قدوتنا في الصبر

عبد الله بن ناصر الزاحم

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ مقام الصبر 2/ أهميته 3/ عاقبته 4/ صورٌ من صبر الأنبياء عليهم السلام 5/ تحقيق الرسول الكريم لأعلى درجات الصبر 6/ اكتساب الصبر 7/ الاقتداء بالرسول الكريم في خلق الصبر.
اهداف الخطبة

اقتباس

فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يأمنُ غَدْرَ المشركين واليهود والمنافقين، وكانت الأمراض تُصِيبه حتى فتَكَ به السُّمُّ، وكان يجوع كثيرًا من قِلَّة ذات اليد، ولا يأتيه مالٌ إلاَّ أنفقَه، ولم يدَّخِرْ لنفسه منه شيئًا، فمَن تذكَّر اجتماع ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو خير خَلْق الله -تعالى- أجمعين، هانتْ مصائبُه مهما عظُمت، وتأسَّى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصبر والرضا.

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله نحمده على عَطائه، ونشكره على نعمائه، ونسأله الصبرَ على بلائه، أشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له...

 

وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه...

 

أمَّا بعدُ: فأُوصي نفسي وإيَّاكم عباد الله بتقوى الله -تعالى-؛ فإنَّ التقوى مع الصبر من عزم الأمور، (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)  [آل عمران:186]

 

عباد الله: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدِّين، فالصبر من أعلى المقامات، لذا دعا الله -عز وجل- إليه المرسلين، وأمَرَ به خاتم النبيِّين؛ (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35]. وفي أول سورة أنزل الله على رسوله قوله: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر:7].

 

وما ذاك إلا لما للصبر من أهمية بالغة في التعامل مع الحياة، فأوامر الشرع ونواهيه لا يُطِيقها إلا الصابرون، ومواجهة الأقدار والرضا والتسليم لا يَقْدِر عليه إلاَّ أهلُ الصبر، وكروبُ الدنيا وهمومُها تحتاج إلى صبرٍ؛ لذا نادى الله عباده المؤمنين بقوله -عز وجل-: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46].

 

ويكفي الصابرين فخرا وعزا معيَّةُ الله لهم، وفي سورة العصر، التي قال عنها الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لو ما أنزل الله على عباده إلا هذه السورة لكفتهم"، يقول الله -تعالى-: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر].

 

أيها المسلمون: لقد أعدَّ الله جزاءً عظيما للصابرين، فقال -تعالى-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]... وقال في سورة المؤمنون: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)  [المؤمنون:111]...

 

معاشر المؤمنين: لقد قَصَّ الله -تعالى- علينا من أخبارِ الأنبياء -عليهم السلام- ما يبين لنا صبرهم على مصاعب الدنيا وأكدارها؛ ليبين لنا تفاهتها، ولِنزهد فيها إذا علمنا أنها لم تصفُ لأفضل خلق الله -عليهم السلام-، ولِنتأسِّى بهم في صبرهم.

 

لقد أصاب أيوب -عليه السلام- مرضٌ شديدٌ طال أمدُه، فصبر -عليه السلام-، ولم يزد عن قوله: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) [ص:41]،  لذا قال الله عنه: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص:44]...  

 

ويقص الله علينا أروع مثل في الصبر لإسماعيل -عليه السلام- حين قال له أبوه -عليه السلام-: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات:102]،  ويردُّ بقلبٍ مطمئنٍ صابرٍ محتسب: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)  [الصافات:102].

 

عباد الله: كلكم يعلم حب الوالد لأبنائه، واستعداده لفدائهم بالروح فضلا عن المال، فكيف بوالدٍ يفقد ابنه فجأةً ولا يعلم مكانه، والمتسبِّبُون في ذلك إخوتُه؟ فيعقوبُ -عليه السلام- فَقَدَ أعزَّ ولدِه، يوسفَ -عليه السلام-،  فما زاد أن قال لأبنائه المتسببين في ذلك: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف:18].

 

ولما فقد الآخر: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف:83]، فأصابه -عليه السلام- ما أصابه من الحزن حتى فقد بصره من وجْدِهِ عليهما، وهو صابر محتسب لا ييأسُ ولا يقنطُ من رحمة الله.

 

ويوسفُ -عليه السلام- ناله ما ناله من البلاء بسبب إخوته، فصبر واحتسب، ثم يقول لإخوته في آخر الأمر: (أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90]،  ولما اعتذروا منه يقول لهم: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:92]،فما أكبرها من قلوبٍ! وأصفاها من صدور! صبرٌ واحتساب، وعفوٌ عند المقدرة.

 

أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فيقول الله -عز وجل- تثبيتا له: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [هود:115]، (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) [الطور:48]، (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يونس:109]...

 

لذا حقَّق -عليه الصلاة والسلام-  أعلى درجات الصبر، وتحمَّل في سبيل الله أنواعَ الأذى، فابتُلي -صلى الله عليه وسلم- بأنواع الابتلاءات التي ابتُلِي بها الرُّسُل، وبما هو أشدُّ منها؛ فصَبَر واحتسب، بلا جزعٍ ولا سخط.

 

لقد صبَر -صلى الله عليه وسلم- على أذى المشركين في مكة، وعلى أذى اليهودِ والمنافقين في المدينة، وكلُّهم حاول قتْلَه غير مرَّة، وصبرَ -صلى الله عليه وسلم- على الابتلاءات العظيمة التي ابتُلِي بها في نفسه وأهْله وولده وقرابته، وصبرَ على شدَّةِ الفاقة والحاجة.

 

لقد لازمتْه الابتلاءاتُ منذ صِغَره عليه الصلاة والسلام؛ فوُلِد يتيمًا، ونشأ فقيرًا، وفُجِع بوالدته طِفلاً لم يتجاوز ستَّ سنوات، والطفلُ لا يَنسى فَقْدَ أُمِّه؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "زَارَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ".

 

ثم فُجِع بجدِّه وهو ابنُ ثمانِ سنين، فتولى رعايته عمُّه الفقيرُ أبو طالب، فضمَّه إلى بَنِيه، فأعانه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو طفلٌ برعْي غنمِ أهْل مكةَ على قراريطَ.

 

هذا اليتيمُ الفقير أرادَ الله -تعالى- أنْ يكونَ خاتَمَ المرسلين، وخيَّرَهُ الله -عز وجل- أنْ يكون مَلِكًا رسولاً، أو عبدًا رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولا.

 

ولما بُعِث -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة كانت زوجته خديجةُ -رضي الله عنها- المناصرةَ والمواسيةَ له، وعمه أبو طالب كان يدافع عنه.

 

وبعد انتهاء الحصار في الشِّعْب الذي استمر ثلاث سنوات وهم يلاقون فيه من ضيق العيش والمعاداة ما يلاقون، إذا به يُفجع بموت زوجته المواسيةِ والناصرةِ له، وعمِّهِ المدافعِ عنه، وما بين موتهما إلا فترةٌ يسيرة، فسُمِّي ذلك العام: عام الحُزن.

 

لقد فُجِع النبي -صلى الله عليه وسلم- في قَرابته وأهْل بيته كأشدِّ ما يُفجع أحدٌ في أهْله، فتتابَع موتُهم عليه منذ صِغره -صلى الله عليه وسلم-.

 

لقد رُزِق سبعة من الولد: القاسم، وعبد الله، وإبراهيم، ورُقَيَّة، وأمّ كلثوم، وزينب، وفاطمة، ماتوا كلُّهم تِباعًا قبله، إلاَّ فاطمة -رضي الله عنها- ماتتْ بعده.

 

(قال أحد الصحابة): دخلنا على رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ عَوْفٍ -رضي الله عنه-: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ: "يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ"، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يرضى رَبّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ، يَا إِبْرَاهِيمُ، لَمَحْزُونُونَ".

 

لقد صبر -صلى الله عليه وسلم- على قلَّة ذات اليد، وعانَى شَظَف العيش، ووجَدَ ألَمَ الحِرمان، وأحسَّ بقَرْص الجوع، تقول زوجه عائشةُ -رضي الله عنها-: "إِنْ كُنَّا لَنَنْظرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَار".

 

وقالتْ: "مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ، إِلاَّ إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ"، وقالتْ: "مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا، حَتَّى قُبِضَ"، وقالتْ: "مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم-".

 

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "فَمَا أَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا بِعَيْنِهِ، وَلَا أَكَلَ شَاةً سَمِيطًا قَطُّ"، أي: شاة مشويَّة.

 

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَبيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِياً، وَأهْلُهُ لاَ يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبزَ الشَّعيرِ".

 

وقال النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: "لَقَدْ رَأيْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلأ بِهِ بَطْنَهُ".

 

لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحبُّ الطعام الطيِّب والشراب الطيِّب، لكنَّه لا يجده من قِلَّة ذات اليد؛ فقد ثبتَ أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يحبُّ الحَلْواء والعَسل، ويحب الذراع من اللحْم، ويتتبَّع الدُّبَّاء.

 

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ فَاطِمَةَ -رضي الله عنها- نَاوَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كِسْرَةً مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ فَقَالَ: "هَذَا أَوَّلُ طَعَامٍ أَكَلَهُ أَبُوكِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ".

 

ولقد كان مرضُه -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ من مرض غيره، وحُمَّاهُ أحرَّ من حُمَّى سواه، وصُداعُه ليس كصُدَاعِ الناس، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيداً. قَالَ: " أَجَلْ. إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رجُلاَنِ مِنْكُمْ"...

 

وسَمَّته اليهود في خَيْبَر، وسرى السُّمُّ في جسده الشريف، فعانى منه صُداعًا شديدًا، وألَمًا فظيعًا، وهو صابرٌ على ذلك، لا يزيد إذا اشتدَّ به الألَمُ على قوله: "وا رأساه!".

 

ومكَثَ وجَعُه أربعَ سنوات؛ حتى قطَعَ عِرْقَ قلبِه فمات -صلى الله عليه وسلم-، تقول عائشة -رضي الله عنها-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم".

 

لقد صبر -صلى الله عليه وسلم- كصبر أُولِي العَزْم من الرُّسل، حتى لَقِي الله -تعالى- وهو صابرٌ محتسب على أذى الناس له، راضٍ بما قضاه الله -تعالى- وقَدَّره عليه، فصلوات الله وسلامه عليه، صلاةً وسلامًا تامَّين دائمين إلى يوم الدين.

 

اللهم ارزقنا الصبرَ على طاعتك، والصبرَ عما يُغضِبُك، والصبرَ على أقدَارِك، والرضا بها.

 

أقول هذا القول وأستغفر الله العلي العظيم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، نحمده على ما أنعم وأوْلَى، ونشكُره على ما هدى وأسْدَى.

 

وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له...

 

أمَّا بعد: فاتَّقوا الله -تعالى- حق تقواه...

 

أيُّها المسلمون: رغم ما يعيشه كثيرٌ من الناس من رَغَد العيش، وتتابُع النِّعم عليهم، وما رُزِقوا من وسائل الراحة والرفاهية، إلا أنَّ القلوبَ قَلِقَةٌ، والنفوسَ ضيِّقةٌ، والبركةَ تكادُ تكونُ منزوعةً من أوقات الناس وأعمالهم، وأعمارِهم وأموالِهم، ويزعجُهم واقعُهم بتفصيلاته وتعقيداته، ويخافون المستقبل المجهول، ولا يدرون ما خُبِّئ لهم من الأقدار.

 

فكان ذلك سببًا في أمراض القلق والاكتئاب التي قد تُودِي بأصحابها إلى الهلاك أو الجنون، ولا وقاية من ذلك كلِّه إلا بالصبر الذي أرشَدَ الله -تعالى- إليه.

 

والصبرُ يُكْتَسب كما تُكْتَسب سائرُ الأخلاق، فمَن أراد النجاة، فليَتروَّض على الصبر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ".

 

فمن عاش يتيماً فليتذكَّر يُتْمَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وصبرَه، ومَن تألَّم لفراقِ أحبَّته وقرابتِه، فليتذكَّر فراقَ أحِبَّةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- له، وصبرَهُ على ذلك؛ فقد فارَقَته أُمُّه وفارقه جَدُّه في صغره، وفارقه عمُّه وأعزُّ زوجاته في أصعب الظروف، وفقد أبناءه الثلاثةَ وثلاثاً من بناته.

 

ومَن يعاني من مرضٍ مزمنٍ فليتذكَّر مرضَ النبي -صلى الله عليه وسلم- والسُّمَّ الذي كان يسري في جَسده حتى قتَلَه.

 

ومَن عانَى قِلَّةَ ذاتِ اليد، واهتَمَّ لديونٍ ركِبَتْه؛ فليتذكَّر جوعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- حين كانتْ تمرُّ عليه ثلاثُ ليالٍ طاويًا، ومات -صلى الله عليه وسلم- ودِرْعُه مرهونةٌ في شيءٍ من شعير.

 

ومَن أُوذِي في الله -تعالى-، فليتذكَّر أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أُوذِي بما هو أشدُّ وأكثر، فقابَلَ الأذى بالحِلم والصَّفح والصبر؛ حتى أظهره الله -تعالى- وأعلى شأنه ورفَعَ ذِكْرَه ودَحَر أعداءه، وما نال -صلى الله عليه وسلم- ذلك إلا بالصبر والتقوى.

 

عباد الله: إنَّ مقوماتِ العيشِ الكريمِ ثلاثٌ، جمعها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا". وكلُّ هذه الثلاثة افتَقدَها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في كثيرٍ من أوقات حَياته.

 

فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يأمنُ غَدْرَ المشركين واليهود والمنافقين، وكانت الأمراض تُصِيبه حتى فتَكَ به السُّمُّ، وكان يجوع كثيرًا من قِلَّة ذات اليد، ولا يأتيه مالٌ إلاَّ أنفقَه، ولم يدَّخِرْ لنفسه منه شيئًا، فمَن تذكَّر اجتماع ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو خير خَلْق الله -تعالى- أجمعين، هانتْ مصائبُه مهما عظُمت، وتأسَّى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصبر والرضا.

 

واعلموا -عباد الله- أن هذه الدنيا دارُ ابتلاءٍ وامتحان، ولا ينجو من أمواجِ الابتلاء ومحارقِ الفتن إلا مَن تسلَّحَ بالتقوى، واستعانَ بالصبر والصلاة،  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:183]...

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا على خيرِ الصابرين، وإمامِ الصادقين، وخيرِ البشريةِ أجمعين، فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين، فقال، جلَّ من قائلٍ عليم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]...

 

 

المرفقات
قدوتنا في الصبر.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life