عناصر الخطبة
1/ قصة موسى عليه السلام من أكثر القصص ورودًا في القرآن 2/ فرعون يأمر بقتل غلمان بني إسرائيل 3/ موسى يتربى في قصر فرعون 4/ المواجهة بين موسى وفرعون 5/ اجتماع السحرة في يوم الزينة 6/ انهزامهم أمام موسى عليه السلام وإسلامهم 7/ موسى يهرب ببني إسرائيل ليلاً 8/ غرق فرعون عليه لعنة اللهاهداف الخطبة
اقتباس
من أكثر القصص التي وردت في القرآن الكريم وأعظمها قصة موسى بن عمران وأخيه هارون عليهما الصلاة والسلام مع الطاغية فرعون، وهي قصة مليئة بالعبر والدروس، ففرعون كان من رؤوس الكفر والضلال والتجبر والتعالي على الله تعالى وعلى خلقه مفسدًا في أرض، طغى وتجبر وادعا أنه إله، وآثر الحياة الدنيا، وأذل النبي المجتبي موسى عليه السلام، ذبح الرجال واستحيا النساء من ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، لا إله إلا الله محمد رسول الله، واحذروا من المعاصي فإن أجسامكم على النار لا تقوى، وتزودوا من الأعمال الصالحة للدار الآخرة، واعلموا أن خير الزاد التقوى، واحمدوا الله أن بلغكم هذا العام الهجري الجديد، وابدؤوه بالأعمال الصالحة، واسألوا الله أن يصلح أعمالكم ونياتكم في كل وقت وحين.
عباد الله: من أكثر القصص التي وردت في القرآن الكريم وأعظمها قصة موسى بن عمران وأخيه هارون -عليهما الصلاة والسلام- مع الطاغية فرعون، وهي قصة مليئة بالعبر والدروس، ففرعون كان من رؤوس الكفر والضلال والتجبر والتعالي على الله تعالى وعلى خلقه مفسدًا في أرض، طغى وتجبر وادعا أنه إله، وآثر الحياة الدنيا، وأذل النبي المجتبي موسى -عليه السلام-، ذبح الرجال واستحيا النساء من بني إسرائيل، واستعبد الرجال واستخدمهم في أقبح المهن والصنائع، وقهرهم بسلطانه وملكه، وكان على قصره ستة وثلاثون ألفًا من الحرس، كل واحد منهم يرى أن فرعون إلهه وخالقه ورازقه ومحييه ومميته، وكان يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، ويقول أيضًا: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص:38]، ويقول: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:29].
وقد أثر عن الخليل إبراهيم -عليه السلام- أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك فرعون على يديه، فوصلت هذه البشارة إلى فرعون وحاشيته، وكان لا يولد له ذكر، فأمر عند ذلك بقتل كل غلام يولد من بني إسرائيل، حذرًا من وجود هذا الغلام المبشر به، ولكن لا يغني الحذر من القدر، فبدأ فرعون يحذر من هذه البشارة، ويبذل كل الأسباب التي في وسعه حتى لا يوجد موسى، حتى جعل رجالاً وقوابل يدورون على الحوامل ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة من بني إسرائيل ذكرًا إلا ذبحه الذابحون من ساعة ولادته بأمر من فرعون.
وشاء الله تعالى أن يولد موسى -عليه السلام- في عصر فرعون -أهلكه الله- ويتربى في ملكه وعلى فراشه، ويتغذى بطعامه وشرابه، وأن يتبناه ويربيه ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، فيكون هلاكه في الدنيا والآخرة على يدي هذا الغلام الذي فر من وجوده وقتل بسببه آلاف الأطفال الذكور من بني إسرائيل، ليعلم هذا الجبار أن حكم الله لا يغالب، وقدره لا يخالف، حيث حملت أم موسى -عليه السلام- به، ولما شارفت على ولادته أوحى الله تعالى إليها -وحي إلهام وإرشاد- أن لا تخاف ولا تحزن، فإن الله متكفل بحفظ وليدها ورعايته وحمايته، وسيرده إليها ويجعله نبيًّا مرسلاً، ويُعلي كلمته في الدنيا والآخرة، وعندما ولدته ألقته في البحر كما أمرت، فسار به نهر النيل، فمر به على قصر فرعون، (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) [القصص:8].
فلما رأته آسية امرأة فرعون ألقى الله حبه في قلبها، فاستوهبته من فرعون ودافعت عنه، وقالت لزوجها فرعون: (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [القصص:9]، وقد نالها ما رجت من النفع، فهداها الله به في الدنيا، فآمنت بالله وكفرت بفرعون، وأسكنها الله جنته بسبب موسى في الآخرة، وجعلها الله مضرب المثل للمؤمنين والمؤمنات إلى قيام الساعة؛ لأنها أعلنت إيمانها بالله تعالى ولم تخف من بطش فرعون، وصبرت على تعذيبه إياها.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "إن فرعون أوتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها، فكان إذا تفرقوا عنها ظللتها الملائكة، فقالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم:11]، فكشف الله عن بيتها في الجنة.
وضاقت أم موسى -عليه السلام-، وكادت من فرط حزنها وخوفها أن تظهر أمره وتقول: إنه ولدها، وأن تبحث عنه علانية لولا أن ربط الله على قلبها فثبتها وصبرها لتكون من المؤمنين، فأمرت ابنتها الكبرى أن تتبع أثر موسى وتطلب خبره، فخرجت إلى المدينة تبحث عنه، (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، ذلك أن موسى -عليه السلام- لما استقر في دار فرعون وهو غلام رضيع أرادوا إرضاعه فلم يقبل ثديًا ولا طعامًا ولا شرابًا، فحاروا في أمره واجتهدوا فأرسلوا به القوابل إلى السوق لعلهن يجدن من يوافق على رضاعته، فبينما هم وقوف به، والناس عكوف عليه؛ إذ بصرت به أخته، فلم تظهر معرفتها له، بل قالت: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص:11].
كبر موسى -عليه السلام-، وتربى في بيت فرعون وهو لا يشعر ما يريد الله به، وحصل له أن قتل شخصًا من قوم فرعون، ثم خرج من المدينة وهو خائف يترقب، وتوجه تلقاء مدين، وحصل له ما حصل من رعي الغنم وزواجه من إحدى ابنتي مدين، وبقي هناك حوالي عشر سنوات، وبعد أن آتاه الله العلم والحكمة وجعله من المحسنين واصطفاه برسالاته وبكلامه، واختاره لتبليغ رسالته إلى فرعون وملئه، سار بأهله راجعًا إلى مصر في ليلة مظلمة باردة، فتاهوا في الطريق، فجعل الله تعالى نارًا لا يراها إلا موسى تخرج من جانب الطور الأيمن، وهناك أوحى الله -عز وجل- إليه وكلمه وأيده بأخيه هارون وزيرًا ومعينًا، وأرسلهما إلى فرعون وقومه يدعوانه إلى الله بلين ولطف حتى لا يطغى عليهما، ولكنه طغى وكذبهما وتجبر عليهما وقال: أنتما ساحران، ومع كل ما جاء به موسى -عليه السلام- وأخوه من حجج دامغة إلى فرعون، إلا أنه عاند ولم يستجب لدعوته، واستمر على كفره، ثم جاء السحرة، وأعلى الله موسى -عليه السلام-، فآمن السحرة بعد قصة طويلة مفصلة في كتاب الله في عدد من سور القرآن الكريم، ومع ذلك عميت بصيرة فرعون ولم يملك إلا التوعد والتهديد للسحرة الذين بعد إيمانهم بالله لم يخشوا عقاب فرعون ووعيده، فثبتوا على إيمانهم لتكون آية وعبرة للناس جميعًا، فقطع فرعون أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم في جذوع النخل لعلهم يرجعون عن إيمانهم برب العالمين، فلم يسمع منهم إلا قولهم: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه 72: 73].
فيا لقدرة الله العظيم، فرعون جمع السحرة أمام الناس في يوم عيد لهم -يوم الزينة- ليظهروا كذبًا وزورًا أن موسى وأخاه ساحران عظيمان، وكانوا قبل المناظرة يسألون فرعون الأجر على الفور، ويتمنون القرب منه، فخذلوه بقدرة الله وأظهروا للناس أنه كذاب مفسد في الأرض، يستعين بالسحرة، ولا يفلح الساحر حيث أتى، وأن موسى رسول رب العالمين؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كانوا أول النهار سحرة، فصاروا من آخرة شهداء برره". وتلك مشيئة الله وأمره وحكمه، لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره وقضائه.
وللحديث بقية في الخطبة الثانية -إن شاء الله تعالى-.
أسأل الله أن يبارك لنا ولكم في القرآن العظيم، وهدي خاتم المرسلين. أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: لم يزدد فرعون وقومه من الآيات والأحداث التي تجري على يد موسى وهارون -عليهما السلام- إلا كفرًا وعنادًا وبعدًا عن الحق، فأخذهم الله تعالى بالسنين القحط والجدب ونقص من الثمرات، وأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، فاستكبروا في الأرض وكانوا قومًا مجرمين، أراهم الله من خوارق العادات وأعظم الآيات ما بهر الأبصار وحيّر العقول، ولكنهم تمادوا في كفرهم وعنادهم وطغيانهم، متابعةً لملكهم فرعون، ولم يؤمن بموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) [يونس:83].
فأوحى الله -عز وجل- إلى موسى -عليه السلام- أن يسري بعباد الله ليلاً، فلما علم فرعون اشتاط غضبًا، فجمع جنوده جميعًا للحاق بموسى وأتباعه المؤمنين بالله، فاتبعوهم فأدركوهم مع شروق الشمس على ساحل البحر، فالبحر أمام موسى ومن آمن معه، وعدوه فرعون وجنوده من خلفه، فأوحى الله إليه: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء:63]، أي مثل الجبل العظيم، فدخل موسى وقومه في طريق يابس، كأن الماء ما مر به قط، انفلق اثني عشر طريقًا، ثم خرج من البحر ومن معه، وأمره الله أن يترك البحر، إنهم مغرقون -أي قوم فرعون-، فلما دخل فرعون وجنوده واكتملوا أطبق الله -عز وجل- عليهم البحر، فأغرقهم جميعًا، عند ذلك أناب فرعون إلى الله عندما عرف أنه لا عاصم ولا مانع من أمر الله وقدرته، ولكن لا ينفعه إيمان عند ذلك.
الله أكبر؛ أهلك الله -عز وجل- ذلك الطاغية وأخرجه مما كان فيه من نعمة، وأورثها الله سبحانه موسى -عليه السلام- وقومه، وقد كان هلاك فرعون وجنده ونصر موسى -عليه السلام- وقومه في العاشر من شهر الله المحرم، فصامه موسى وقومه شكرًا لله تعالى على نصره، وفي صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟! قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه.
وفي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم -يعني يوم عاشوراء-، وهذا الشهر -يعني رمضان-"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضل صيام يوم عاشوراء: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". رواه مسلم.
وقال: "لئن بقيت إلى قابل -يعني العام القادم- لأصومن التاسع". يعني مع العاشر. رواه مسلم. وذلك مخالفة لليهود، فاحرصوا -رحمكم الله- على أن تصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، ومن صام الثلاثة -أي يومًا قبله ويومًا بعده- فهو أكمل وأفضل، مخالفةً لليهود، ومن صامه وحده فهو أدنى مراتب الجواز.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم رسل الله نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-.
التعليقات