عناصر الخطبة
1/ تمكين الله ليوسف في الأرض والملك 2/ عواقب الصبر على الأقدار الإلهية 3/ تأملات في سيرة يوسف في الوزارة والملك 4/ عِبَر من قصة وصول إخوته له وعودته لأبيه 5/ أهمية التصافح والتغافر 6/ أهم مميزات نبي الله يوسف عليه السلام 7/ خلق الإحسان في حياة يوسف عليه السلام.اهداف الخطبة
اقتباس
(وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء) مكنَّا ليوسف بعد سنوات الألم والعذاب بعد أن بيع كما يباع العبد. مكنَّا ليوسف بعد زنزانة السجن أجلسناه على كرسي الملك. مكنَّا ليوسف بعد القيد والغل لبس لباس الرياسة، لم يتول بدل شخص لا يُعرَف، بل بدل الذي اشتراه، ليعلم الخلق أن الأمر لله، وأن الملك له يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء. وانظروا إلى تقدير العزيز العليم لو لم يدخل السجن ما تولى الوزارة، دخل السجن وهذا في ظاهره شر، ولكن في باطنه خير...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعنيه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الناصح الأمين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
عباد الله أيها المسلمون: تولى يوسف -عليه السلام- الوزارة في مصر بل أصبح مكان الذي اشتراه قال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء) مكنا ليوسف بعد سنوات الألم والعذاب بعد أن بيع كما يباع العبد.
مكنا ليوسف بعد زنزانة السجن أجلسناه على كرسي الملك.
مكنا ليوسف بعد القيد والغل لبس لباس الرياسة، لم يتول بدل شخص لا يُعرَف، بل بدل الذي اشتراه، ليعلم الخلق أن الأمر لله، وأن الملك له يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء.
وانظروا إلى تقدير العزيز العليم لو لم يدخل السجن ما تولى الوزارة، دخل السجن وهذا في ظاهره شر، ولكن في باطنه خير، وهذا مصداق قول الله -جل وعلا-: (فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء:19]، فارضوا عن الله قضاءه وقدره فكم من إنسان عاش سنوات من البلاء فصبر ففرج الله له، وأعقبه عن تلك السنوات سنوات من العز والنصر والتمكين!
(مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء) ما رزقت من خير في الدنيا أو الدين هو من رحمة الله، ولو أراد الله لسلبك ما أنت فيه في لحظة (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) [يوسف: 65- 57].
ما ادخر الله لنبيه يوسف -عليه السلام- أعظم وأكثر مما أعطاه في الدنيا من السلطة والرياسة، وهذا لكل عبد اتقى الله، فما عند الله من الخير والنعيم في الآخرة خير من الدنيا وما فيها، كما قال الله (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا).
تولى يوسف وزارة مصر ومرت سنوات الخصب، ثم جاءت سنوات الجدب وعم الجدب أرض مصر حتى وصل بلاد كنعان والتي يسكن فيها يعقوب -عليه السلام- وأبناؤه.
بلغ يعقوب أن عزيز مصر يعطي الناس طعامًا بثمنه، فأرسل أولاده العشر لمصر؛ لأن العزيز كان يعطي كل شخص حمل بعير من طعام، وأجلس ابنه بنيامين الأخ الشقيق ليوسف عنده فقد أحبه حبًّا شديدًا بعد ذهاب يوسف.
وصل إخوة يوسف أرض مصر، ودخلوا على العزيز؛ على يوسف فعرفهم وهم له منكرون، لأنه كان صغيرًا عندما فارقوه وباعوه للسيارة، ولم يدروا أين ذهب.
أما هو فعرفهم لأنه تركهم كبارًا فلم تتغير أشكالهم، قيل إنه أخذ يخاطبهم: ما أقدمكم على بلادي؟ قالوا: قدمنا للميرة، قال لعلكم عيون! أي جواسيس، قالوا: معاذ الله، قال من أين أنتم؟ قالوا من بلاد كنعان وأبونا يعقوب النبي، قال هل له أولاد غيركم؟ قالوا: نعم كنا اثني عشر فذهب أصغرنا هلك في البرية وبقي شقيقه احتبسه أبوه ليتسلى به.
فأمر بإنزالهم وإكرامهم ثم أوفى لهم الكيل، وقال ائتوني بأخيكم الذي من أبيكم حتى أعلم صدقكم، (وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ) [يوسف: 59- 60].
ثم قال لغلمانه (اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [يوسف:62]، قيل خشي يوسف ألا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون بها للميرة.
رجع إخوة يوسف لأبيهم وأخبروه أنهم منعوا الكيل مرة أخرى إن لم يأتوا بأخيهم بنيامين وطلبوه أن يرسله معهم ووعدوه أن يحفظوه. (فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [يوسف:63]، لكن كيف يأمنهم عليه وقد أمنهم على يوسف فغيبوه عنه وحالوا بينه وبينه قال: (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ) [يوسف:64]، لكن الكلام تغير ولم يقل أخاف فما نفع الخوف على يوسف ولا رد القدر، وليس لأمر الله رد إذا حضر.
قال: (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي) أي: ما نريد غير هذا؛ البضاعة رُدَّت إلينا ونأتي بالميرة لأهلنا (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) [يوسف: 64- 65].
استجاب يعقوب لطلبهم لأنهم لا غنى لهم عن الطعام، ولكنه أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يأتوا ببنيامين إلا أن يُغلبوا فلا يقدروا على تخليصه، ثم قال لهم: (يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ)، قالوا: خشي عليهم العين؛ لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة.
وهنا نقول من الأخطاء ما يفتعله البعض من استعراض أمام الناس في الحفلات وغيرها، وكذلك من الخطأ ركوب عائلة بأكملها في طريق سفر في سيارة واحدة، فربما وقع لهم حادث ذهبوا جميعًا أو أكثرهم، وقد قال بعضهم: إن يعقوب أمرهم بالدخول من أبوب متفرقة حتى لو وقع شيء لأحدهم سلم البقية.
(وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 67- 68].
ولما دخلوا على يوسف أكرمهم وأحسن إليهم وخلا بأخيه ينيامين، وأخبره أنه يوسف واتفق معه على أن يبقيه عنده بحيلة اتفقا عليها، وهي أن يضع يوسف الصواع وهي إناء من فضة، وقيل من ذهب كان يوسف يشرب فيه ويكيل الطعام للناس به في رحل أخيه، ثم حمل لهم جمالهم، وقبل أن يرتحلوا ناد المنادي: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ * قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ) [يوسف:73].
قال المنادي فما جزاؤه إن كان منكم؟ قالوا: جزاؤه أن تأخذونه، وكانت هذه شريعة إبراهيم، وهذا الذي أراد يوسف.
فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه حتى لا يشكوا في الأمر ثم استخرجها من وعاء أخيه فلما رأوا الصواع أخرج من رحل بنيامين (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ) يعنون يوسف قيل سرق صنمًا وهو صغير وكسره، فقال يوسف في نفسه ولم يسمعهم (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ) [يوسف:77]، أ:ي بما تقولونه عليَّ أني سرقت.
لما تعين أخذ بنيامين شرعوا يستعطفون العزيز (قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:78]، فرفض وقال: (مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ) [يوسف:79].
(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ) أي يئسوا من تخليص بنيامين (خَلَصُواْ نَجِيًّا) أي انفردوا يتناجون فيما بينهم (قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ) أي قبل هذا أضعتم يوسف (فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ) أي: لن أفارق هذه البلدة (حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي) في الرجوع إليه راضيًا (أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يوسف:80].
ثم أمرهم أن يرجعوا إلى أبيهم ويخبروه بما حدث (ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [يوسف: 81- 82]، أي: اسأل أهل مصر ومن كان في القافلة يخبروك عن صدقنا وأمانتنا.
لكن أنا لهم أن يقنعوه بصدقهم، وكيف يصدقهم وقد فعلوا بيوسف ما فعلوا، فظن أنها كفعلتهم بيوسف لذا قال (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا)، سأل الله أن يرد الثلاثة يوسف وبنيامين والذي أقام بمصر (عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف:83]، عليم بحالي وما أصابني من هم وغم وعناء هذه السنوات، وهو الحكيم بفعله وقضائه وقدره، فما ابتلاني بفراقهم إلا لحكمة.
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) أعرض عن أولاده وتجدد الحزن الدفين في قلبه على يوسف، انفجر الجرح القديم، وتذكر الحبيب الذي غاب عن السمع والبصر، تذكر يوسف وأخذ يجر الآهات ويرسل العبرات وهو يقول (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) تجددت الأحزان وتذكر يعقوب يوسف الذي غاب عن بصره ولم يغب عن قلبه فبكاه وبكاه وبكاه حتى انطفأ ضوء العين وذهب ماؤها فلا حاجة له ببصر لا يرى يوسف (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف:84].
عند ذلك رقَّ له بنوه وقالوا (تَالله تَفْتَأ تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي لا تفارق ذكر يوسف (حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا) أي ضعيف القوة (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) أي تموت، فأجابهم -عليه السلام- بأنه لا يبث الشكوى لهم بل لله وحده هو كاشف الضر (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يوسف:86].
وهنا بان الإيمان بالله، وظهرت الثقة وظهر حسن الظن به، فما يئس يعقوب من فرج الله مع أن البلاء طال واشتد فقد يوسف، ثم فقد أخويه معه، لكنه لا يزال واثقًا بربه (وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
ثم أمر بنيه بالعودة إلى مصر للاستعلام عن يوسف وأخيه، ولا يقطعوا رجاءهم من رحمة الله بالعثور على يوسف وأخيه؛ لأنه لا يقطع الرجاء من رحمة الله إلا الجاحدون لقدرته الكافرون به (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87].
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من اصطفى وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيا معاشر المسلمين:
ذهب إخوة يوسف إلى مصر ولما دخلوا على العزيز على يوسف شكوا له ما أصابهم من الضر بسبب الجدب وقلة الطعام وأخبروه أنهم جاءوا ببضاعة رديئة، وطلبوا منه أن يوفيهم الكيل ولا ينقص منها شيئًا لرداءة البضاعة التي جاءوا بها.
عند ذلك رقَّ لهم ورحمهم وأشفق على أبيه وإخوته مع ما هو فيه من العز والملك، فكشف لهم عن أمره، قال المفسرون أنه رفع التاج عن جبهته وكان فيها شامة وقال: (هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 89- 90].
اسمعوها يا أهل البلاء واحفظوها وعيشوها وطبقوها (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ) إذا ابتلى الله عبدًا من عباده فليتق ويصبر (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
عندها اعترفوا بفضله وحسن خلقه وأقروا بأنهم أساءوا إليه وأخطئوا، فماذا رد عليهم النبي الكريم يوسف؟ قال: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) لا تأنيب ولا عتاب، أيُّ قلب طاهر نقي رحيم سكن صدر يوسف -عليه السلام-، أرادوا قتله ومع هذا (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ) باعوه ومع هذا (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ)، فرَّقوا بينه وبين أبيه (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ) أذاقوه المر على صغر سنه ومع هذا (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ).
وبعض الناس حصل له موقف بسيط مع أخ أو صديق أو جار وصار يتربص به الدوائر، وإذا به يفتح له السجل القديم، تذكر لما فعلت كذا، وتذكر لما فعلت كذا، أما يوسف فعلى عظم الإساءة (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ).
بل دعا لهم بالمغفرة أن يغفر الله لهم ويستر عيبهم (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:92]، من منا وصلت إساءة قريبة أو جاره أو صديقه لربع ما وصل ليوسف ومع هذا (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ).
بالله عليكم تسامحوا وتصافحوا وتغافروا، واتركوا الماضي خلفكم، وافتحوا صفحة جديدة لعلاقة جديدة فغدًا ترحلون وتندمون؛ لأنكم لم تلقوا ربكم بقلب سليم.
عفا يوسف عن إخوته وأرسل معهم قميصه وقال: (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) [يوسف:93].
ولما تحركت العير من مصر شمَّ يعقوب رائحة يوسف من مسيرة ثمانية أيام فقال لمن عنده من بنيه (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ) أي: تتهموني بالهرم والخرب (قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ) [يوسف:95]، أي: من حب يوسف وهي كلمة عظيمة لم يكن ينبغي أن يقولها لوالدهم النبي الكريم -عليه السلام- كما قال المفسرون.
(فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا) قالوا: إن الذي جاء بالقميص ملطخًا بدم كذب هو الذي جاء بهذا ليغسل ذنبه.
ارتد يعقوب بصيرًا بعد سنوات من العمى، قيل ست وقيل أكثر، عندها قال لبنيه (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يوسف:96].
وهذه ثقة يعقوب بربه، عندها طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم على ما فعلوا به وبأخيهم يوسف: (قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ) [يوسف:97]، فرد عليهم (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يوسف:98]، قال المفسرون: أخرهم للسَّحَر إلى وقت يناجي فيه الموفقون ربًّا ليس يُدرَك بالبصر.
رحل يعقوب -عليه السلام- من أرض كنعان وورد على يوسف في مصر وخرج يوسف والملك وأكابر الدولة لتلقيه -عليه السلام- (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ) [يوسف:99]، أي اسكنوها (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي أجلسهم على سرير الملك وسجد له أبواه وإخوته الباقون، وكان هذا جائزًا في دينهم وتحققت رؤيا يوسف يوم قال لأبيه: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).
وذكر يوسف يعقوب (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) فاعتذر لإخوته وجعل الأمر من الشيطان (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف:100].
ولما تمت نعمة الله على يوسف باجتماعه بأبويه وإخوته، وما منَّ به عليه من النبوة والملك، سأل ربه كما أتم عليه نعمته في الدنيا أن يتم نعمته عليه في الآخرة، وأن يتوفاه حين يتوفاه مسلما وأن يلحقه بالصالحين، وهم إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف:101].
هذه قصة نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، ذكرنا شيئًا من فوائدها وعبرها، وما لم نذكر أكثر، وقد ظهر من القصة أن يوسف -عليه السلام- تمتع بصفتين عظيمتين:
الأولى: سلامة الصدر ظهر هذا في موقفه من إخوته، ومن زوجة العزيز ومن الذي نسيه في السجن.
الثانية: الإحسان فما فارقه الإحسان أبداً، إحسان مع الله، وإحسان مع عباد الله، وقد وصفه الله بذلك في أول السورة (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [القصص:14].
ولما دخل السجن ظل على إحسانه لذا قال له الفتيان (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
ولما تولى الوزارة ظل على إحسانه لذا قال له أخوته وهم لا يعرفونه (قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:78].
لقد تربى يوسف على الإحسان وعاش محسنًا لذا صبر على سنوات الألم والعذاب؛ لأنه كان واثقًا بأن من أحسن مع الله ستكون عاقبته حميدة، وقد قالها لإخوته: (قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90].
اللهم اجعلنا من المحسنين، اللهم اجعلنا من المحسنين، اللهم اجعلنا من المتقين، اللهم اجعلنا من الصابرين، اللهم اجعلنا من الصابرين، اللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، اللهم ارحمهما كما ربيانا صغارا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والأحياء منهم والأموات.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر:10].
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
التعليقات