعِينَ الذَّاكِرِينَ: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الْكَهْفِ: 28].

 

وَمِنْهَا: عَدَمُ انْقِطَاعِ صَدَاقَتِهِمْ بِمَوْتِهِمْ، بَلْ دَوَامُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزُّخْرُفِ: 67]، أَيْ: تَتَقَطَّعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كُلُّ خَلَّةٍ بَيْنَ الْمُتَخَالِّينَ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ، وَتَنْقَلِبُ عَدَاوَةً وَمَقْتًا، إِلَّا خَلَّةَ الْمُتَصَادِقِينَ فِي اللَّهِ؛ فَإِنَّهَا الْخَلَّةُ الْبَاقِيَةُ النَّافِعَةُ أَبَدَ الْآبَادِ.

 

وَمِنْهَا: الِاجْتِمَاعُ فِي الْجَنَّةِ: فَمَنْ كَانَ لَهُ أَصْدِقَاءُ صَالِحُونَ مُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ جَمَعَهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِفَضْلِهِ فِي جَنَّتِهِ، فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا" قَالَ: لَا شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" قَالَ أَنَسٌ: "فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَكَذَا نَيْلُ مَحَبَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى-: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: "وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَمِنْهَا: الِانْتِفَاعُ بِشَفَاعَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْأَصْدِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ لَهُمْ شَفَاعَةً يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْتُ مِنْهُمْ *** وَأَرْجُو أَنْ أَنَالَ بِهِمْ شَفَاعَةْ

وَأَكْرَهُ مَنْ تِجَارَتُهُ الْمَعَاصِي *** وَإِنْ كُنَّا سَوَاءً فِي الْبِضَاعَةْ

 

فَالْأَصْدِقَاءُ الصَّالِحُونَ بَلْسَمٌ شَافٍ، وَنُورٌ هَادٍ، وَنَجَاةٌ وَصَفَاءٌ وَنَمَاءٌ وَنَفْعٌ دَائِمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ رَوَائِحَ الصَّدَاقَاتِ الْحَمِيدَةِ تَفُوحُ كَمَا يَفُوحُ عَبِيرُ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ، وَمِنْ تِلْكَ الصَّدَاقَاتِ:

صَدَاقَةُ وَأُخُوَّةُ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَانْظُرْ كَيْفَ نَصَحَ الْأَخُ لِأَخِيهِ، يَرْوِي عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ فَيَقُولُ: زَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ؟ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: "صَدَقَ سَلْمَانُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَهَذَانِ أَخَوَانِ آخَرَانِ جَمَعَهُمَا الْإِيمَانُ حَتَّى وَدَّ أَحَدُهُمَا لَوْ تَنَازَلَ عَنْ نِصْفِ مَالِهِ وَإِحْدَى زَوْجَاتِهِ لِلْآخَرِ، يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعَ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَصَدَقَ مَنْ قَالَ: صُحْبَةُ الْأَخْيَارِ تَجْلِبُ الْخَيْرَ، فَقَبْلَ أَنْ تَبْنِيَ عَلَاقَةً وَتَعْقِدَ صَدَاقَةً -أَيُّهَا الشَّابُّ- فَانْظُرْ مَعَ مَنْ تَبْنِيهَا، وَاخْتَرْ صَاحِبَ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ تَغْنَمْ فِي دُنْيَاكَ وَأُخْرَاكَ، فَإِذَا لَاقَيْتَهُ وَآخَيْتَهُ فَتَمَسَّكْ بِهِ وَلَا تُفَرِّطْ فِيهِ أَبَدًا؛ فَإِنَّهُ كَنْزٌ نَادِرٌ فِي يَدَيْكَ.

 

فَاللَّهُمَّ ارْزُقْنَا صُحْبَةَ الْأَخْيَارِ، وَقِنَا صُحْبَةَ الْأَشْرَارِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات
7OAd7pCjnnBIJ8HPeZxmvo4QLQSJjoSL77cyK5Xp.pdf
VGWMA2gMSPhDMdRbgdeg4hJh0IDhZyhUE9IfyjZ9.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life