اقتباس
كثيرٌ من النَّاس يظنُّ أنَّ عقوبةَ اللهِ للظَّالم تكونُ سريعة بعد ظلمه مباشرةً، ويمكثُ يرقبُ نزول انتقام الله-عز وجل-العاجل على الظَّالم، فإذا ما تأخرتِ العقوبةُ، ولم ير بعينه مصارعَ الظَّالمين شك َّويأسَ وَقنِطَ، وهذا خطأٌ كله، وعدمُ فهمٍ لتعامل الله -عز وجل-مع الظالمين. فالظالم يمرُّ بأربع مراحل-قبل أن يحَقَّ عليهِ القول-لا بدَّ من فهمها جيداً.
معرفةُ السننِ الإلهيةِ وإمعانُ النظرِ فيها واستحضارها؛ من أعظم أسباب حياة القلبِ وإيمانِه وإجلالهِ للخالقِ المدبرِ-سبحانه-ففيه تلوحُ الحكمةُ ظاهرةٌ في أمرِ تدبيرِ الكونِ ونظامِه، وأنَّه جارٍ على تلك السننِ المحْكمةِ التي لا تتغِّيرُ ولا تتبَّدلُ، فأحداثُ التاريخ ِتعيدُ نفسَها وإنْ تغيرَّ شيءٌ من صورها وملامحها، فقراءتهُا واستقراؤها مما يسقي نَبْتَ المعرفةِ ويحُيي نورَ البصيرةِ، ويقوِّي روحَ اليقينِ في وعد اللهِ ووعيدِه وقدرتِه وانتقامِه، فإنَّ النَّفوسّ قدْ تَسْتَبْطِئُ الفرجَ، وتيأسْ-حالَ الترقُّبِ والانتظارِ-فلا بدَّ منْ ربطِ كلِّ ما يستجدُّ منْ حدثٍ له تعلقٌ بتلك السُّننِ بسابقِه، وإلحاقِ بعضِها ببعضٍ؛ لتكون سلسلةً متصلةً مترابطةً، تَرسُم ُمنهاجاً واضحاً-حال التعامل مع المستجدات-وتعطي تفاؤلاً وأملاً في استشراف المستقبل وما عسى أن يبذل من خلاله!.
وإرادةُ الله-تعالى-ومشيئتُه ليست مشيئةً مجردةً، بل هي مشيئةٌ صادرةٌ عن حكمةٍ بالغةٍ، والعارفون بربهم-عز وجل-يعلمون ذلك ويوقنون به، ولذا فهم يحسنون الظنَّ بربهم ويحمدونه على كل ما يقدِّره، ويوقنون بأنَّ عاقبةَ هذه الأحداثِ التي يقدِّرها الله -عز وجل-هي خيرٌ ومصلحةٌ ولطفٌ بالموحدين-إن شاء الله تعالى-ومع أنهَّا مؤلمةٌ إلا أنَّنا نلمسُ لطفَ اللهِ-عز وجل-وحكمتَه ورحمتَه في أعطافها.
إنَّ منْ حكمة اللهِ البالغةِ في الأحداثِ اللاهبةِ-التي تكاد تَعْصِفُ بالأملِ في قلوبِ كثيرٍ منَ المؤمنين هذه الأيام-أن يُعرِّفَنا على سننهِ التي لا تتبدَّلُ ولا تتحوَّلُ، ومنْ معرفةِ هذهِ السننِ الإلهية؛ يتَّضحُ الطريقُ المستقيمُ، ويهتدي المسلمُ ويوفَّقُ إلى الموقفِ الحقِّ والمنهجِ الصائب، يقول الله-عز وجل-آمراً لنا بالنظر في سننه المطردة: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران: 137]. وقوله: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 43].
لذا وجبَ على المسلمينَ عامةً، وعلى دعاةِ الحقِّ والمجاهدين في سبيل الله -عز وجل-خاصةً؛ أن يقفوا-طويلاً-مع كتاب الله -عز وجل-وما تضمَّنَ من الهدى والنور، ومن ذلك: ما تضمَّنَهُ من السُّننِ الرَّبانية؛ لأنْ في معرفتِها والسيرِ على هداها-أخذاً بأسباب النصر والتَّمكين والفلاح-نجاةٌ مما وقع فيه من يجهل سننَ الله-تعالى-في الأحداث؛ فليس لديه إلا الحَيرة والخوف والقلق والتخبُّط والعَنَاءُ.
ومنْ أهمِّ السننِ الربانيةِ التي تزيلُ اللَّبسَ والشَّكَّ الذي يمكن أن يتسرَّبَ إلى قلوبِ كثيرٍ من المؤمنين؛ سنة "الإملاء للظالمين "
فإنَّ أكثرَ شيءٍ يُثيرُ حفيظةَ النَّفوسِ هو الظُّلمُ والقهرُ والاستعبادُ، ومعاشرةُ الذُّلِ والاستبداد، فتراها تَغْلي ولها أَزِيزٌ كالمِرْجَلِ من الظَّالم وتسلُّطِه وتمكُّنهِ، وتتساءلُ عنْ مصيرهِ ونهايتهِ، وغالبُ النَّاسِ لا يُبْصر إلا تحت قدميه، فإذا رأى ما هو عليه من السُّلْطَةِ والتمكُّنِ ظنَّ أنْ لنْ يقدرَ عليه أحدٌ، وأنَّ يدهُ فوقَ كلِّ يدٍ، ونَسِيَ سنَّةَ اللهِ في الَّذين ظلموا، وغَفِلَ عن سنَّةِ الإملاء والاسْتِدْراجِ، ونحنُ بحاجةٍ للوقوف عندها معْ ما نراهُ منْ تسلُّطِ الظالمين وانتشارِ الظُّلم بكلِّ صوره وأنواعه، فَيَدُ الظُّلمِ-مهما طالتْ-فإنَّ بَتْرهَا قريبٌ، وخُطَى الظالم-وإنِ امتدَّت-فبترُها ليس بالبعيد، ولما أخبر الله عن قوم لوطٍ وما أنزل بهم من النَّكال؛ عقَّب-سبحانه-بعد ذلك بقوله: (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)[ هود:38]؛ لئلا يَظُّنَ أهلُ الظُّلمِ أنهَّم بمنْأَى عن ذلك، قال قتادة -رحمه الله-: "والله ما أجار الله منها ظالماً بعد قوم لوط، فاتقوا الله وكونوا منه على حذر.
الإملاء في اللغة: هو الإمداد في الزمن والإمهال والتأخير، مأخوذ من الملوة، والملاوة (وهي الطائفة الطويلة من الزمن)، وأملى للبعير أرخى له الزِّمام ووسَّع له في القيد، ليتَّسع له المرعى. والملَوان (الليل والنهار).
أما في الاصطلاح: فإملاءُ اللهِ للظَّالمين هو إرجاءُ عقوبَتِهم، وإمهالهُم إلى أجلٍ مسمَّى، مع إمدادهم بالنَّعم وإمتاعهم بزهرةِ الدُّنيا وزينتِها -مكراً بهم وكيداً لهم-؛ ليزدادوا إثماً وبغياً وطغياناً وكفراً. حُقَّ عليهم ذلك بما أفسدوا من فطرة الله، وكفروا بأنعم الله، واغترُّوا بحلمه تعالى، وما علموا أنَّ الله يستدرجُهم من حيثُ لا يعلمون، ثُّم يأخذُهم-بغتةً-وهمْ لا يشعرون.
النصوص الشرعية حافلةٌ بالأخبار والقصص الشارحةِ والكاشفةِ لعمل سُنَّةِ الإملاء والاستدراج، بل إنَّ معظمَ القصصِ النبويِّ في القرآن يدور-في الأساس-على عمل هذه السُّنة كما سيأتي، ومن هذه النصوص: قول الله-تعالى-: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران: 178]، وقوله: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)[الكهف: 59].وقوله: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ )[ القلم: 45 ]. وفي السنة النبوية المطهرة عن أبي موسى-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته). قال: ثم قرأ: )وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ([هود: 102] رواه الشيخان.
كثيرٌ من النَّاس يظنُّ أنَّ عقوبةَ اللهِ للظَّالم، تكونُ سريعة بعد ظلمه مباشرةً، ويمكثُ يرقبُ نزول انتقام الله-عز وجل-العاجل على الظَّالم، فإذا ما تأخرتِ العقوبةُ، ولم ير بعينه مصارعَ الظَّالمين شك َّويأسَ وَقنِطَ، وهذا خطأٌ كله، وعدمُ فهمٍ لتعامل الله -عز وجل-مع الظالمين. فالظالم يمرُّ بأربع مراحل-قبل أن يحَقَّ عليهِ القول-لا بدَّ من فهمها جيداً:
المرحلة الأولى: الإمهال والإملاء: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم: 45] وفيها يمهل الله الظَّالم لعلَّه يتوبُ أو يرجع عمَّا فعل.
المرحلة الثانية: الاستدراج: (...سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) [القلم:44] وليس معناه أن تضيقَ الدَّنيا عليه، لا، بل تُفْتَحُ عليه الُّدنيا وترتفع الدرجة، وتبسط عليه اللذات، ويعطيه الله ما يطلب ويرجو، بل وفوق ما طلب؛ لأن الدرج يدل على الارتفاع، والدرك يدل على النزول.
المرحلة الثالثة: التزيين: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ...) [العنكبوت: 38]، وفيها يموتُ قلبُ الظَّالم فيرى ما يراهُ حسناً بل هو الواجب فعله. لم يعد في قلبه حياةٌ؛ ليلومه على ما يفعل.
المرحلة الرابعة: الأخذ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102]، وفيها تتنزَّلُ العقوبةُ من الله-تعالى-على الظَّالم وتكون العقوبةُ شديدةٌ-جداً-بحيث تكون عبرة وعظة للعالمين. وهي قد تكون في الدنيا؛ ليرتدع بها الناس، وينزجر بها من تُسَوِّلُ له نفسُه سلوكَ نفسِ الطريقِ، وقد يؤخرها الله-عز وجل-ليوم القيامة حيثُ العقوبةُ أَشَدُّ، والفضيحةُ أخزى، قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) [إبراهيم:42- 43].
قال ابن كثير: "يقول الله-تعالى-: (وَلا تَحْسَبَنَّ الله) يا محمد (غَفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّـالِمُونَ) أي: لا تسحبنه إذا أنظرهم وأجّلهم أنه غافلٌ عنهم مهمِل لهم لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصِي ذلك عليهم ويعدّه عليهم عداً، (إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَـارُ) أي: من شدّة الأهوال يوم القيامة. ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر فقال: (مُهْطِعِينَ) أي: مسرعين، (مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: رافعي رؤوسهم، (لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي: أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر لا يطرفون لحظةً؛ لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحلّ بهم، عياذاً بالله العظيم من ذلك، ولهذا قال: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) أي: وقلوبهم خاويةٌ خاليةٌ ليس فيها شيءٌ؛ لكثرةِ الوجل والخوفِ.
ومن هنا نستطيع أن نتعرَّف على حكمة الله-عز وجل-في عمل هذه السنّة التي تَغِيبُ عن أذهان الكثيرين، وبغيابها؛ يضطرب الإيمان، ويضعف اليقين، ويعظم الشك فلله- سبحانه-حكمٌ عظيمةٌ في سنَّة الإملاء للظالمين، منها:
أولاً: الابتلاء ثم التَّمحيص:
ففي الإملاء للظالمين وتركهم يتسلَّطون على المسلمين في مدة من الزمن، ابتلاءٌ وتمحيصٌ للمؤمنين، وتطهيرٌ للصفِّ المؤمنِ من الدخائل والشوائب وطلاَّب الدنيا، حتى إذا ءاتت سنن الابتلاء أكلها، وتميَّز الصفُّ المؤمنُ الذي خرج من الابتلاء ممُحَّصاً نظيفاً، عندئذٍ تكونُ سنَّة الإملاء، هي الأخرى قد أشرفتْ على نهايتها؛ فيحق القول على الظالمين ويمحقهم الله كرامةً ونصراً للمؤمنين الممحَّصين الذين يمكِّن الله لهم في الأرض ويستخْلفهم فيها بعد محق الكافرين؛ لذلك قال الله -عز وجل-جامعاً بين تمحيصِ المؤمنين وعقوبةِ الكافرين: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 141]، فذكر الله-سبحانه-التَّمحيصَ قبل المحْق. ولو مَحَقَ اللهُ -عز وجل-الكفارَ قبل تهيؤ المؤمنين الممحصِّين فمن يخْلفُ الكفارَ بعدَ محقِهم؟
ولله-عز وجل-الحكمةُ البالغةُ في وضع السُـنَّتينِ-سنةِ الابتلاء، وسنةِ الإملاء - في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران قال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران: 178] ثم قال بعدها: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران: 179]، ولعلَّ من الحكمة-والله أعلم بحكمته- أن يعلمنا الله -عز وجل-أنَّ هاتين السُّنتين متلازمتان ومتزامنتان وأنَّ إحداهما تهُيئُ للأخرى.
ثانياً: الإعذار ثم الانتقام:
فإنَّ من رحمة الله -عز وجل-بعباده أنَّه يمهلهم ولا يهملهم، فإذا ظلموا وطغوا وتجبروا؛ فإنه-سبحانه وتعالى-يمهلهم حيناً من الدهر؛ لعلهم يتوبون وينزعون ويرجعون عن طرق الغواية والضلال وظلم الناس، فإذا أصرُّوا على ظلمهم وطغيانهم، وعاندوا واستكبروا؛ فإنَّه يفتح عليهم أبوابَ النَّعيم الدنيوي، ويُعطيهم من أسبابه ما يجعلهم يزدادون إثمًا وطغياناً كما قال تعالى: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) [آل عمران: 178].
وقال تعالى: (حتى إذا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الأنعام: 44 ـ 45] والقرآن الكريم زاخرٌ بأمثال هذا الإعذار ثم الانتقام.
ففرعونُ من أكثرِ الشَّخصيات التي تردد ذكرها في القرآن؛ لعلمه-سبحانه وتعالى-بأنها شخصيةٌ سوفَ تُكَّررُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فكيفَ تعاملَ اللهُ-جلّ وعز-مع هذه الشخصية التي كانت هي الوحيدة من بين البشر؟ والتي تجرأت وادعت مقام الربوبية بعد الإلوهية فقال: ( أَنَاْ رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [ النازعات: 24] وقال: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) [ الزخرف: 51] فماذا فعل الله به-بعد أن أمهله لأكثر من خمسين عاماً-كما ورد في الآثار-قال تعالى: ( فَـلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقمْنَا مِنْهُمْ) [ الزخرف: 55] أَخَذَهُ الله-عز وجل-هو وجنوده، هو وقوته، هو ومكانته، فإذا بالأنهار التي تجري من تحته تجري من فوقه وإذا به يرفع يده (آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) [ يونس: 90] وذهبت دعوى ( أَنَاْ رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، ذهب الكبر والتسلّط فكانت تلك العاقبة أن أصبح غريقًا في الماءِ لا يستطيعُ أنْ يرفعَ رأسًا أو أنْ يقولَ قولًا ويبكته الله تعالى: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ *فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [ يونس:91-92]
عذبّه الله القويُّ الشديدُ بسر الحياة(الماء) الماء الذي يحيا به الناس وتحيا به الكائنات.
شخصيةٌ أخرى "قارون" وهي تمثِّل الرأسماليةَ الجشعةَ في وقتها، اِغتر بماله! كان ينظر إلى الآخرين نظرةَ احتقار وازدراء، ووصلَ به الأمرُ أن تلك المفاتيح التي تفتحُ بها تلك الحجرات لا يستطيع الرجال الأشدّاءُ أن يحملوها فكيف سيكون حال هذه الكنوز، أتاه من ينصحه يوجهه فكان هذا الرجل قد جهّز ردًّا لا يستطيع أن يدخل في حوار وفي نقاش (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي...) [القصص: 78] فإذا بالله -عز وجل-يمهله ثم يملي له ثم يملي له، لكن إذا غضب الله أخذه أخذ عزيز ذو انتقام، فماذا كانت النتيجة؟ (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) [القصص: 81] أين ماله؟ أين قوته؟ أين صولته؟
والسامريُّ ذاك الشقي، الذي عَبَدَ العِجْلَ وزيّن لبني إسرائيل أن يعبدوا العجل من دون الله-تبارك وتعالى-كيف أخذه الله في هذه الحياة؟ (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَـقُـولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ...) [طه: 97] لا مساس لأحدٍ يمسُّه، إنَّه يخشى من الذين يأتون إليه ليصافحوه، لا يريد لأحدٍ أن يقتربَ منه، هذا مظهرٌ من مظاهر أخذه سبحانه وتعالى بالمجرمين في هذه الحياة.
ثالثاً: المصابرة ثم المدافعة:
وأولى ما يجب الوقوف عنده في تصور المدافعة ونصر الحق وسقوط الباطل وعروشه، هو أحوال الأنبياء -عليهم السلام-مع الظلمة من أقوامهم، فإنه من أكبر وسائل الثبات والصمود في وجه الباطل؛ لأنه يغرس عروق التفاؤل النفسي في زوال دولة الظلم مهما امتدت أروقتها وحصونها، ومهما بلغت في عتوها وطغيانها، لكنها مسألة وقت مقرون بالصبر والصدق والكفاح، وبذل الأسباب المشروعة في سبيل ذلك.
نوح -عليه السلام-قام في دعوة قومه (950 عاماً)، ومع هذه القرون المتعاقبة الطويلة، وتماديِهم في سخريتهم في مقابلِ كلِّ الوسائل الرفيقِة بدعوتهم، لم يأت الانتقام منهم إلا بعد ذلك.
وموسى-عليه السلام-يدعو، ويؤمِّن هارون-عليه السلام-بالهلاك على أعتى طاغية في الأرض، ومع ذا، لم تأت الإجابة والهلاك إلا بعد أربعين سنةً (كما قيل).
ومحمد-صلى الله عليه وسلم-يناصبه قومُه العِداء، ويمدُّون أيديَهم بالأذى، ومع ذا يمهلهم الله خمسَ عشْرةَ سنةً، ثم يبيد صناديدَهم-بعدَها-في معركة بدر.
والتاريخُ حافلٌ بتساقطِ الظَّالمين وخذلان اللهِ لهمْ؛ بعدَ أن بلغوا غايةَ القوةِ والتسلُّط، فالكاذب الفاجر-وإن أُعْطِيَ دولةً-فلا بد من زوالها بالكلِّية، وبقاء ذمِّه، ولسان السوء له في العالم، وهو يظهر سريعاً ويزول سريعاً، كدولةِ الأَسْودِ العَنْسِي، ومسيلمةَ الكذاب، والحارثِ الدمشقي.
والشاهد: أن إملاء الله-عز وجل-للظَّالمين يُطيلُ أَمَدَ الصِّراعِ مع الباطلِ بصورةٍ تعلِّم المسلمين الصبرَ والثباتَ قبالةَ الباطل، وعدم استثقال المهمَّة العظيمة، أو استبطاء نصر الله-عز وجل-، لذلك قال الله -عز وجل-: ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) [ البقرة: 214]حتى يعْلَمَ المسلمون أنَّ سلعةَ اللهِ غاليةٌ ولا تُنَالُ إلاَّ بالصبرِ والمصابرةِ، ومواجهةِ الباطلِ والتصدِّي للظُّلم، وعدمُ السَّماحِ لليأسِ أو الشَّكِ أنْ يتسربا إلى نفوس المؤمنين.
التعليقات