عناصر الخطبة
1/ عاشوراء نموذج لصراع الحق مع الباطل 2/ قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون 3/ استحباب صيام يوم عاشوراء 4/ هيئة صيام عاشوراء ومخالفة اليهود فيهاهداف الخطبة
اقتباس
ويوم عاشوراء اليوم العاشر من شهر الله المحرم، إن هذا اليوم له تاريخ ومناسبة، إنها سُنَّةٌ من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير، قصة نبي الله موسى -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- مع طاغيةٍ من طغاة البشر، وقصة موسى -عليه السلام- تكررت في القرآن الكريم في مواضع عدة؛ ليبين الله تعالى للناس أنها نموذجٌ لصراع الحق مع الباطل ..
الحمد لله العلي الكبير؛ أعز أولياءه وأذل أعداءه، هو مولانا فنعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وتفكروا في تصرم الشهور والأعوام، وفي مضى الساعات والأيام، لقد ودعتم منذ أيامٍ قلائل عامًا هجريًا، وها أنتم تستقبلون عامًا جديدًا.
ويوم عاشوراء اليوم العاشر من شهر الله المحرم، إن هذا اليوم له تاريخ ومناسبة، إنها سُنَّةٌ من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير، قصة نبي الله موسى -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- مع طاغيةٍ من طغاة البشر، وقصة موسى -عليه السلام- تكررت في القرآن الكريم في مواضع عدة؛ ليبين الله تعالى للناس أنها نموذجٌ لصراع الحق مع الباطل، وحزب الرحمن مع حزب الشيطان، ولتسلط الطغاة الأشرار على المتقين الأبرار، وهى بيان لمصير المستعبدين استخفَّهم فأطاعوه فلم ينقذهم من الموت حال الشدة والضيق، وقصة موسى -عليه السلام- مع فرعون وقومه تبين بجلاء عاقبة المتقين الصابرين الذين اتبعوا الحق فنجاهم الله بذلك، بل وجعلهم أئمة.
أيها المؤمنون: لقد أرسل الله تعالى نبيه موسى -عليه السلام- إلى فرعون مصر بالآيات البينات؛ ليدعوه إلى توحيد الله وعبادته وحده دون سواه، فكان رد فرعون: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 23]، فأجابه موسى -عليه السلام-: (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ) [الشعراء: 24]، فردَّ فرعون ساخرًا ومستهزئًا بموسى ومحقرًا لدعوته قائلاً لمن حوله: (أَلا تَسْتَمِعُونَ) [الشعراء: 25]، فأثبت له موسى ربوبية الله، وأن الذي خلقهم هو الذي خلق آباءهم، وأن المصير واحد، فقال: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ) [الشعراء: 26]، فلما عجز فرعون عن مقاومة الحق وأفحمه موسى بالحجة والبرهان لجأ إلى حيلة العاجزين والمتكبرين من الإرهاب والوعيد، فتوعد موسى بالاغتيال والسجن قائلاً: (لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء: 29].
ويمضى موسى -عليه السلام- يبين للناس الحقيقة بالآيات، كلُ أيةٍ هي أكبر من أختها، فيحاول فرعون إخفاءها وردها، ويضع قضية أخرى ويفتخر بما عنده من المتاع ويقول لهم: (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الزخرف: 51]، ويحتقر موسى ويُهونُ من شأنه قائلاً لقومه: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [الزخرف: 52، 53]، ولما أراد الله تعالى نصرةَ عبده المؤمن أعمى الله بصيرة الطاغية ومن معه وجعلهم يغترون بدنياهم، وواعد فرعون موسى يومًا يأتي كلٌّ منهما بما عنده، فواعدهم موسى موعدَ الواثق بنصر الله، وكان ذلك يوم عيدهم في رابعة النهار ضحى، فاجتمع الناس، وأتى فرعون بكل ما يستطيع من كيد ومكر، أتى بالسحرة الذين تحدوا موسى في حماقةٍ عمياءَ بقولهم: (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) [الأعراف: 115]، ولكن موسى وقف أمامهم كالطود الشامخ وقفةَ المعتصم بالله، وأذن لهم بأن يلقوا فألقوا ما عندهم من السحر، فأمره الله قائلاً: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا) [طه: 69]، فألقاها فكانت المعجزةُ القاهرة، ثعبان ضخم عظيم يفغر فاه ليلقف ما يأفكون، عند ذلك أدرك من أدرك حقيقة أمرهم وضآلة قدرهم أمام عظمة الحق وجلالهِ، فخروا ساجدين قائلين: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [الشعراء: 47، 48].
فماذا كان موقف فرعون أمام هذه المفاجأة التي لم تكن في حسبانه؟!
لقد أشتد غضبه، وغلت مراجل الحقد في صدره، وانعكست عليه الآمال، واختلطت عليه الأوراق، واحتدم غيظه، وبدأ حملاته المسعورة في الانتقام ممن يخالفه، فقطَع أيدي وأرجل المؤمنين ممن كانوا سحرة من خلاف، ثم صلَبهم على جذوع النخل، وأنزل العذاب والنكال بمن آمن بالله واتبع موسى، وهدد بقتلِ الأبناء واعتقال النساء إذا ظلوا على إيمانهم بالله وكفرهم بفرعون.
أيها الإخوة في الله: إن آمال المؤمنين بالله لا تقف لحظةً من اللحظات، وثقتهم بالله هي الرصيد الكبير الذي يملأ قلوبهم ونفوسهم، ولما بلغ السيل الزبى طلب نبي الله موسى -عليه السلام- إلى قومه أن يستخدموا السلاح الفتاك الذي يملكه كل واحد، طلب إليهم اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء بكشف السوء ودفع الضرر، وقال لهم موسى: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128].
وجاءهم النصر من عند الله تعالى الذي ينصر من ينصره، وأمر الله موسى أن يخرج بالمسلمين من أرض مصر ليلاً فخرجوا، ولما علم فرعون بذهابهم غضبَ عليهم غضبًا شديدًا، وجمع جيشه وجنوده ليلحقهم ويمحقهم؛ قال تعالى: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) [الشعراء: 53-56]، فأدركهم فرعون عند شروق الشمس قريبًا من البحر، ولم يكن أمام المؤمنين إلا البحر، فشكوا إلى نبي الله موسى ما هم فيه وقالوا: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء: 61]، فقال لهم نبيهم: (كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62]، فأوحى الله إليه (أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ) [الشعراء: 63]، فيتقدم -صلوات الله وسلامه عليه- إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه، فلما ضربه انفلق وانفتح اثني عشر طريقًا يابسة، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، ودخل فرعون وجنوده على آثارهم، فلما جاوزه موسى وقومه وخرج آخرهم منه وتكامل فرعون وقومه في داخل البحر أطبقه الله عليهم، وعاد إلى حالته الأولى، فأغرقهم أجمعين، وسقط الذي كان يقول: (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى) [النازعات: 24]، وسقط الذي كان يقول: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38]، وسقط معه الذين استخفهم فأطاعوه.
أيها المسلمون: إن نجاة موسى وقومه من عدو الله فرعون وجنوده لنعمة كبرى تستوجب الشكر لله -عز وجل-؛ ولهذا لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء قال: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟!"، فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "أنتم أحق بموسى منهم فصوموا". رواه البخاري.
فالسنة -أيها الإخوة- صيام هذا اليوم شكرًا لله، فقد صامه كليم الله موسى -عليه السلام- شكرًا لله، وصامه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه وقال في فضله: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله"، يقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: "ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرى صيام يوم فضّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء". متفق عليه.
وتقول أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها-: "أربع لم يكن يدعهن النبي -صلى الله عليه وسلم-: صيام يوم عاشوراء، وعشر ذي الحجة، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الفجر". أخرجه النسائي. فاحرصوا على صيام يوم عاشوراء قربةً إلى الله، واقتداءً بنبيكم -صلى الله عليه وسلم-، وتفكروا في كتاب ربكم ففيه السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، وتأملوا ما قصه الله لنا في كتابه من أمر موسى -عليه السلام- مع طاغية من طغاة البشر، وما في هذه القصة من سنن وثوابت، واشكروا الله ربكم على نعمه المترادفة كما شكره أنبياؤه -عليهم السلام- والصالحون من عباده.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
الخطبة الثانية:
كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- مخالفة اليهود في كل شيء، ولا عجب في ذلك؛ فلقد خالفهم في الأصول والمعتقدات، وحيث إن اليهود تصوم اليوم العاشر منفردًا أمر -صلى الله عليه وسلم- بمخالفتهم بصيام اليوم التاسع مع العاشر وقال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع". وصيام اليوم التاسع هو الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، أما صيام اليوم الحادي عشر مع العاشر فتحصل به المخالفة، وإنْ صام المسلم الثلاثة الأيام التاسع والعاشر والحادي عشر كان زيادة في الخير.
ومعلوم أن اليوم العاشر هو يوم الخميس القادم، وصيام الخميس من الأيام المستحب صيامها، وهو يوافق يوم إجازة والجو بارد، فاغتنموا -وفقني الله وإياكم لصالح العمل- مواسم الخيرات، ومروا أهليكم وأولادكم بصيام هذا اليوم وغيره من نوافل الطاعات، ثم صلوا وسلموا على نبيكم...
التعليقات