قصة النجاشي والدروس المستفادة

إبراهيم بن صالح العجلان

2016-07-25 - 1437/10/20
عناصر الخطبة
1/ تأملات في قصة النجاشي وعدله 2/ صور من حياة المسلمين في الحبشة 3/ أهم الدروس والعبر المستفادة من القصة 4/ أهم مقاصد السياسة الشرعية المستفادة من أحوال النجاشي 5/ نظرات في أحداث تركيا الأخيرة.
اهداف الخطبة

اقتباس

هي حكاية ماضية، لكنَّ عبرَها ودلالاتِها باقية. بطلها سُلْطَانٌ عَادل، ومَلِكٌ مُقْسِطٌ، ذَاعَ صِيْتُهُ في أَرْجاءِ المعْمُورَةِ، حتى غدا أَصْحَمَةُ رَمْزاً للعدْلِ، والذي جَعَلَ مِنْه ظِلَّاً يَأْوِي إليه كلُّ مظلومٍ مِنْ شَتَّى الدِّيار. أَنْذَرَ نَبيُّنا عشيرتَه الأَقْرَبِين، وَطَاشَ مِنْ قُريشٌ صوابُها، وَخَرَجَتْ عن وَقَارِهَا، فَأَذَاقَتْ المسلمينَ المرَّ والأمرَّ، ومسَّ أهلَ الإيمان الضرُّ، ولاقَوْا مِنْ البلاءِ الذي لا يُطَاق، ولَا قُوَّةَ تَحْمِيْهِمْ، وَلَا حِلْفَ يُؤْيِهِمْ، فَأَذِنَ لهم أنْ يُهاجِرُوا إلى دِيارٍ بَعِيْدةٍ، بَينهم وبينها بَحْرٌ فيه ما فيه من المخاطر، لماذا؟ لأن فيها مَلِكَاً لا يَظلم، فالضعيفُ عنده لا يُظْلَمُ، والظَّالِمُ لا يَنتصر.

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله...

 

إخوة الإيمان: التاريخ نذير قوم لا يغفل، وشاهد حق لمن تأمل، وبه يعيش المرء عصره بتجارب غيره.

وَمَنْ حَوَى التَّارِيخَ فِي صَدْرِهِ *** أَضَافَ أَعْمَاراً إِلَى عُمْرِهِ

 

هي حكاية ماضية، لكنَّ عبرَها ودلالاتِها باقية.

بطلها سُلْطَانٌ عَادل، ومَلِكٌ مُقْسِطٌ، ذَاعَ صِيْتُهُ في أَرْجاءِ المعْمُورَةِ، حتى غدا أَصْحَمَةُ رَمْزاً للعدْلِ، والذي جَعَلَ مِنْه ظِلَّاً يَأْوِي إليه كلُّ مظلومٍ مِنْ شَتَّى الدِّيار.

أَنْذَرَ نَبيُّنا -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عشيرتَه الأَقْرَبِين، وَطَاشَ مِنْ قُريشٌ صوابُها، وَخَرَجَتْ عن وَقَارِهَا، فَأَذَاقَتْ المسلمينَ المرَّ والأمرَّ، ومسَّ أهلَ الإيمان الضرُّ، ولاقَوْا مِنْ البلاءِ الذي لا يُطَاق، ولم يَكُنْ بُدٌّ مِنْ النبي-صلى اللهُ عليه وسلمَ- أنْ يأْذَنَ لهم بالخُروجِ مِن الدِّيار، فَلَا قُوَّةَ تَحْمِيْهِمْ، وَلَا حِلْفَ يُؤْيِهِمْ، فَأَذِنَ لهم أنْ يُهاجِرُوا إلى دِيارٍ بَعِيْدةٍ، بَينهم وبينها بَحْرٌ فيه ما فيه من المخاطر، لماذا؟ لأن فيها مَلِكَاً لا يَظلم، فالضعيفُ عنده لا يُظْلَمُ، والظَّالِمُ لا يَنتصر.

 

فترحَّلتْ تلك الفئةُ المؤمنةُ مهاجرةً عن أوطانِها الغاليةِ، حتى إذا وصلوا تلك الديارَ عاشوا الحريةَ وعدمَ الإيذاء، ورأوا العَدْلَ كما أخبر به النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، تقول أم المؤمنين أمُّ سلمةَ - وكانت ممن هاجر -: "نزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا الله، لَا نُؤْذَى، وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ".

 

أمَّا قُريشٌ فقدْ بَلَغَهَا خبرُ المهاجرين، ولم يَكُنْ لهم خِيَارٌ أن يُحاربوا أهلَ الحبشةِ في أقصى الديار، فاختاروا أسلوبَ الإغراءِ وشراءِ الذِّمَمِ، فسألوا عن النَّجاشيِّ وما يُحِبُّ، فأُخْبِرُوا أنَّه يُحبُّ الجلود، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَماً كَثِيراً، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلَّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ.

 

وَصَلَ وفدُ قريشٌ إلى الحبشة، ودفعوا لهدايا لِبَطَارِقَةِ النَّجاشي قبل أن يَدْخُلوا عليه، وطلبوا منهم أنْ يُشيروا على النَّجاشي أن يُسْلِمَهُمْ إِلَيْهم وَلَا يُكَلِّمَهُمْ.

 

فلمَّا دخلا على النَّجَاشِيِّ، قدَّما له الهدايا، فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ، فَقَالَا: "أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ".

 

 وَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ: "صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعَلَم بِهِمْ، فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ".

 

فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ ثُمَّ قَالَ: "لَا واللَّهِ، لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَلَا أُكَادُ قَوْمًا جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ، حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَاذَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي".

 

ثُمَّ أَرْسَلَ النجاشي إِلَى أَصْحَابِ النبي -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَلَمَّا جَاءُوهُ وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ، فَقَالَ: "مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي، وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ

 

فتقدم جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَتكلم، وقَالَ: "أَيُّهَا الْمَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ..".

 

قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ؛ "فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ".

 

 فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: "هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ سورة مريم، قَالَتْ أم سلمة: فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَدًا، وَلَا أُكَادُ".

 

قَالَتْ أم سلمة: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ، مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، مَعَ خَيْرِ جَارٍ.

 

وبينما المهاجرينَ على هذه الحالِ إِذْ نَزَلَ بِالحبشة رجلٌ يُنَازِعُه النجاشي فِي مُلْكِهِ، قالت أمُّ سلمة: "فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ".

 

وحَصَلَتْ المواجهةُ خلفَ نَهْرِ النِّيلِ، والتقى الجمعان، واقتتل الخصمان، وقلوب المهاجرين تَخْفِقُ خوفاً على النجاشي، وقلقاً من مستقبلهم، وألسنتهم تلهج بالدعاء له بالنصر والظَّفَرِ، فَقَالوا: "مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ، ثُمَّ يَأْتِيَنَا بِالْخَبَرِ"، فقام الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا فقال: أنا، فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ، والمسلمون في اضطراب وقلق ينتظرون الخبر، وبينما على ذلك إذْ طَلَعَ الزّبَيْرُ وَهُوَ يَسْعَى، فَلَمَعَ بِثَوْبِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا أَبْشِرُوا، فَقَدْ ظَفِرَ النّجَاشِيُّ، وَأَهْلَكَ اللّهُ عَدُوَّهُ وَمُكّنَ لَهُ فِي بِلَادِهِ.

 

قَالَتْ أمُّ سلمه: فَوَاَللّهِ مَا عَلِمْتنَا فَرِحْنَا فَرْحَةً قَطّ مِثْلَهَا، وَرَجَعَ النّجَاشِيّ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللّهُ عَدُوّهُ وَمُكّنَ لَهُ فِي بِلَادِهِ، وَاسْتَوْثَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ، فَكُنّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ حَتّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِمَكّةَ".

 

وتَذْكُرُ الرِّواياتُ أنَّ النجاشيَ أسلم، ولما بلغ النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- خبرُ وفاتِه بعد هجرته للمدينة بسنوات صلى عليه صلاة الغائب، وسمَّاه بالرجل الصالح.

 

عباد الله: ولنا مع هذا الحَدَثِ أَحَادِيْثٌ وَدِلَالَاتٍ:

- فأولها قِيْمَةُ العَدْلِ؛ حيث لم يأْوِ المهاجرون للحبشةِ إلَّا؛ لأنَّ العدلَ قائمٌ فيها، فالعدل مَظَلَّةٌ يَأْوِي إليها الجميع، وبه تواطأتْ الشرائعُ السماوية، وفاخرتْ القوانينُ الأرضية، وبِهِ تجتمعُ القلوب، وتَتَّحِدُ الكلمة، ويَحْصُلُ التَّمْكِينُ، وَيَسْتَتِبُّ الأمن والأمان، وتَخْفُتُ الثوراتُ والفتنُ والاضطرابات، قال ابنُ خلدونَ الخبيرُ في تأريخِ الأُمَمِ والأزمان: "الظُّلْمُ مُؤْذِنٌ بِخَرَابِ العُمْرَانِ".

 

وقال ابن تيمية: "فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ وَلِهَذَا يُرْوَى: اللهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً، وقيل: الدُّنيا تَدُوْمُ مع العَدْلِ والكُفْرِ، ولا تَدُومُ معَ الظُّلْمِ والإسلام".

 

- ومن دِروسِ القِصة: أنَّ نُصرةَ المستضعفين، والوقوف معهم، وحمايتهم من خيرِ الأعمالِ وأفضلِها، وإذا كانت القوانينُ الأرضيةُ قدْ نَادتْ بحقِّ اللاجئين وحمايتِهم، فإنَّ شرائعَ الإسلامِ قد جاءتْ بنصرةِ المستضعفين ونَجْدَتِهِم (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) [الأنفال: 72]، ويقول المصطفى-صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إنما تُنصَرُون وتُرْزَقُون بضعفائكم".

 

- ومن وَحْيِ القِصَّةِ: تَطْبِيُق مبدأِ الأخذِ بالأسباب، فنبينا -صلى اللهُ عليه وسلمَ- رأى البلاء العظيم فأمر بالأسباب المستطاعة، وهي اللجوءُ السِّياسي، واللهُ قَدْ جَعَلَ لكلِّ شيءٍ سَبَباً، والأخذُ بالأسبابِ من سنن الكون، وطوال رسالته -صلى اللهُ عليه وسلمَ- راعى الأخذَ بالأسباب، في التدافعِ مع الباطلِ، وفي سُنن تغييرِ النفوس، والتدرجِ بها في مراقي الإيمان، وفي البحثِ عن أرض تؤيه، وشعب يحميه، وأَخَذَ بالأسباب في حمايةِ المسلمينَ من القتلِ والإيذاءِ والبلاءِ.

 

- ومن دِلالات المشهدِ: أهميةُ إقناعِ الرأيِّ العامِ، وأهلِ التأثيرِ من غيرِ المسلمينَ بعدالةِ قضيةِ المسلمين، وسلامَتِهِم وسلامةِ دِيْنِهمْ من الاتهاماتِ والبهتان، والذي نشرتُه قريش على لسانِ رَسُوْلَيْها، وأنَّ هذا الدفاعَ هو في الحقيقةِ دعوةٌ لهذا الدِّين، والذي كان من نتائجِه إسلامُ النجاشي، فلولا التُّهَمُ والتَّحْرِيْضُ لما سَمِعَ النجاشيُ مقالةَ جعفرِ بنِ أبي طالب.

 

- ومن دروسِ الخبر: قاعدة العُذْرُ بالجَهْلِ، وأنَّ العبدَ لا يُؤاخَذُ إلا بعد العِلْمِ وقيامِ الحُجَّة، وممن قرَّرَ ذلك ابن تيمية، حيث قال في سياق الاستدلال بهذه القاعدة: "وَلَمَّا زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ حِينَ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، كَانَ مَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ مِثْلُ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَبِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ".

 

بارك الله لي ولكم في الوحيين، وجعلنا من أتباع سيد الثقلين ....

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد فيا إخوة الإيمان:

- ومن إشارات القصة: أنَّ فَرَحَ المسلمينَ بانتصارِ النَّجاشيِّ وخوفِهِمْ من هزيمتِهِ فرحٌ مَفْهُومٌ، وَشُعُورٌ طبيعي، فهم لا يَدْرونَ كيف هي حال السُّلطة القادمة معهم، وهم الغُرَباء عن الوطن، ولذا قلقوا، ودعوا، وتحسَّسُوا الأخبارَ، واعتبروا انتصارَ أَصْحَمَةَ انتصارٌ لقضيَّتِهِم.

 

- ومن فِقْهِ السِّياسة الشَّرعيّة في خبر النَّجاشي: أنَّ الحاكمَ المسلمَ الذي لا يَقْدِرُ على إقامةِ الحقِّ كلِّه، فهو مأجورٌ على إقامةِ بعض الحق، ولا يؤاخذٌ بتركِ الحقِّ الذي لا يستطيعُ، وهذه مسألةٌ أفاضَ فيها العَلَمُ الهُمامُ، ابنُ تيميةَ شيخُ الإسلام، حيث قال: "وَالنَّجَاشِيُّ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ قَوْمَهُ لَا يُقِرُّونَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَثِيرًا مَا يَتَوَلَّى الرَّجُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّتَارِ قَاضِيًا بَلْ وَإِمَامًا وَفِي نَفْسِهِ أُمُورٌ مِنْ الْعَدْلِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا فَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بَلْ هُنَاكَ مَنْ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا".

 

وبعد خَبَرِ النَّجاشي ودلالاتِهِ يقال: ليس المقصود ربط الأعيان بالأعيان، ولا تنزيل الأسماء على الأسماء، وليس المقصود التلميح، وإنما المراد أخذ الدروس والعبر ممن سبق وغبر.

 

وأما التصريح فيقال: إنَّ الحادثة التي هزت العالم هذه الأيام فلا شكَّ ابتداءً أننا نحن المسلمون وبالأخص في هذا البلد مستهدَفُونَ، مِنْ أعداءٍ ظاهرين ومُسْتَتِرِين، والمستهدفُ هو الإسلام، والهدفُ إضعافُ المسلمين أَيْنَما كانوا، فأهلُ الكفرِ قد نبَّأَنا الله فيهم ببيانٍ لا يأتيه الباطل، ولا يتغير مع تغير الزمان بأنَّهم يودون لو نكفرُ كما كفروا فنكونَ سواءً، وأنَّهم لا يزالون يقاتلوننا حتى يردُّونا عن ديننا إنْ استطاعوا، ولذا لن يتركوا بلداً إسلامياً يتقدَّمُ ويتطوَّر ويَقْوَى إلا وأَضْعَفُوهُ وأشغلوه بالقلاقل والثورات والاضطرابات.

 

ومِنْ مَصْلَحَةِ هذه البلادِ وَمِنْ مَصْلَحَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ في كلِّ مكان، استقرارُ بلدانِهِمْ في وَقْتٍ يُسْمَعُ فيه فَحِيْحُ الأفاعيِ الصَّفويّة.

 

وكلُّ مسلمٍ محبٌ لدينه يَفْرَحُ بقوَّةِ المسلمينَ وتقدُّمِهِم وعودتِهم للدِّين، ولذا استبشرَ قادةُ هذه البلاد - سددهم الله - وكبارهُ وعقلاؤُه بفشل الانقلاب في تركيا، باستثناء أقليَّة لا رقم لها، انتشتْ ثم خَنَسَتْ.

 

لا تلميحَ أيها الكِرَامُ: فتركيا اليوم ليست تركيا الأمس، الدكتاتورية العلمانية التي حاربت الإسلامَ وقيمَهُ وشعائرَه ومحاكِمَهُ وتَشْرِيعاتِه قَدْ تراجعت خطواتٍ لا تَقَدُّمَ بعدَها، ومظاهِرُ العودةِ للأصولِ والدين قد بَدَأَتْ وَظَهَرَتْ، فَمَنْ يُغالبِ اللهَ يُغْلَب، وَقَدَرُ اللهِ الملكِ الحقِّ أنْ يَظْهَرَ هذا الدِّينَ الحقَّ، ولو كره الكافرون، ولو شَرِقَ المنافقون.

 

ومع ذلك لا زَالَت العلمانيةُ هنا، ولا زالَ الفساد مُشَاهَد، ولكنْ شَرٌّ دونَ شَرٍّ، والإصلاحُ مطلوب، والجهودُ لا بدَّ أن تتضاعف، ومن قواعدِ الشَّرِيْعَةِ تَحَمُّلُ أَدْنَى المفسدتينِ لدَفْعِ أعلاهما.

 

وأخيراً إخوة الإيمان فإنَّ مما يُؤْسَفُ له أنْ تكون أحداث الانقلابِ في أقصى الدنيا مَسْرَحَاً هنا لتشطير المجتمع، فأنت إمَّا مع أو ضد، ثم يأتي التحزيب والتصنيف، والاتهام والتخوين، في ظاهرة لا تُبَشِّرُ بخير.

 

فمجتمعنا ومجتمعات المسلمين عامةً لا ينقصها مزيداً من هذا التشرذمِ والاحتراب، وأكبر مستفيدٍ هم أعداءُ الوطن ومن يسعى لإضعاف أهل السُّنَّة في كل مكان، ورحم الله امرأ قال خيراً أو صمت، ورحم الله عبداً أمسك لسانه عن الأراجيف والشائعات، وإيذاء المسلمين بالكلمات، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.

 

اللهم صلِّ على محمد ....

 

 

المرفقات
قصة النجاشي والدروس المستفادة.doc
التعليقات
زائر
29-01-2021

ماهي المسالك التى يستدل بها على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته من قصة النجاشي؟

زائر
04-02-2021

لقيت إجابه؟

زائر
09-02-2021

؟؟

اذا احد لقى الاجابه يعطينا يفيدنا

 

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life