عناصر الخطبة
1/ نشأة نبي الله يوسف ورؤياه العظيمة 2/ حسد إخوة يوسف له 3/ عظم كيد الشيطان ووساوسه 4/ التوبة المقبولة.اهداف الخطبة
اقتباس
لقد كان يوسف صبيًّا صغيرًا، ولكن هذه الرؤية التي وصفها لأبيه أكبر من سنّه بكثير هي ليست من رؤيا الصبية ولا الغلمان؛ لأن رؤيا الصبية تكون في الغالب صدى لما يحلم به الصبي من اللهو واللعب، الصبي يحلم بالألعاب وأنواع اللهو، هذا هو عالمه وتلك هي أحلامه، لكن أن يرى يوسف الطفل الصغير هذه الكواكب الأحد عشر بالتحديد والشمس والقمر كلها ساجدة لها كما يحني البشر رؤوسهم بالسجود تعظيما فهذا بعيدا عن أمثال أقرانه من الأطفال...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [يوسف: 3- 4].
إنه نبي الله يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ طفل صغير يرى في المنام رؤيا عجيبة أشغلت باله وبقيت في ذهنه بعد استيقاظه، وما لبس أن أخبر بها أباه الرحيم الذي يحبه حبًّا جمًّا، لم يرد أنه أخبر أمه بل أباه وهو مؤشر على عمق العلاقة بينه وبين أبيه وبإخباره الرؤيا لأبيه تبدأ القصة الآخذة للقلوب والأذهان (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) قول يوسف هو بداية القصة (يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [يوسف: 4].
إنها رؤية مبشرة تنمّ عن خير كثير يصل إلى يوسف من حيث يعلم وتبشره بمكانة عالية تدل له الناس (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).
لقد كان يوسف صبيًّا صغيرًا، ولكن هذه الرؤية التي وصفها لأبيه أكبر من سنّه بكثير هي ليست من رؤيا الصبية ولا الغلمان؛ لأن رؤيا الصبية تكون في الغالب صدى لما يحلم به الصبي من اللهو واللعب، الصبي يحلم بالألعاب وأنواع اللهو، هذا هو عالمه وتلك هي أحلامه، لكن أن يرى يوسف الطفل الصغير هذه الكواكب الأحد عشر بالتحديد والشمس والقمر كلها ساجدة لها كما يحني البشر رؤوسهم بالسجود تعظيما فهذا بعيدا عن أمثال أقرانه من الأطفال.
هذا أمر عجيب عظيم، ولذلك بادر يعقوب مباشرة بعد استماعه لرؤيا ابنه الصغير بادر بنهيه عن أن يخبر إخوته تحديدا وهو دليل علمه بحسده من أخيهم وخطورتهم عليه قال: (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [يوسف:5].
نعم إنه الشيطان إن الشيطان للإنسان عدو مبين، الشيطان يوغر صدور الناس بعضهم على بعض ويشعل الحسد ويزين لهم الخطيئة والشر، هكذا هو دأبه طوال حياة الإنسان، وستظل هذه الرؤيا سرًّا بين يوسف وأبيه طوال السنين.
معاشر الإخوة: إذا أراد الله أمراً من الأمور العظام قدم بين يديه مقدمات عجيبة، هكذا صار لنبي الله موسى -عليه السلام- بعد أن كان آمنًا هانئ العيش في قصر فرعون إذ بالأحداث تجري عليه تترى، وإذ بوضعه يفسد وإذ به يصبح بعد أمنه خائفًا طريدًا مهددًا حتى فرَّ من أرض مصر، ثم يهديه ربه سواء السبيل إلى وصوله ماء مدين إلى زواجه من تلك الأرض ليئول به الحال بعد ذلك إلى جبل الطور حيث كلمه ربه وألقى إليه بأمره.
وروي أيضا للنبي -صلى الله عليه وسلم- عندما حبب له التعبد الليالي ذوات العدد حتى جاءه جبريل بالوحي هناك توطئة ما يسهل بها اللطيف الخبير الأمور العظام لطفا بعباده المصطفين الأخيار وإحسانا إليه.
ورؤيا يوسف كانت بداية، ولا شك، تهيئة له لما سيجري عليه فيما سيأتي من الزمان، ولذلك أتت الآية التي تلتها مبينة لطف الله هذا؛ إذ قال -سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [يوسف:6].
(يَجْتَبِيكَ) يصطفيك يختارك، وإنما اختاره -سبحانه وتعالى-؛ لأن يوسف كان أجدر الناس بالاصطفاء في زمانه وقد قال تعالى: (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124].
وهاهنا تظهر علامات الاصطفاء؛ إذ نرى يوسف وهو زمن الطفولة يدخل عالم الرؤيا الصادقة الصالحة والرؤيا الصالحة من أجزاء النبوية كما صح في البخاري من حديث أبي سعيد قال -صلى الله عليه وسلم-: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة".
وأيّ نعمة أغلى وأسمى من نعمة النبوة، يقول تعالى: (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ) [يوسف:7]، الآيات هي العلامات ويجعلونها في البقع الصحراوية والمناطق المجهولة من الأرض بحيث تكون بادية لا تغمرها الرمال لتكون مرشدة للسائلين علامات، فالآية تقول: لقد كان شأن يوسف -عليه السلام- وإخوته مشتملاً على دلائل عظيمة من العبر والمواعظ تعرف بعظيم صنع الله –تعالى- وتقديره الحكيم وروعة لطفه بمن اصطفى من عباده الصالحين وحسن عنايته بهم.
لقد كان في هذا الشأن كله آيات للسائلين، السائلين عن الحق الساعين إلى الفلاح، ومن وصفوا بأنهم سائلون فهم يتوقع هذا الاعتبار ويتوقع منهم السؤال عن المواعظ والحكم وهل يكتسب العلم والفهم والنجب إلا بالسؤال؟
وكما قيل:
سَلِي إنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنهُمُ *** فَلَيْسَ سَواءً عَالِمٌ وَجَهُوْلُ
(لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ)، نلاحظ أن الآية خصت في بيان دلائلها ما جرى بين يوسف وإخوته دون باقي شخصيات القصة لا في أبيه ولا في العزيز وامرأته ولا في السجنين ولا في غيرهما (فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ)، فلربما كان السبب أن السورة نزلت في مكة تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتثبيتًا له فكان العنصر الأهم ما سببه كيد إخوة يوسف من أحداث أليمة قاسية في مبدأها وجزء من أواسطها عظيمة مبهرة في مآلاتها.
وكأن السورة تقول لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: إن قصتك يا محمد هي قصة أخيك يوسف، فأنت نبي تتآمر عليك عشيرتك، ويتآمر عليك بنو قومك، وهو نبي قد تآمر عليه إخوته وغير إخوته فأراد بعض إخوته قتله ثم اتفقوا على إخراجه ونفيه، ثم انظر كيف جرى لطف الله –تعالى- به فكانت العاقبة له.
وأنت يا محمد يمكر بك قومك وبنو جلدتك ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، وسترى لطف الله بك فاصبر إن العاقبة للمتقين.
تسلية وتثبيتا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى مبينًا مشهد القصة الثاني بعد مشهد إخبار يوسف لأبيه رؤيا مشهد اجتماع إخوته وتآمرهم عليه: (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) [يوسف:8]، (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) اللام للتأكيد أي: والله ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا، أحب إليه منا كلنا ونحن عصبة أي يفضلهما علينا بمحبة فائضة على صغرهما وقلة نفعهما، ونحن عصبة عشرة رجال أقوياء أشداء نقوم له بكل ما يحتاج من أسباب الرزق والحماية والكفاية وهم صغيران لا يعينانه بشيء (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ).
ثم يغلي الحقد في نفوسهم، ويشتعل الحسد في قلوبهم، ويدخل الشيطان لينفخ في تلك المشاعر العكرة ليضخم في أذهانهم أشياء صغيرة، ويهون على نفوسهم أفعالاً شنيعة، ويسول لهم قتل أخيهم الصغير، وإزهاق روحه البريئة، والشيطان أعظم إنجاز يفعله هو التفريق بين الأحبة وهدم البيوت السعيدة؛ إذ كان البيت بيت نبوة فإنه أكثر حرصًا على هدمه ويكون سعيه بذلك أكثر وأعظم (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا) كأنه على لسان الشيطان يحكيه أحد إخوته (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا)، اقتلوه أو اطرحوه أرضًا قريبًا من قريب؛ فطرحه في أرض نائية مقطوعة يؤدي في الغالب إلى موته.
لماذا؟ (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ)، فلا يحجبه يوسف وهم في الحقيقة يريدون قلب أبيهم كاملاً، فكأنهم يقولون حين لا يرى يوسف في وجهه وأمام عينيه، ويغيب عن حياته يصبح قلبه خاليًا من حبّه الشديد له، ويتوجه بهذا الحب إلينا، وهذا من تلبيس الشيطان ووسوسته ودجله عليهم، فالرؤيا من عدمها لا تؤثر في الحب بل ربما زاد غياب الحبيب القلب اشتعالاً، وهو ما حدث ليعقوب بالفعل قال (وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)، هكذا نزغ الشيطان قال لهم على لسان أحدهم اقتلوه، والتوبة بعد ذلك تصلح ما فات!!
وليست التوبة هكذا، إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يفعلها المرء غافلاً جاهلا غير ذاكر، حتى إذا تذكر ندم وجاشت نفسه بالتوبة (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء:17].
وقال تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل:119].
أما التوبة الجاهزة، التوبة التي تُعد سلفًا قبل ارتكاب الجريمة لإزالة معالم الجريمة، فليست في حقيقتها توبة، إنما هي تبرير لارتكاب الجريمة يزينها الشيطان، قدموا العزم على التوبة قبل صدور الدم تسهيلاً لفعل ذلك الذنب، وإزالة لشناعته وتنشيطًا من بعضهم لبعض كما يعزم بعض الناس على فعل ذنب أو وقد يبيت النية على أن يعتمر بعد ذلك أو يحج حتى يغسل ذنوبه، وهكذا يبقى في ذهنه وفي نيته فعل الذنوب مرة وأخرى؛ اعتمادًا على إحداث عبادة بعدها لتمحوها.
فأين هو العزم على عدم العودة للذنب الذي هو شرط من شروط التوبة؟!
وهكذا هو الشيطان يورد أمثال هذه الأفكار على النفس فتقبل، فإن الناس في مدى صحوة الضمير يتفاوتون منهم من ضميره حي، ومنهم من ضميره مريض، ومنهم من ضميره ميت، ومنهم من هو معدوم الضمير لا ضمير له.
وقد قدر الله -تعالى- بلطفه ورعايته ليوسف، قدر الله أن يجعل ضمير أحد إخوة يوسف فيه نوع من حياة، فيه نفحة روح فينزعج من هول ما هم مقدمون عليه، ويقترح حلاً يريحهم من يوسف دون قتله (قَالَ قَائِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) [يوسف:10]، ألقوه في قاع بئر من الآبار التي ترد إليه القوافل فيأخذونه ويذهبون به بعيدا، ونتخلص منه دون قتله.
وهكذا تفرق جمعهم على هذا الكيد وبقي عليهم التنفيذ، وللحديث تتمة إن شاء الله تعالى..
اللهم اعز الإسلام والمسلمين..
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (2)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (3)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (4)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (5)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (6)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (7)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (8)
قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- (9) والأخيرة
التعليقات