أحمد بن حسين الفقيهي
عباد الله : أنزل الله تعالى كتابه ليكون على الناس حجة ، حجة يوم العرض لمن فرط فيه ، وشافعاً لمن عمل به ، وقد ضمن المولى سبحانه كتابه الخير ورغب فيه ، وحذر من الشر وتوعد عليه ، قال بعض السلف : من لم تنفعه موعظة القرآن ، فلن تنفعه موعظة ولو تناطحت الجبال بين يديه ، وإن من المواعظ التي اشتمل عليها القرآن تلك القصص التي لا تكاد تخلو منها سورة من سور القرآن فهي تحكي لنا أخبار الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، يجد القارئ والسامع فيها التسلية والعبرة ، والتفكر والاصطبار والتأسي والاقتداء ، ومن القصص القرآني الفريد في بابه ، العظيم في معانيه وعبره، المعجز في لفظه وأحداثه ، ما قصه الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مما جرى بين ابني آدم لصلبه .
هذان الابنان يسميان بـ ( قابيل وهابيل ) وهذه التسمية المشهورة لهما ، إنما هي من نقل العلماء عن أهل الكتاب ، لم يرد بها نص في القرآن ، ولا جاءت في سنة ثابتة ، فلا علينا أن لا نجزم بها ولا نرجحها كما يقول العلامة أحمد شاكر.
عباد الله: قربا الولدان قرباناً فاخرج كل منهما شيئا من ماله ، بقصد التقرب إلى الله تعالى ، فتقبل الله من أحدهما صدقته ولم يتقبل من الآخر، وكانت قرابين الأمم الماضية علامة قبولها أكل النار ما تقبل منها ، وترك ما لم يتقبل ، قال الابن الذي لم يتقبل منه لأخيه حسداً وبغياً لأقتلنك فقال له أخوه مترفقاً له في ذلك :" إنما يتقبل من المتقين " أي من المتقين لله في ذلك العمل بأن يكون عملهم خالصاً وصواباً .ثم قال له مخبراً أنه لا يريد أن يتعرض لقتله ، لا ابتداء ولا مدافعة فقال : " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " ، وليس ذلك جبناً منه ولا عجزاً ، وإنما لأنه يخاف الله رب العالمين ، حيث حرم الله قتل النفس بغير النفس ظلماً ، والخائف لله لا يقدم على الذنوب صغيرها وكبيرها ، وإذا دار الأمر بين أن أكون قاتلاً أو مقتولاً فإني أوثر أن أكون مقتولاً فتبوء بالوزرين وترجع بالأثمين ، الإثم الأول أثم القتل بغير الحق ، والإثم الثاني أثم معاصيك التي عملت من قبل ، " فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " فإن قتلتني فإن عاقبة قتلك إياي أن تكون من سكان النار التي هي ثواب التاركين طريق الحق ، الزائغين عن قصد السبيل ، المعتدين ما جعل الله لهم إلى ما لم يجعل لهم ، وهذا يدل على أن الله عز وجل كان أمر ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض ، ووعد وأوعد ، ولولا ذلك ما قال المقتول للقائل : فتكون من أصحاب النار بقتلك إياي ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين ، وفي الآيات دلالة أيضاً على أن القتل من كبائر الذنوب ، وأنه موجب لدخول النار .
أيها المسلمون: لم يرتدع الأخ الجاني ولم ينزجر ، ولم يزل يراود نفسه حتى طوعت له نفسه قتل أخيه الذي يقتضي الشرع والطبع احترامه ، فقتله فأصبح من الخاسرين دنياهم وآخرتهم ، وأصبح قد سن هذه السنة لكل قاتل :" ومن سن سنة سيئة ، فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " . أخرج الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما من نفس تقتل إلا كان على ابن آدم الأول شطر من دمها ، لأنه أول من سن القتل ".
عباد الله : لما قتل الأخ أخاه لم يدر كيف يصنع به ، لأنه أول ميت مات من بني آدم ، فبعث الله غراباً يبحث في الأرض أي يثيرها ليدفن غراباً ميتاً ، فجعل الغراب الحي يواري سوءة الغراب الميت ، فقال القاتل لأخيه : يا ويلتا (كلمة تحسر) لما رأى الدفن من الغراب وأنه أكبر منه علماً ، وأن ما فعله كان جهلاً فندم وتحسر ، ثم وارى سوءة أخيه (أي بدنه) لأن بدن الميت عورة ، فأصبح من النادمين على ما أقدم عليه من قتله أخاه .
أيها المسلمون : من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدواناً شرع الله على أهل الكتب السماوية أنه من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض ، واستحل القتل بلا سبب ولا جناية ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، لأنه لا فرق عند القاتل بين نفس ونفس ، فلما تجرأ على قتل النفس التي لم تستحق القتل، علم انه لا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره ، ومن أحياها بأن استبقا نفس أحد فلم يقتله مع دعاء نفسه إلى فعله فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار وذلك أحياء لها.
عباد الله : قرن الله سبحانه في الآيات السابق ذكرها قتل النفس بالفساد في الأرض ، وجعل كلاً منهما مبرراً للقتل ، وذلك لأن أمن الجماعة المسلمة ، وصيانة النظام العام ضروري لأمن الأفراد ، فالذي يهدد أمن المجتمعات المسلمة هو عنصر فاسد يجب استئصاله ، ما لم يرجع إلى الرشد والصواب ، وقد أوضح المولى سبحانه عقوبة المفسدين في الأرض فقال : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم".
عباد الله : إن المبارزين لله ورسوله بالعداوة ، المفسدين في الأرض بالكفر ، والقتل ، وأخذ الأموال ، وإخافة السبيل ، المعتدين على أهل دار الإسلام المقيمين للشريعة سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين بعهد ، إن أولئك يحاربون الله ورسوله ، وإن كانوا بفعلهم يحاربون الجماعة المسلمة والإمام المسلم، إنهم قطعاً لا يحاربون الله سبحانه بالسيف ، ولا يحاربون رسوله صلى الله عليه وسلم بعد اختياره للرفيق الأعلى ، ولكن الحرب منهم لله ورسوله متحققة بالحرب لشريعة الله ورسوله ، وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله ، وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون : إن الجزاء الذي يلقاه أولئك المحاربون لله ورسوله في الحياة الدنيا لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة ، ولا يطهرهم من دنس الجريمة ، وهذا كله تغليظ للعقوبة ، وتشنيع للجريمة ، ذلك أن الجماعة في دار الإسلام يجب أن تعيش آمنة ، والسلطة المسلمة القائمة على شريعة الله يجب أن تكون مطاعة ، وهذا هو الوسط والخير الرفيع الذي يجب توفير الضمانات كلها لازدهاره ، وهذا هو أيضاً النظام العادل الكامل الذي يجب أن يصان من المساس به ، فإذا ارتدع هؤلاء المحاربون لله ورسوله ، الساعون في الأرض فساداً عن غيهم وفسادهم ، نتيجة استشعارهم نكارة الجريمة ، وتوبة منهم إلى الله ، ورجوعاً إلى طريقه المستقيم ، كان الله غفورا لهم رحيما بهم في الحساب الأخير في الدار الآخرة .
عباد الله : لقد جاء الإسلام بحفظ الأنفس والأرواح ، وحرم الاعتداء عليها والأنفس المعصومة أربعة : المؤمن وهو أشدها وأكرمها على الله ، والمعاهد ، والذمي ، والمستأمن ، فهذه الأنفس المعصومة لا يجوز الاعتداء عليها ، أو استحلال دمها، قال صلى الله عليه وسلم :" لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً " رواه البخاري ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .متفق عليه .
أيها المسلمون : إن الحفاظ على أنفسكم وأموالكم وأمن بلادكم أمانة في أعناقكم فكونوا لبنة خير ، وقفوا في وجه من يريد الإفساد والفساد بدينكم ومقدساتكم، ثم صلوا على نبيكم كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه .
التعليقات