اقتباس
قال: بلى, ولقد اقتنعت تماماً من كلامك, ولكنكم تقولون بأن الله -تعالى - كلما أرسل رسولاً أتى بشرعٍ جديد, ومحا الشرع السابق, فهذا إما أن يكون السابق خطأً, وإلا لِمَ لَمْ يكتف الله برسولٍ واحد؟, وأنا أؤمن أننا وجميع الشعوب لا بدّ أنْ نعيش بصداقةٍ وأخوة, وما تقررونه هو السبب في...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
دخلت فصلاً من إحدى فصول الثالث الثانوي لِأُلْقي عليهم موعظةً نافعة, وقصةً هادفة, وما إنْ بدأت بالحديث, واسْترسلت بالكلام, حتى قاطعني طالبٌ بشكل غريبٍ ومُلفت, فقال: يا أستاذ: قلت في مُحاضرتك السابقة, التي ألقيتها علينا: بأنَّ الغرب لا يريد بنا الخير والنموّ!, وها نحن نراه ساعد السوريين ووقف معهم!, فأنتم واهمون, فقلت: هل هذا سؤال؟ فقال: لا بل هي معلومة, أحببت أنْ أصحح بها معلوماتك!!, فقلت: أشكرك على سؤالك وطرحك, وقد سمعت منك, أتسمح لي أن تسمع مني؟ قال: بالطبع, قلت: كم مضى على طلب الشعب السوريّ لحريَّته وكرامته؟ فضج الطلاب جميعاً: سنتان!, فقلت: ما ذا قدمت لهم من شيءٍ ملموسٍ ونراه؟ فسكت, فقلت: ألم تتدخل في مالي مباشرةً وقتَّلت الشعب الذي طالب بتطبيق الشريعة؟ قال: بلى, فقلت: لِمَ لَمْ تتدخل هي والغرب في سوريا إنْ كانوا صادقين ومحبين لرغبة الشعوب؟ فلم ينطق بكلمة؟..
بعدها خرجت من الفصل متحيِّراً من طريقةِ سؤالِه وطرحِه, فسألت عنه معلميه, فأجاب الجميع بأنه كثيراً ما يسأل أسئلةً مُشكِّكةً في الدين والعقيدة, وبعضهم قال إنه ملحد, والآخر بدأ بالسب والشتم!.
فسألتهم: هل ناقشه أحدٌ نقاشاً ودِّيَّاً؟ فأجابوا بلا, عدا الْمُرشد الطلابي كلمه بكلامٍ عامٍّ.
فأرسلتُ له طالباً يستدعيه, فأبى الحضور بحجة انشغاله بالحصص, فمكثت ساعةً ثم ذهبت إليه وطلبت منه الحضور, فكان مُتوتِّراً جدًّا, فبدأت أُحادثه ونحن في طريقنا لغرفتي, وأُضاحكه, فخف ما كان يجده, فدخلنا الغرفة, وقد أعددت له قهوةً وماءً, فأكرمته ومازحته, ثم بدأت أثني بما أعلمه منه من بشاشته أحياناً, وجرأته على إبداء ما يراه, وأنها صفةٌ لا تكون إلا في الأقوياء العقلاء.
ثم قلت له: أتسمح لي أنْ نتناقش مناقشةً أَخويَّةً, مبنيَّةً على حسن الظن والمودة, فأنا أكنَّ لك الحب والاحترام, فإن كنت لا توافق فلا أُلزمك, فقال: بل أنا على أتمِّ الاستعداد, وعلى الرحب والسعة.
فقلت له: سنجعل نقاشنا عن الأشياء الأساسية الكليَّة, وما ينتج عنها من جزئيِّاتٍ نرجئها بعد ذلك, ثم بيَّنت له طريقتي في الحوار, وأنْ نُحكِّم العقل والمنطق, وأنا أعاهد نفسي وأنت كذلك أننا إذا اقتنعنا من شيءٍ أنْ نوافق عليه, وإذا لم نقتنع منه لا نوافق أبداً, وإنني أسعد باعتراضك أكثر من سعادتي بموافقتك, لأني لا أريد المجاملات, فإنك إنْ خادعتني أو جاملتني لن تخدع أو تُجامل إلا نفسك, فالباب مغلق, والجوال مقفل, وكانت الساعة العاشرة صباحاً تقريباً.
وهنا أقف مع أخطاءٍ يَرْتَكبها الكثير ممن يُحاور ويُناقش أحداً يُخالفه:
1- أن يجعل منطلق الحوار والنقاش من الأشياء التي تشكل عليه, ويحتج بها؛ بل ينبغي له أنْ يبدأ معه من الأساس ومن أول نقطة, ثم يتسلسل معه حتى يصل إلى مكان إشكاله.
2- أنْ يناقش خصمه دون وضع قانونٍ وطريقةٍ يتفق عليها هو والطرف الآخر, وإلا لأصبح الحوار مُبعثراً مُشتَّتاً, لا يخرجان بنتيجةٍ في النهاية.
3- أنْ يُناقشه عن الأمور الفرعية, بل الأولى أنْ يتركها, ويطلب منه أنْ يُرجئ الأمور الفرعية والجزئية, ويجعل النقاش في الأمر والكلِّيَّة والأساسية, التي غالباً ما يتفقان عليها.
4- وأنْ يكون بجوٍّ متوتِّرٍ, وبأسلوبٍ جافٍّ أو فيه سرعةٌ وحماسٌ شديد؛ بل ينبغي أن يكن النقاشُ بجوٍّ مليءٍ بالهدوء, ويكون الطرح والنقاش بهدوءٍ أيضاً.
5- أنْ يكون قصد المحاور إفحام خصمه, وهذا لا ينبغي أنْ يشعر ويحسّ به الطرف الآخر الذي لا يكون داعيةً إلى بدعته, ولم يُعرف عنه العناد والشر؛ بل ينبغي أنْ يُوضح لمن يُحاوره أنه يقصد رحمته, وأنه مشفقٌ عليه كما هو الواقع حقيقةً.
***
قلت له: أتوافقني بأنَّ من يقرأ كتاباً لا بدّ أنْ يكون له هدفٌ من قراءته؟؟
قال: نعم.
قلت: فبماذا تقرأ ولماذا؟
قال: أقرأ لعبد الله القصيمي -وعدَّد أناساً لهم أفكارٌ منحرفةٌ- وأقرأ لهم لأنظر آراءهم وأفكارهم.
فقلت: سبحان الله! عقلك الثمين, تملؤه بشيءٍ لم تتحقق جودته وأصالته, وتضع فيه ما ليس له؟ والعقل متى وُضع فيه ما لا يتناسب معه أفسده وأتلفه, وسبَّب لصاحبه الأمراض النفسية, والمشاكل المميتة, انظر إلى سيارتك, كلُّ صندوقٍ يُوضع فيه ما يُناسبه, صندوقٌ يُوضع فيه زيت كذا, صندوقٌ يُوضع فيه ماءٌ, صندوقٌ يُوضع فيه بنزين.
فإن الله قد خلق العقل وأرسل له ما يُناسبه, وهو القرآن والوحي المطهَّر, فإنْ ملأته بزبالات الأفكار: تعطَّل العقل عن وضيفته, وكنت كمن عبَّأ سيَّارته ماءً بدلاً من البنزين.
ثم سألته وقلت: خلال قراءتك واطِّلاعك: ما هي حجةُ من يعتقد أنَّ الصانع والموجد هو الطبيعة؟
فتلكأ في الجواب وقال: ليس لهم حجة, وإنما من أوهامٍ, والْمُوجِدُ هو الله.
وأردت أنْ أبدأ معه من الصفر, وأنْ نبدأ بالأصل, فإذا فرغنا منه انطلقنا إلى الفروع, وهذا هو الأصل الذي إذا تمكن من قلبه وعقله, وأيقن بوجود الله حق اليقين, وأنه هو الخالق الرازق: انحلَّ أكثر ما يجده من إشكالاتٍ وشكوك, مع أنه يُظهر لي تسليمه بوجود الله, وتفرده بالملك والتدبير, وأنا لا أعتقد ذلك, فمن شكك في الدين والرسالة والغيب, هل يُؤمن بربٍّ أمر بها ودعا إليها؟؟.
فقلت: لكن هم لهم وجهةُ نظرٍ فلْنسمعها منهم قبل الحكم عليهم.
هم يقولون: إنَّنا لا نُؤمن إلا بما نراه ونحس به, والطبيعة هي التي نراها ونُعايشها.
فنقول لهم: هل الطبيعة خالقةٌ أم مخلوقة؟
فإن قالوا: مخلوقة؟
فنقول لهم: فمن خلقها؟
فإن قالوا: بل خالقةٌ ومُوجدة.
فنقول لهم: هل هي حسيَّةٌ أم معنويَّة؟
فإنْ قالوا: حسية.
فنقول لهم: أين هي لا نُحسُّها ولا نراها, وأين مكانها وصفاتها.
فإنْ قالوا: بل معنوية.
فنقول لهم: ألستم تقولون: لا نقرُّ ونُؤمن إلا بالمحسوس؟.
ومع ذلك نقول لهم: هذه الطبيعة القادرة على الإيجاد والخلق , وأتْقَنت صنعها أيَّما إتقان, هل تملك صفاتٍ نعرفها بها من خلالها؟
فإنْ قالوا: لا.
قلنا: إذاً هذا عَدَمَ, وليس في الوجود مثل ذلك فتناقضتم.
فإن قالوا: بل لها صفات.
قلنا: إذاً في نهاية المطاف نقرُّ نحن وإياكم بمُوجدٍ عظيمٍ له الأسماء الحسنى والصفات العلى, لكنكم أنتم: سمَّيتم ذلك طبيعةً, وهذه الطبيعة لم تُقِمْ على الناس حجةً في وجودها من إرسالها للرسل الذين يُبينون للناس حقيقتها ووجودها, ولم تُنزل كتباً تشرح لنا أهدافها وماهيَّتها.
وأما نحن: فإننا نُؤمن بربٍّ أرسل لنا الرسل وأنزل لنا الكتب, وأقام علينا الحجة, وبيَّن لنا المحجَّة, فأينا أحقُّ وأرجا بالنجاة؟.
وبعد هذا التقرير المفصل, الذي وافقني عليه أشدَّ الموافقة, قلت له: هذا الربُّ العظيم, الذي خلقنا, وخلق الكون كلَّه, هل يُمكن له أن يتركنا دون أن يبين لنا ما يريد؟ وماذا يجب علينا؟.
قال: لا, ولكن هذا يتعارض مع العقل, أليس هو الذي خلقنا, فما حاجته أنْ يُرسل إلينا رسلاً؟
فقلت له: أرأيت الطائرات التي صنعتها أمريكا, لو أنها أرسلتها لنا وقالت: يكفيكم ذلك, ولن أرسل لكم خبراء وفنيين يشرحون لكم كيفية التعامل معها, أهذا منطق؟
قال: لا.
قلت: فكذلك الله تعالى, خلقنا وأوجدنا, وأرسل لنا خبراء وهم الرسل, ليشرحوا لنا كيف نتعامل مع أنفسنا, وكيف نتعامل مع الكون الفسيح, وكيف نتعامل مع بعضنا, أليس هذا هو المنطق الذي تُؤمن به, وقررنا أنا وإياك أنْ نرجع إليه؟.
قال: بلى, ولقد اقتنعت تماماً من كلامك, ولكنكم تقولون بأن الله -تعالى - كلما أرسل رسولاً أتى بشرعٍ جديد, ومحا الشرع السابق, فهذا إما أن يكون السابق خطأً, وإلا لِمَ لَمْ يكتف الله برسولٍ واحد؟, وأنا أؤمن أننا وجميع الشعوب لا بدّ أنْ نعيش بصداقةٍ وأخوة, وما تقررونه هو السبب في الصراع والبغضاء.
فقلت له: لقد عودتني بلطفك وتواضعك وإنصافك أنه إن لم يُقنعك شيءٌ صارحتني بخلافه, وإذا اقتنعت منه وافقتني عليه دون مُرواغةٍ, فأنا مُعجبٌ بهذه الصفة الجميلةٍ التي يندر وجودها عند الكثير من الناس, ففرح بكلامي وقال: وأنا على ذلك.
قلت: أتذكر أوَّل جوَّالٍ نزل؟
قال: نعم.
قلت: هب أنَّ مَنْ صنعه قال لنا: سأكتفي بمن أرسلت لكم من الخبراء والفنيين, والكتلوج الذي يشرح طريقةَ التعامل معه, وما سأصنعه من جوَّلاتٍ لاحقة, فسأحيلكم على الخبراء السابقين, والكتلوج الأول!, هل هذا منطق؟
قال: لا.
قلت: صدقت, فإن فعلوها فهذه أنانيةٌ وقلَّة عقل.
فكذلك الله –تعالى-, قد أرسل لنا أول رسولٍ وهو ما يُناسب القوم الذين بُعث فيهم, فلما مرَّت السنون تغير الزمان والناس, فناسب أن يُرسل لهم رسولاً يُناسبهم.
ما تقول بزواج الأخ من أخته؟
قال: لا يمكن.
قلت: أتعلم أنَّ أبناء آدم تزوجوا من أخواتهم؟ وذلك للضرورة, حيث لا يُمكن أن يتناسلوا إلا بهذه الطريقة, فهل من المنطق أنْ يستمر الوضع على ما هو عليه؟.
قال: لا.
قلت: فلذلك أرسل الله رسلاً آخرين غيَّروا الأمور التي لا تُناسب زمانهم, وأبقوا على ما يتناسب مع كلِّ زمانٍ وهو العقيدة والتوحيد والأصول, فهي لا تختلف من نبيٍّ إلى آخر.
قال صلى الله عليه وسلم: «الأَنْبِيَاءُ أَوْلَاد عَلَّات, وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ». متفق عليه
وَأَوْلَاد الْعَلَّات: الْإِخْوَة مِنْ الْأَب وَأُمَّهَاتهمْ مُختلفة, فأَصْل دِينهمْ وَاحِد وَهُوَ التَّوْحِيد وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ فُرُوع الشَّرَائِع.
قلت: هل توافقني؟
قال: نعم.
قلت له: انظر إلى طرف الجدار, فنظر إليه, قلت: أترى المسافة التي بين طرفيه؟ قال: نعم, قلت: أتعلم أننا قطعنا ثلثي المسافة في هذا الحوار والنقاش الجميل, وهي مما نتفق عليه جميعاً, فكيف يُقال: بأنك تُخالف وتشكك وتعترض وأنت توافق على أغلب ما عندي, فضحك ضحك المعجب الفرح.
قلت: أتأذن أنْ أخرج قليلاً وأتركك تأخذ قسطاً من الراحة؟
قال: نعم.
فخرجت والعرق يتصبَّب منه, ورأيت فيه القلق والتوتر, وأعتقد جازماً أنها بسبب الصراع من داخل نفسه, فهو مقتنعٌ من أشياء يراها مُسلَّمات, وهاهي تُنقَض عروةً عروة.
فلمَّا أتيت رأيت عليه علامات الراحة والهدوء.
فرحبت به أشد ترحيب, وأثنيت على صبره وعقليَّته وثقافته وطلبه للحقّ.
فقلت له: الآن نحن قطنا ثلثي الطرق, بقي القليل, ألسنا اتفقنا بوجود الله –تعالى-, وبإرساله للرسل, وتنوعهم بالرسالة, وأنهم جاؤوا لمصلحتنا؟.
قال: نعم.
قلت: بقي آخر رسولٍ ونبي, وهو محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-.
عندها بدأ النقاش الصعب والحاد, وهو الذي بدأني بالسؤال عنه, وهو مُنطلَقُ شكِّه, وهو الذي منه يُثير على الأساتذة وزملائه الأسئلة التي تُوحي بالشكوك, ويطلب أجوبةً لهذه التناقضات- بحسب رأيه-, ولكن هذا التسلسل هو الذي مهَّد الطريق لإقناعه, وتخيف شكوكه وأوهامه.
فأخذت أوراقاً وقلماً, وبدأت أناقشه مستعيناً بها, فهي أدعى لفهمه واستيعابه.
قلت له: أتعرف ما هي أهمّ مُهمّات محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؟, إنه جاء بمهمَّاتٍ من أعظمها وأهمِّها:
1- تعريفنا بأنفسنا, وكيف نتعامل معها, ومع الآخرين.
2- تعريفنا بالكون, وكيف خُلق, وهو أمرٌ أعقد من سابقه, قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).
3- تعريفنا بما بعد الموت من الأمور الغيبية, وهو أمرٌ أعقد من الأمرين السابقين.
فلْنبدأ بالمهمَّة الأولى: ألا توافقني بأنَّ من أصعب الأمور التعامل مع نفسك؟ قال: بلى, قلت: معك حق, ولذلك أُنشئت جامعاتٌ وتخصصاتٌ لدراستها, ومعرفة كنهها, وكيفيَّة التعامل معها.
فنبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- أرسله الله إلينا لكي يُعلِّمَنا كيف نتعامل مع أنفسنا والآخرين, ولذلك شرع لنا الصلاة, وأنزل القرآن, وهما غذاء النفس والروح, علَّمنا الأخلاق والقيم, وعلَّمنا التسامح والرحمة.
انظر إلى كبار السن, تجد عندهم راحةً نفسيَّةً عجيبة.
هل وجدت أحداً من كبار السن يجد قلقاً وتعاسةً في حياته وقلبه؟.
قال: لا.
قلت: لأنَّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- أعطاهم ما يشرح صدورهم من الإيمان بالقضاء والقدر, والرضا بالله, والتوجه إليه في السراء والضراء.
وأما الكون: فالله تعالى ذكر لنا في كتابه عن الكون, وعن سعة ملكه, (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ), والعلماء الفلكيون أثبتوا أن الكون لا يزال يتوسع كلَّ لحظة.
أخبرنا عن الشمس والقمر وبديع دورانهما, أخبرنا عن الجبال وكيفيَّة إرسائها.
قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لّعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السّمَآءَ سَقْفاً مّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الّذِي خَلَقَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
فقلت: ألا توافقني على ذلك؟.
قال: لا!!
قلت: أشكرك على صراحتك, ولكن أخبرني لِمَ؟
قال: لقد أثبت الفلكيون أنَّ الكون جاء من عدم, وهو ما يُسمَّى في علم الكون الفيزيائي: الانفجار العظيم (بالإنجليزية: Big Bang).
فقلت في نفسي: ليتك وأمثالك ممَّن يمتلك عقلاً أنْ يُحسن التعامل معه, فهل هناك أحدٌ نشأ بين مسلمين يجعل من هذا إشكالاً!!.
فأجبته وقلت: إنَّ ما تذكره من نظرية الانفجار العظيم: قد رأيت فلمها قبل ثمان سنوات, يوم أنْ كُنْتَ أنتَ في المرحلة الإبتدائية, ولخَّصْتُها في مذكرةٍ عندي, وهو ما جاء شرعنا العظيم الْمُطهَّر بتقريره.
قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا), قال العلماء: أي متلاصقةً كتلةً واحدة, ففجرها الله, فأنشأ منها الكواكب والشمس والأرض.
فقلت له: هل توافقني الآن؟
قال: نعم, ولكن بقي إشكالان, أحدها: أنه ورد أنَّ الشمس لا تغيب حتى تسجد! فكيف يتوافق هذا مع ما يُثبته العلم الحديث ومع ما نراه بأعيننا؟
فقلت له: ما ذكرته هو قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قال: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ. رواه البخاري
ولا بدّ أنْ أبين لك المقصود من السجود, قال أهل العلم: سجودُ كلِّ شيءٍ بحسبه, وليس معنى السجود هنا: توافر الأعضاء والأطراف التي في بني آدم لتحقيق السجود بالنسبة للشمس, فمن معاني السجود في اللغة: الخضوع كما ذكره ابن منظور وغيره. وعليه يُحمل ما في هذا الحديث وهو المقصود في قوله تعالى في آية الحج: (أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَآبّ وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ).
قال ابن كثيرٍ رحمه الله: "يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له, فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً, وسجود كل شيء مما يختص به". ا.ه كلامه
فسجود الشمس والطير والدواب: خضوعها لله, وكونها تحت سيطرته وملكه وتدبيره.
وأما سجودها تحت العرش, فلا بدّ أنْ نعرف أنَّ الشمسَ لهَا سجدتان: سجودٌ عامٌ مستديمٌ وهو سجودها المذكور في آية النحل والحج مع سائر المخلوقات, وسجودٌ خاصٌ يتحقق عند محاذاتها لباطن العرش فتكون ساجدةً تحته, وهو المذكور في الحديث, وفي كلا الحالتين لا يلزم من سجودها أن يشابه سجود الآدميين, ولا أن تتوقف عن الحركة حال مُحاذاتها.
فقال لي: بهذا التفسير لا أجد عقلي يُخالفه أو يُنكره؛ ولكن لماذا لم نتعلم هذا الكلام من المعلمين الذين كنا نسألهم؟
قلت له: هل كانوا يقولون: بأن الشمس تسجد كسجود الآدميين؟
قال: لا, ولكنهم يقولون: نؤمن ونَكِلُ كيفيَّتَه إلى الله.
فقلت: المهم أني أخبرتك بالتفسير الصحيح, وفوق كلِّ ذي علمٍ عليم.
قال: والإشكال الثاني: أنه ورد أن السموات سبعٌ ونحن لا نرى إلا سماءً واحدة؟.
فقلت: كما هو معلومٌ أنَّ علماء الفلك أجمعوا على أنَّهم لم يتمكنوا من الإحاطة بالكون ولا عشر معشاره, وما تعرفه من كثرة وعظمة المجرات كلها تحت محيط السماء الدنيا, فمن أين لك أنه لا يُوجد سماءٌ فوق سمائنا, وإذا كنا قد اتفقنا على أن الله حق, فما قاله حقٌّ أيضا, فقد أخبرنا أن السماوات سبعٌ فقال: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) ثم تأمل ما ذكره من الحكمة في خلقها بهذه الكثرة والعظمة: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).
قلت: فهل اتفقنا الآن؟
قال: نعم.
قلت: بقي الأخير, وهو ما بعد الموت من الأمور الغيبية.
قال: نعم وهو أعْقد الأمور عندي, وأجد صعوبةً بالغةً في تصديق كثيرٍ منها.
قلت: الأمر بسيطٌ جداً, لكن ما رأيك أنْ نضع قاعدةً نتفق عليها, ثم نبحر في هذه النقطة بعدها؟
قال: تفضل.
قلت- وأخرجت له الجوال وفتحت بطاريته-: ما رأيك لو دخلت على زملائك وهم مُحتدُّون في النقاش عن سبب اقتصارهم على هذه الأربعة أسلاك, لِمَ لَمْ يجعلوها خمسةً!! ما رأيك هل سؤالهم في محلِّه؟
قال: طبعاً لا , وهو سؤالٌ سخيف.
قلت: لِمَ؟
قال: لأنهم لن يستفيدوا من الإجابة شيئاً.
قلت: إذن نتفق أنَّ أيَّ سؤالٍ لا نستفيد من الإجابة عليه فهو سؤالٌ خاطئ؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك نزيد توضيحاً: أنههم سألوا سؤالاً ووجهوه إلى شخصٍ ليس هو من تخصصه, ولو سألوا مَن صنعه لكن السؤال وجيها نوعاً ما, أتوافقني؟.
قال: نعم.
قلت: بعد تقرير هذه القاعدة التي اتفقنا عليها, أعطني ما عندك.
قال لي: أجد صعوبةً في تصديق بعض الأمور الغيبية, كعذاب القبر, وضيقه واتّساعه, ونحن إذا حفرنا القبر لا نرى شيئاً!!.
قلت: أرأيت هذا الجوال, هل خطر على بالك يوماً ما أنْ تُفتش جزئيَّاته وتسأل عن تفاصيله؟
لقراءة المقال كاملا يرجع للمرفق ،،
التعليقات