اقتباس
سارع كثير من المراقبين بتطبيق قواعد التحليل السياسي للحدث بالبحث عن الأطراف المستفيدة من الحادث المفاجئ، وقياساً على قراءة معطيات الحدث نجدها تشير بأصابع الاتهام إلى طرفين لا ثالث لهما، هما المستفيد الأكبر مما حدث، خصوصا وأن حادث الاغتيال استبق بيوم واحد موعد القمة الروسية التركية الإيرانية في موسكو حول حلب، على مستوى وزراء الخارجية والدفاع..
في توقيت لا يخلو من دلالات مؤثرة، وبعد مضي عام على حادثة إسقاط الجانب التركي لمقاتلة حربية روسية من طراز "سوخوي 24" على الحدود السورية التركية، وما خلّفه هذا الحادث من توتر حاد بين البلدين كاد أن يصل للقطيعة الكاملة، يقوم ضابط أمن تركي بنفس إسلامي واضح من عباراته، باغتيال السفير الروسي في أنقرة " أندريه كارلوف " ليلقي بظلال قاتمة على المشهد القاتم والعاتم أصلاً من كثرة النوازل والأزمات الحادث مثل إحراجاً وضغطاً كبيرين على تركيا التي سارع رئيسها بمهاتفة الرئيس الروسي للاعتذار والتبرير وتهدئة الخواطر، ثم يخرج أردوجان من اتصاله سريعًا إلى وسائل الإعلام مؤكدًا إن آراء الجانبين تتفق على أن الهجوم هو عمل استفزازي يستهدف العلاقات الثنائية.
فتش عن المستفيد:
سارع كثير من المراقبين بتطبيق قواعد التحليل السياسي للحدث بالبحث عن الأطراف المستفيدة من الحادث المفاجئ، وقياساً على قراءة معطيات الحدث نجدها تشير بأصابع الاتهام إلى طرفين لا ثالث لهما، هما المستفيد الأكبر مما حدث، خصوصا وأن حادث الاغتيال استبق بيوم واحد موعد القمة الروسية التركية الإيرانية في موسكو حول حلب، على مستوى وزراء الخارجية والدفاع.
أول هذه الأطراف هو النظام الإيراني الذي يخشى من أي تقارب روسي – تركي، يؤثر على مكانته بسوريا، خصوصا بعد إعلان أنقرة رفضها الانسحاب من بعشيقة في الموصل، وإطلاق عملية درع الفرات، بدعم بري من الجيش الحر . فنظام الملالي في طهران يسعى لإفشال المساعي التركية، بعدما أدركت طهران، مؤخراً، أن عملية درع الفرات التركية والتوغل إلى العمق، وتحديداً إلى مدينة الباب، جاء باتفاق تركيا مع موسكو، التي تجاهلت إيران في هذه الصفقة، بسبب الصراع على النفوذ في سوريا، وهو ما أغضب طهران؛ خاصة بعد أن وافقت موسكو لأول مرة على إرسال مراقبين دوليين عبر تصويتها لقرار مجلس الأمن القاضي بإرسال مراقبين دوليين إلى حلب؛ لمراقبة عمليات الإجلاء بل حتى حماية من يريدون البقاء في حلب، وهو ما يعني فعلياً إضعاف هيمنة المليشيات الإيرانية داخل حلب، ووضع المدينة العريقة تحت الوصاية الدولية، وهو مسعى تركي روسي.
وقد كشف تقرير مركز الدبلوماسية الإيراني التابع للخارجية الإيرانية، عن تصاعد الغضب الإيراني من التدخل العسكري التركي في الموصل، وإصرار الرئيس التركي رجب طيب أردوجان على الدفاع عن وضع السنّة في العراق، لافتا إلى أن هناك أهمية قصوى للملف السوري في الصراع الجغرافي والسياسي القائم بين تركيا وإيران في المنطقة، وهو ما يزيد حدة المنافسة على الساحة السورية، وقد دعا التقرير إلى التحرك بقوة لإفساد التمدد التركي في العراق وسوريا، وهو التوجيه الذي نفذته طهران باستهداف ضباطاً وجنوداً أتراكاً على حدود مدينة الباب السورية، بطائرة بدون طيار أدت إلى مقتل أربعة ضباط أتراك من القوات الخاصة، وإصابة آخرين، في محاولة لإلصاق التهمة بروسيا، للوقيعة بين الجانبين، لكن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بادر بالاتصال فوراً بأردوجان، وأكد له أن القوات الروسية، وطائرات النظام السوري لم تقم بعملية الاستهداف، فاتحاً الباب بطريقة غير مباشرة لاتهام إيران بالقيام بالعملية.
ورغم وجاهة هذا التفسير وأرجحيته عند الكثيرين إلا إن الشواهد والقرائن والدلائل تقود إلى افتراض أشد وأخطر في حاله وفي مآله؛ وهو أن منفذ العملية لا تربطه أية صلة تنظيمية بإيران أو الكيان الموازي الذي سارع المسئولون الأتراك بإلقاء اللائمة عليه كما هو معتاد منذ الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو الماضي، وأن الدافع الحقيقي لمنفذ للعملية هو تأثره النفسي بما شاهده من انتهاكات وجرائم ترتكب بحق الشعب السوري في حلب، وشعوره باضطهاد أهل السنّة وإذلالهم لصالح الشيعة في المنطقة . فهتافاته بعد العملية: " الله أكبر، الله أكبر، نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً، لا تنسوا حلب، لا تنسوا سوريا، تراجعوا، تراجعوا، الموت وحده سيبعدني من هنا، المشاركون بهذا القمع سيدفعون الثمن واحداً تلو الآخر " تكشف عن بادرة تفسير أولية لا يمكن تجاهلها. فهي كلمات حماسية بالغة التأثير، على قصرها توصف باختصار مآلات الحرب العالمية الدائرة في محيطنا الإقليمي والتي تستهدف بصورة مباشرة أهل السنّة دون غيرهم ،حيث كانت مأساة حلب الأخيرة هي ذروة التجلي لهذا الاستقصاد الدولي لأهل السنّة.
حلب والحرب العالمية الصغرى:
ففي حلب درات عالمية مصغرة، كل الخصوم اجتمعوا على حصار معقل أهل السنَة التاريخي في الشام، حرب ذات ملامح دولية تدور بين بساتين الزيتون وحقول القمح في شمالي حلب، ففي هذه المناطق تقوم الطائرات الروسية بالقصف من الجو، فيما تتقدم الميليشيات الشيعية العراقية واللبنانية المدعومة من المستشارين الإيرانيين على الأرض، في مواجهة مجموعات متنافرة من المعارضة السورية ضعيفة التسليح، وعشرات الآلاف من المدنيين العزل، وفي ظل هذه الحرب تحاول القوات الكردية العلمانية الاستفادة من الفوضى وتوسيع مناطق نفوذها.
لا أحد يعرف حتى الآن كيف سقطت حلب الشرقية بهذه السهولة.. هل سلمت؟! أم تعرضت لـ"خيانة" ظهيرها الإقليمي بالتواطؤ مع الروس؟! والمرجح في المحصلة النهائية أن الجميع "خان حلب".. والعالم كله "شريك" ضمني في محنتها الإنسانية والتي فاقت في قسوتها ووحشيتها ما سجله التاريخ من مآسٍ مشابهة. غير أن ذبح حلب على ما يبدو أنه لن يمر مرور الكرام، وإن مرارة المأساة وقسوتها ستحولها إلى بركان ثائر يلقي بحممه على الجميع، وما جرى للسفير الروسي في أنقرة، وما جرى في برلين، في نفس التوقيت، خير دليل على تبعات ومآلات استهداف أهل السنّة ،وشعورهم بالمظلومية والمهانة والاضطهاد.
أهل السنّة تاريخ مجيد وواقع مهين:
من أبرز ظواهر فواتح القرن الحادي والعشرين؛ استهداف معاقل أهل السنّة وحواضرهم التاريخية الكبرى، وتحويل أغلبيتهم الساحقة في المنطقة العربية إلى أغلبية بطعم الأقلية المحاصرة المغلوبة على أمرها، فأهل السنّة صاروا هدفاً واضحاً لشتى خصوم الأمة الإسلامية والعربية من غرب وشرق . أهل السنّة قادوا العالم الإسلامي لأكثر من ألف ومائتي سنة، وقامت لهم الكثير من الممالك والدول وقادوا دولة الخلافة الإسلامية لقرون متواصلة – راشدة، أموية، عباسية، أندلسية، عثمانية، وبنظرة سريعة على أنقاض تلك الممالك الكبرى، وسوف يظهر للعيان نمط مثير للقلق: من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج، أولئك الذين يتحملون وطأة الحرب هم في الأغلب من العرب السنة، والكثير من مدن أهل السنّة الكبرى وحواضرهم العظيمة التي كانت شامات في جبين الإنسانية والحضارة من قبل، تخضع اليوم لاحتلال خصومهم، في الحين أن الباقي يرزح تحت نظم حكم سلطوية تصادر معظم الحقوق . فالقدس أسيرة يهود، وبيروت تحت قبضة الموارنة والشيعة، ودمشق يحكمها النصيريون العلويون، وبغداد تحتلها عصابات إيرانية رافضية، وصنعاء تحكمها عصابة حوثية بالوكالة عن إيران . وعلى هامش هذه الحواضر السنية الكبرى هناك العشرات من المدن السنية الأصغر حجماً جري تغير ديمغرافيتها لصالح الشيعة الإيرانية والنصيرية، حيث يجري طرد العرب السنة من مدنهم على قدم وساق، وتحول السواد الأعظم من الناس الذين عمروا هذه الأراضي منذ قرون إلى لاجئين، إما خارج البلاد أو نازحين في داخلها. إما على أيدي بشار الأسد والروس والمليشيات المدعومة إيرانياً في حالة حلب، أو على أيدي قوات الحكومة العراقية في تكريت والرمادي .وعملية إذلال أهل السنّة والتمكين للشيعة الرافضة مستمر على قدم وساق.
إذلال أهل السنّة وانفجار المنطقة:
اليوم، تشهد حواضر أهل السنّة انفجاراً متعدد المستويات والأبعاد، انفجاراً يعكس فشل نظام الدولة القومية وتقسيمات سايكس – بيكو . ويكفي النظر إلى البقعة المثلثة الصغيرة المحصورة بين جنوب تركيا وشمالي العراق وسوريا لاكتشاف التداخل الدموي وبالغ التعقيد للنزاعات الإقليمية وتحت الإقليمية، ليس فقط بين دول المشرق، ولكن أيضا بين الكيانات دون مستوى الدولة، والقوى الدولية التي لم تزل تسعى للحفاظ على نفوذها في المنطقة. دول كبرى مثل العراق وسوريا ومصر والسودان وليبيا واليمن قد أصبحت دول فاشلة ويسودها التوتر والاقتتال ولكن بنسب متفاوتة، حتى الدول القوية نسبياً مثل تركيا، عادت المسألة الكردية إلى الانفجار منذ صيف 2015، بعد سنوات من مساعي السلم المتعثرة. ومدفوعة بطموحات أيديولوجية وطائفية، ومخاوف جيوستراتيجية، في حين تبنت إيران سياسات توسعية في جوارها العربي الهش، بحيث أصبحت متغلغلة في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
سقوط حلب بهذه الطريقة المهينة المليئة بمرارات الشعور بالتآمر والخيانة سيكون بمثابة البركان الثائر الذي سيلقي حممه على الجميع بحيث لا يبقى أحد في مأمن من وصول اللهيب إلى عتبات داره، فالسقوط سيطلق أكبر موجة انفجارية من الانتقام والرغبة في الثأر من مصاب أهل السنّة، وستكسب التنظيمات الجهادية وعلى رأسها تنظيم الدولة وفتح الشام – جبهة النصرة سابقاً – وما يتبعهما من تنظيمات وتشكيلات أصغر، زخماً كبيراً وسينضم إليهما الآلاف من الشباب السنّي الذي يكاد ينفجر غضباً من تعرضه للاستهداف والاحتلال، ويعاني من غياب المرجعية الدينية والسياسية المدافعة عنه والمعبرة عن آماله، ويعاني من غياب المشروع السياسي المستقبلي، وما حدث في أنقرة من اغتيال لسفير دولة تتحمل مسئولية كبيرة عن مصائب أهل السنّة بالمنطقة، خير دليل على عواقب استهداف حواضر أهل السنّة، وشعورهم بالإذلال والمهانة، وما يعتقده تحالف شركاء العدوان على أهل السنّة بأن المشكلة قد شارفت على الانتهاء، وأن المنطقة سيسودها السلام والأمان، بعد سقوط حلب ومن بعدها الموصل هو محض خيال، فالقادم أسوأ بكثير، وأجيال أهل السنّة القادمة، ستكون أكثر شراسة وضراوة، ولن تؤثر فيها مفاوضات الغرف المغلقة، ولن تبالي بتحالفات عسكرية دولية، فالغضب يملأ الصدور، والرغبة في الثأر هي أقوى الغرائز الإنسانية في استمرار أي صراع مهما كانت أيديولوجيته وأهدافه . والأخطر من ذلك أن الانتقام والثأر غالباً ما لا ينضبط بالضوابط الشرعية والأصول الفقهية، فهو عاطفة جياشة تعمي العيون وتصم الآذان، ولن تجدي الخطابات الرسمية والخطب الوعظية في رد أصحابها، فالثورة والرغبة في الانتقام ستجعل كل المسئولين عن إذلال أهل السنة وإهانتهم من إيرانيين وروس وأمريكان وأوروبيين وغيرهم أهدافاً مشروعة – من وجهة نظر الغاضبين -، فالبركان قد شرع في إطلاق الحمم، ولن يهدأ حتى تقف مظلومية أهل السنّة وتنتهي كل صور إذلالهم وإهانتهم..
التعليقات