عناصر الخطبة
1/ معجزة الإسراء والمعراج 2/ دوافع الرحلة وإرهاصاتها 3/ وصف لرحلة الإسراء والمعراج 4/ مشاهد رآها رسول الله في رحلته 5/ وقفات وتأملات في رحلة الإسراء والمعراج.اقتباس
وَيَتَطَايَرُ المُشْرِكُونَ بِهَذَا الخَبَرِ إِلَى النَّاسِ مُكَذِّبِينَ وَمُسْتَهْزِئِينَ حَتَّى ارْتَدَّ بَعْضُ مَنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالإِسْلَامِ .ثُمَّ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ المُشْرِكُونَ حَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَهُ عَنِ المَسْجِدِ الأَقْصَى وَفِيهِمْ نَفَرٌ قَدْ رَآهُ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصِفُ لَهُمُ المَسْجِدَ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّيْءِ مِنَ الوَصْفِ فَكَرَبَ كَرْبًا شَدِيدًا..َرَفَعَ اللهُ تَعَالَى المَسْجِدَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَجَعَلُوا...
الحَمْدُ للهِ الوَاحِدِ الأَحَدِ، الفَرْدِ الصَّمَدِ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَشْكُرُهُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، أَرْسَلَهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَحُجَّةً عَلَى الخَلْقِ أَجْمَعِينَ، فَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مَزِيدًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حَقَّ التَّقْوَى؛ فَهِيَ خَيْرُ الزَّادِ لِيَوْمِ المَعَادِ؛ (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197]، اتَّقُوا اللهَ، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ: حِينَمَا يَكُونُ الحَدِيثُ عَنْ سِيرَةِ المُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ الحَدِيثَ يَطِيبُ، وَالقُلُوبُ تَهْفُو، وَالآذَانُ تُصْغِي، تِلْكَ السِّيرَةُ هِيَ المَنْهَلُ العَذْبُ، وَالمَنْبَعُ الصَّافِي، الَّتِي يَسْتَنِيرُ بِهَا المُسْلِمُ فِي دَيَاجِيرِ الفِتَنِ، وَغَبَشِ المُدْلَهِمَّاتِ.
فَتَعالَوا - عِبَادَ اللهِ - لِنَعِشْ مَعَ أَعْظَمِ حَدَثٍ وَأَكْبَرِ مُعْجِزَةٍ، حدَثَتْ لنَبِيِّنَا المُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِنَّهَا مُعْجِزَةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ.
لَقَدْ أَتَتْ هَذِهِ الحَادِثَةُ العَظِيمَةُ وَالمُعْجِزَةُ البَاهِرَةُ؛ تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ فَاجِعَتَيْنِ أَصَابَتَاهُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ: وَفَاةِ عَمِّهِ الَّذِي كَانَ يَحْمِيهُ، وَوَفَاةِ زَوْجَتِهِ الَّتِي كَانَتْ تُوَاسِيهِ.
لَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الحَادِثَةُ بَعْدَ ازْدِيَادِ الِاضْطِهَادِ، وَاشْتِدَادِ الإِيذَاءِ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَدْ طَرَدَهُ أَهْلُ الطَّائِفِ، وَرَمَوْهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْا قَدَمَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ، فَخَرَجَ هَارِبًا فَارًّا إِلَى مَكَّةَ دَاعِيًا رَبَّهُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ».
وِفِي مَكَّةَ يُبْصَقُ فِي وَجْهِهِ، وَيُرْمَى سَلَا الجَزُورِ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَيَزْدَادُ أَذَاهُمْ وَجُرْأَتُهُمْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ، وَهَذَا الَّذِي يُلَاقِيهِ مِنَ الأَذَى وَالإِهَانَةِ لَيْسَ بِسَبِبِ تَخَلِّي اللهِ وَبُعْدِهِ عَنْهُ؛ إِنَّمَا هِيَ سُنَّةُ اللهِ المَاضِيَةُ لِطَرِيقِ الأَنْبِيَاءِ وَسَبِيلِ المُصْلِحِينَ؛ (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) [الأنعام: 34].
فَجَاءَتْ هَذِهِ الحَادِثَةُ إِكْرَامًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ؛ لِتَكُونَ زَادًا لَهُ فِي عَزِيمَتِهِ، وَتَجْدِيدًا لِثَبَاتِهِ ، فإِنْ كَانَ أَهْلُ الأَرْضِ لَمْ يَعْرِفُوا قَدْرَكَ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ قَدْ عَرَفُوكَ، فَأَنْتَ أَنْتَ إِمَامُ المُرْسَلِينَ، وَأَنْتَ أَنْتَ حَبِيبُ رَبِّ العَالَمِينَ..
هَا هُوَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ آوَى إِلَى فِرَاشِهِ بَعْدَ أَنْ أَسْدَلَ اللَّيْلُ غَبَسَهُ، وَغَطَّى مَكَّةَ ظَلَامُهَا الدَّامِسُ.
وَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى هَذِهِ الحَالِ بَيْنَ القَائِمِ وَاليَقْظَانِ؛ إِذْ فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِهِ، فَإِذَا الرُّوحُ الأَمِينُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ صَدْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَقَّهُ مِنْ نَحْرِهِ إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ، فَغَسَلَ قَلْبَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمٍ.
ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ قَدْ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا؛ فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ، أَبْيَضُ، طَوِيلٌ، فَوْقَ الحِمَارِ وَدُونَ البَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهِ.
فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَرَ مِنْهُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: «أَلَا تَسْتَحِي يَا بُرَاقُ، فَوَاللهِ مَا رَكِبَكَ عَبْدٌ أَكْرَمُ مِنْهُ»، ثُمَّ سَكَنَ حَتَّى رَكِبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجِبْرِيلُ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ بِهِمَا يَقْطَعُ السُّهُولَ وَالجِبَالَ فِي هَذَا الظَّلَامِ البَهِيمِ حَتَّى انْتَهَى بِهِمَا إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ.
فَرَبَطَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البُرَاقَ فِي حَلْقَةٍ كَانَ يَرْبُطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَمَكَانُ هَذِهِ الحَلْقَةِ الآنَ مَا يُسَمَّى بِحَائِطِ المَبْكَى. فَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي المَسْجِدِ الأَقْصَى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ المَسْجِدِ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَارَ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: اخْتَرْتُ الفِطْرَةَ.
ثُمَّ عَرَجَ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رِحْلَةٍ سَمَاوِيَّةٍ يَقْطَعُ حُجُبَ السَّمَاءِ فِي لَيْلٍ بَهِيمٍ وَظَلَامٍ دَامِسٍ مُتَوَجِّهًا إِلَى رَبِّه - تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
عَرَجَ الرَّسُولُ بِقُدْرَةِ الرَّحْمَنِ *** فَسَمَا عَلَى الآفَاقِ وَالأَكْوَانِ
لَا بَرْقَ أَسْرَعُ مِنْ بُرَاقِ مُحَمَّدٍ *** لَا شَيْءَ يُعْجِزُ مُنْزِلَ القُرْآنِ
فَانْتَهَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَقِيلَ: مَنْ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفُتِحَ لَهُمَا. فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَسَارِهِ بَكَى. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ اليَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ.
فَسَلَّمَ عَلْيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَرَأَى ابْنَيِ الخَالَةِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، فَرَحَّبَا بِهِ وَدَعَوَا لَهُ بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَرَأَى يُوسُفَ - عَلْيِهِ السَّلَامُ، وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَرَحَّبَ بِهِ وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَرَأَى إِدْرِيسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَرَحَّبَ بِهِ وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم: 57].
ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ، فَرَأَى هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَرَحَّبَ بِهِ وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَرَأَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَرَحَّبَ بِهِ وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ. فَلَمَّا جَاوَزَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّهُ بُعِثَ بَعْدِي وَيَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي.
ثُمَّ عَرَجَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَإِذَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى البَيْتِ المَعْمُورِ، وَإِذَا هَذَا البَيْتُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٌ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: «سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ».
ثُمَّ عَرَجَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالقِلَالِ، فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا.
وَفِي هَذَا المَكَانِ رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الحَقِيقِيَّةِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، يَقُولُ تَعَالَى: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) [النجم: 12- 18].
ثُمَّ انْطَلَقَ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى دَاخِلِ الجَنَّةِ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ. وَالجَنَابِذُ: هِيَ القِبَابُ.
ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إِلَى نَهْرِ الكَوْثَرِ؛ فَإِذَا حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ المُجَوَّفِ، وَإِذَا طِينُ النَّهْرِ مِنَ المِسْكِ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ جِبْرِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَكَانٍ سَمِعَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرِيفَ الأَقْلَام «وَهُوَ صَوْتُ مَا تَكْتُبُهُ المَلَائِكَةُ مِنْ قَضَاءِ اللهِ وَوَحْيِهِ».
وَفَرَضَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذَلِكَ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
فَنَزَلَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى انْتَهَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: اِرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ؛ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبِرْتُهُمْ.
فَرَجَعَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَسَأَلَهُ التَّخْفِيفَ؛ فَحَطَّ عَنْهُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ عَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: اِرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ.
فَلَمْ يَزَلْ نَبِيُّنَا يَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهْ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً».
ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: اِرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ».
عِبَادَ اللهِ: فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ العَظِيمَةِ رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُفْزِعُ القُلُوبَ وَيُبْكِي العُيُونَ، رَأَى أَلْوَانًا مِنَ العَذَابِ الَّذِي يَحْصُلُ لِعُصَاةِ أُمَّتِهِ :فَرَأَى أَقْوَامًا لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ يَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ.
وَرَأَى رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ أَفَلَا يَعْقِلُونَ.
وَرَأَى شَجَرَةَ الزَّقُّومِ فِتْنَةً وَعَذَابًا لِلظَّالِمِ، شَجَرَةً تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَازِنَ النَّارِ مَلَكًا وَإِذَا هُوَ رَجُلٌ يُعْرَفُ الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَامَ عَلَى بَابِ النَّارِ فَرَأَى عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا مِنَ النِّسَاءِ.
وَرَأَى أَيْضًا عَذَابَ الزُّنَاةِ وَأَكَلَةِ الرِّبَا وَأَكَلَةِ أَمْوَالِ اليَتَامَى ظُلْمًا. وَأُعْطِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ خَوَاتِيمُ سُورَةِ البَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا المُقْحِمَاتُ.
وَسَمِعَ أَيْضًا فِي جَانِبِ الجَنَّةِ وَجْسًا أَيْ صَوْتًا خَفِيفًا، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا بِلَالٌ المُؤَذِّنُ، فَقَالَ جَاءَ إِلَى النَّاسِ، قَدْ أَفْلَحَ بِلَالٌ رَأَيْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا.
وَمَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: هَذِهِ رِيحُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا.
ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الجَوْلَةِ السَّمَاوِيَّةِ وَالآيَاتِ الكُبْرَى الَّتِي رَآهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ السَّمَاءِ العُلْيَا إِلَى الأَرْضِ ، فَنَزَلَ إِلَى أَرْضِ الإِسْرَاءِ بِبَيْتِ المَقْدِسِ فَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالأَنْبِيَاءُ صُفُوفٌ خَلْفَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ انْطَلَقَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى مَكَّةَ وَعَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى فِرَاشِهِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، عَادَ بَعْدَ أَنْ رَأَى مِنَ الآيَاتِ العِظَامِ ، وَالعِبَرِ الجِسَامِ مَا يَزِيدُهُ إِيمَانًا وَيَقِينًا بِرَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَتُشْرِقُ شَمْسُ ذَلِكَ اليَوْمِ لِيُصْبِحَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ مُعْتَزِلًا مَهْمُومًا حَزِينًا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ قَوْمَهُ سَيُكَذِّبُونَهُ. فَهُمْ قَدِ اتَّهَمُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالسِّحْرِ وَالكَهَانَةِ، وَاتَّهَمُوهُ فِي عَقْلِهِ وَقَالُوا مَجْنُونٌ، فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَالَتِهِ تِلْكَ؛ إِذْ جَاءَهُ عَدُوُّ اللهِ أَبُو جَهْلٍ، فَسَأَلَهُ مُسْتَهْزِئًا: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ فَلَمْ يَشَأْ عَدُوُّ اللهِ أَنْ يُكَذِّبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَشْيَةَ أَنْ يَكْتُمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ أَمَامَ النَّاسِ فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ إِلَيْكَ أَتُحَدِّثُهُمْ بِمَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ، فَأَسْرَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَدَعَاهُمْ وَطَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُحَدِّثَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَفَّقَ بِيَدِهِ مُتَهَكِّمًا، وَقَالُوا: وَاللهِ هَذَا الأَمْرُ البَيِّنُ، وَاللهِ إِنَّ العِيرَ لَتُطْرَدُ شَهْرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ مُدْبِرَةً وَشَهْرًا مُقْبِلَةً، أَفَيَذْهَبُ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ.!!
وَيَتَطَايَرُ المُشْرِكُونَ بِهَذَا الخَبَرِ إِلَى النَّاسِ مُكَذِّبِينَ وَمُسْتَهْزِئِينَ حَتَّى ارْتَدَّ بَعْضُ مَنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالإِسْلَامِ .ثُمَّ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ المُشْرِكُونَ حَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَهُ عَنِ المَسْجِدِ الأَقْصَى وَفِيهِمْ نَفَرٌ قَدْ رَآهُ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصِفُ لَهُمُ المَسْجِدَ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّيْءِ مِنَ الوَصْفِ فَكَرَبَ كَرْبًا شَدِيدًا.
فَرَفَعَ اللهُ تَعَالَى المَسْجِدَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَجَعَلُوا لَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأَهُمْ بِهِ. فَقَالَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ الَّذِينَ قَدْ رَأَوُا المَسْجِدَ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللهِ لَقَدْ أَصَابَ، لَكِنْ يَأْبَى المُشْرِكُونَ إِلَّا التَّكْذِيبَ وَالِاسْتِهْزَاءَ وَصَدَقَ اللهُ (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) [الأنعام: 25].
وَيَنْطَلِقُ نَفَرٌ مِنَ المُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لِيُخْبِرَهُ بِالخَبَرِ فَقَالَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِإِيمَانٍ صَادِقٍ وَبِقَلْبٍ رَاسِخٍ: "وَاللهِ لَئِنْ كَانَ قَالَهُ لَقَدْ صَدَقَ، وَاللهِ إِنَّهُ لَيُخْبِرُنِي أَنَّ الخَبَرَ يَأْتِيهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَهَذَا أَبْعَدُ مِمَّا تَعْجَبُونَ مِنْهُ". ثُمَّ لُقِّبَ بَعْدَ ذَلِكَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِالصِّدِّيقِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ..
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مَزِيدًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَلَنَا مَعَ هَذِهِ المُعْجِزَةِ العَظِيمَةِ وِقْفَاتٌ وَتَأَمُّلَاتٌ عِدَّةٌ: أَوَّلًا: هَذِهِ الحَادِثَةُ كَرَامَةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَمُعْجِزَةٌ خَارِقَةٌ ذَكَرَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ، فَيَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ قَبُولُهَا وَالتَّسْلِيمُ بِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ مُعَارَضَةُ الأُمُورِ الغَيْبِيَّةِ بِنَظَرِيَّاتٍ مَادِّيَّةٍ أَوْ مُعَامَلَاتٍ عَقْلِيَّةٍ ، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36]، وَمِنَ العَقْلِ أَنْ يُسَلِّمَ الإِنْسَانُ الزِّمَامَ لِلشَّرْعِ فِي الأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ العَقْلُ عَلَى إِدْرَاكِهَا.
ثَانِيًا: إِنَّ إِسْرَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى فِيهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَهَمِّيَّةِ هَذِهِ البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ.
فَهِيَ أَرْضُ النُّبُوَّاتِ، وَأُولَى القِبْلَتَيْنِ، وَثَالِثُ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَسْرَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهَا عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ.
فَالوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِينَ اسْتِشْعَارُ مَسْئُولِيَّتِهِمْ أَمَامَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - تِجَاهَ مُقَدَّسَاتِهِمُ الشَّرِيفَةِ،
وَإِنْ كُنَّا نَزْعُمُ عَدَمَ قُدْرَتِنَا عَلَى تَطْهِيرِ هَذِهِ البُقْعَةِ المُقَدَّسَةِ؛ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَحْيَا هَذِهِ القَضِيَّةُ فِي نُفُوسِنَا وَأَحَادِيثِنَا مَعَ وِقْفَتِنَا مَعَ إِخْوَانِنِا المُرَابِطِينَ هُنَاكَ بِالدُّعَاءِ وَالدَّعْمِ التَّامِّ عَلَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُخَلِّصُهَا مِنَ الصَّهَايِنَةِ المُعْتَدِينَ وَيَرْزُقُنَا مِنْهَا صَلَاةً قَبْلَ المَمَاتِ.
ثالثاً : فِي هَذِهِ الحَادِثَةِ العَظِيمَةِ: إِمَامَتُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالأَنْبِيَاءِ؛ فَهَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا القِيَادَ لَهُ، وَأَنَّ شَرِيعَةَ الإِسْلَامِ قَدْ نَسَخَتْ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ )
[آل عمران: 81] فَلْيَسَعْ أَتْبَاعُ الأَنْبِيَاءِ مَا وَسِعَ أَنْبِيَاءَهُمْ، وَلْيُسْلِمُوا لِهَذَا الدِّينِ العَظِيمِ الَّذِي لَا يَرْضَى اللهُ غَيْرَهُ (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [آل عمران: 85].
هَذِهِ - عِبَادَ اللهِ - حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ يَجِبُ عَلَى الجَمِيعِ إِدْرَاكُهَا؛ فَلَا تَقَارُبَ مَعَ أَصْحَابِ الدِّيَانَاتِ المُحَرَّفَةِ وَلَا اعْتِرَافَ أَبَدًا بِقُدْسِيَّتِهَا.
فَلْيَتَّقِ اللهَ أَقْوَامٌ يُلْبِسُونَ عَلَى النَّاسِ عَقَائِدَهُمْ بِشِعَارَاتٍ الإبراهيمية ، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِسْلَامُ المَرْءِ مَعَ تَصْحِيحِهِ لِعَقَائِدِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى المُحَرَّفَةِ.
رابعاً : أَنَّ هَذِهِ الحَادِثَةَ اخْتَلَفَ أَهْلُ السِّيَرِ فِي تَحْدِيدِ سَنَتِهَا وَشَهْرِهَا وَيَوْمِهَا عَلَى أَقْوَالٍ عِدَّةٍ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَلَوْ ثَبُتَ تَعْيِينُهَا لَمْ يَجُزْ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخُصُّوا يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا بِشَيْءٍ مِنَ العِبَادَاتِ أَوْ الِاحْتِفَالَاتِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَابَتُهُ الكِرَامُ لَمْ يَحْتَفِلُوا بِهَا وَلَمْ يَخُصُّوهَا بِشَيْءٍ.
وَلَوْ كَانَ الِاحْتِفَالُ بِهَا أَمْرًا مَشْرُوعًا لَبَيَّنَهُ لَنَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَلَنَقَلَهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَنَا - عِبَادَ اللهِ - ضَلَالُ مَنْ يَحْتَفِلُ بِهَذِهِ اللَّيْلَةِ إِنْ فِي شَهْرِ رَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ ؛ فَهَذَا العَمَلُ كُلُّهُ مِنَ البِدَعِ المُحْدَثَةِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ: صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ، وَالنِّعْمَةِ المُسْدَاةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ العَظِيمِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
التعليقات
زائر
25-02-2022جزاكم الله خير الجزاء على ما قدمتومه
زائر
06-10-2022للأسف هذه الخطبة في مجموعة من الأحاديث الضعيفة، وفي الصحيح غنية.
زائر
10-02-2023خطبة رائعة جدا بالتوفيق للخطيب والناشرين
زائر
17-02-2023خطبه رائعه جدا جزاكم الله خيرا يا عباد الله
زائر
28-02-2023ماشاء الله ممتعة جدا بارك فيك وتشكرون دائما وأبدا على جهودكم
زائر
03-03-2023المستند لايقبل التحميل !!
الفريق العلمي
04-03-2023تم تعديل المرفق ويقبل التحميل بنجاح
زائر
09-02-2024خطبة رائعة لكن هناك ملاحظات
الأولى :النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخبر قريش بالمعراج وإنما حدثهم عن الإسراء فقط
ثانيا: الاحتفال بالمناسبات الشرعية مشروع وليس مبتدع
وهو مبني على أصول أهل السنة والجماعة في فهم السنة والبدعة
أما القائلون بأن كل ما لم يفعله رسول الله بدعة فغير صحيح
لماذا؟
لانه لم يرد عن رسول الله حديث ولو ضعيفا ينص بأنه (ما لم أفعله فلا تفعلوه)
فمن أين جئتم بهذا التأصيل
وشكرا لكم