قابيل والطلقة الأولى

عاصم محمد الخضيري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ تأملات في قصة ابني آدم 2/ أول جريمة اختلال أمن في التاريخ 3/ أول جريمة وقعت في الأرض هي القتل 4/ حكم توبة قاتل العمد 5/ كيف يقوم الأمان على ثرى الأوطان؟ 6/ من أعظم أنواع النعيم المستقر في الجنة 7/ الحفاظ على الأمن في الأوطان لا يعني السكوت عن الظلم والظالمين 8/ أسباب رغد العيش والأمان والاطمئنان 9/ كيف يقوم الأمان في الأوطان؟ 10/ إحصائية عن الجرائم في أمريكا.
اهداف الخطبة

اقتباس

أول ركن تستقر به الأوطان هو الإيمان، فلا أمان بلا إيمان، ومن ظن استقرار الأمم بلا صلتها بخالق الأمم فقد أعظم الفرية، الأمن المؤقت ليس هو الأمن الدائم، كل هذه المجتمعات القوية إنما استولت على أمنها بمجرد القوة وسلطة القانون فحسب، ولو انطفأ النور ساعة لرأيت الوزعة تتساقط في الظلمات، وكل وازع لا يقوم على أساس الخوف من الله وطاعته فمآله الضياع.. فلا أمان بلا إيمان، ولن يستقيم أمن بلدة لا تخاف الله -عز وجل-، ولا تقيم شرعه، ولا تحقق العدل، ولا تمنع الظلم، ولا تأخذ على يد الظالمين، ولا تؤدَّى فيها الحقوق لأهلها...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله حمد الرضا، حمدًا كثيرًا طيبًا، حمدًا كبيرًا أرحبا، حمدًا كأنسام الصبا، كالروح كالريحان إذ تسري فتعتبق الرُّبا، الحمد لله حمدًا يملأ السماء وأقطارها، والأرض والبر والبحر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته..

 

الحمدُ لله مَوْصُولا كما وجبا *** فهو الذي برداء العِزّة احْتَجَبا

الباطِن الظّاهرِ الحق الذي عَجَزَتْ *** عنه المدارِكُ لما أمْعَنَتْ طَلَبا

علا عنِ الوصْفِ مَن لا شيءَ يُدْرِكُه *** وجَلَّ عن سبَبٍ من أوْجَدَ السّببا

 

وأشهد أن محمدًا بن عبد الله عبد الله ورسوله، إمامُ الهدى، أجلى الله به الدجى، فأصبح ليلُ الأرض في أفقه فجرا.

 

صلّى الأُلى والآخرون عليه ما *** صلَّتْ عليه وسلَّمَتْ أُمّ القرى

وصلى الله على آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

 

 أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].

 

قابيل والطلقة الأولى..

روى ابن جرير وابن أبي حاتم والسدي وغيرهم بأسانيد جيدة عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو وابن عمر وغيرهم أنهم قالوا: كان آدم -عليه السلام- لا يُولد له مولود إلا جاء معه توأمه، فحواء لا تلد غلامًا إلا تلد معه جارية في كل بطن وحمل تحمله، وحكمة الله قد قضت على آدم -عليه السلام- أن يزوّج أبناءه ببناته حتى لا ينقطع النسل البشري.

 

 فكان آدم -عليه السلام- إذا أراد تزويج أحد أبنائه بإحدى بناته، فإنه ينظر -عليه السلام- ثم يزوّج ابن كل بطن بإحدى بنات البطن الآخر، ويزوّج غلام كل حمل لجارية الحمل الآخر، حتى وُلد له ابنان يقال لهما قابيل وهابيل، وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت وهي توأمه هي أحسن من أخت هابيل، فطلب هابيل أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه، وقال: بل هي أختي وُلدت معي، وهي أحسن من أختك.

 

فأمر آدم -عليه السلام- قابيل أن يزوّجه أخته، فأبى قابيل على أبيه مرة أخرى، فقال آدم -عليه السلام- لابنيه: فقرّبا قرباناً حتى تقر عيني, إذا تُقبل قربانكما، فقرّبا، وكان هابيل صاحب غنم فقدم جزعة سمينة، وهي أحسن غنمه وأطيبها, وكان قابيل صاحب زرع فقدم حزمة سنبلة رديئة، فانطلق آدم معهما ومعهما قربانهما, فصعدا الجبل, ووضعا قربانهما، ثم جلس ثلاثتهم ينظرون إلى القربان، وكان من دلائل قبول القربان المقدَّم أن تأكله النار، فبعث الله نارًا حارقة إلى قربان هابيل فأكلته كله، ولم تأكل من قربان قابيل، وعلم آدم -عليه السلام- أن قابيل مسخوط عليه.

 

فقال: ويلك يا قابيل! لقد رُدَّ عليك قربانك؟! فقال قابيل لأبيه آدم -عليه السلام-: أحببته فصلّيت على قربانه، ودعوت له فتُقبل منه، ورُد عليَّ قرباني؛ هذا ما فعلته، ثم أطلق قابيل بعدها التهديد الأول للجنس البشري تهديدًا خلّد القرآن فيه رسمه، وطواه زمنًا بعد زمن: يا هابيل! والله لأقتلنك حتى لا تنكح أختي!!

 

وانتفض الحق وشرعته *** واشتدت للباطل وطئته

وصار التهديد على رجل *** وابتدأت منه محنته

تهديد ماج على أرض *** ودماء الأمة حمرته

وتفور دماء ودماء *** وعلى ابن أبينا بدعته

 

من أين صار كل هاتيك الدماء؟ من أجل ماذا؟

سُنة القتل استوت حتى سوت*** كل العوالم واشتهت  

وتفوقت لغة السواء من أين *** صارت كل هاتيك الدماء؟

 

قابيل يتوعد هابيل يومًا بعد يوم، إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه، فقال آدم: يا قابيل أين أخوك؟ [قال] قال: وبعثتني له راعيًا؟ لا أدري. فقال [له] آدم: ويلك يا قابيل. انطلق فاطلب أخاك. فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله. وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب، فقال: يا هابيل تقبل قربانك، ورد عليّ قرباني، والله لأقتلنك.

 

فقال هابيل: قرّبت أطيب مالي، وقربّت أنت أخبث مالك، وإن الله لا يقبل إلا الطيب، إنما يتقبل الله من المتقين، فلما قالها غضب قابيل، فرفع الحديدة وضربه بها، فقال: ويلك يا قابيل أين أنت من الله؟ كيف يجزيك بعملك؟

 

قال ابن عباس: وخوّفه من النار فلم ينتهِ، ولم ينزجر، ثم رفع الحديدة فقتله فطرحه في حفرةً من الأرض، ثم حثا عليه شيئًا من التراب، وهنا بدأت أول فصول مسرحيةٍ أذن الله ألا تنتهي إلا يوم يقوم الناس لرب العالمين.

 

هنا بدأت أول جريمة اختلال أمن في التاريخ، يا ويل قابيل كل دم يأتي يوم القيامة تثبت رائحته في رقاب الظالمين، يُسأل عنها قابيل، وكل رأس مفصول عن جسده، ورقبة متدلية، ودم يصرخ في وجوه الظالمين، يُسأل عنها قابيل، وكل اهتزازة أمن في الأوطان ودماء خاضت فيها السكان، والرعب يمشي في الطرقات، يكشر للماشين عن الحقد والأضغان تراها في الأكفان، وعذابات السارين على النيران، يُسأل عنها قابيل!!

 

من كان سيصدق إذاً أن لو علم عن مآلات فعلته أن يفعل ما فعل، أن يجهل قيمة الدم الذي أرهقه ليبوء باسم بدعته إلى يوم القيامة ولأجل ماذا؟ ألشهوة نازية ولحظة مستعرة، قاتل الله الشهوات الموقوتة كقنابل لا يدرى عنها ومتى في وجه الماشي تنفجر.

 

 والتاريخ –والله- يسجّل كيف أن قابيل أودت به سكراته إلى قتل أخيه، والمساهمة في قتل ملايين من الضحايا،  قال الله –تعالى-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[المائدة: 32].

 

ويقول عليه الصلاة والسلام: "لا تُقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأولى كفلٌ منها؛ لأنه أول مَن سنَّ القتل".

 

كم عدد الذين قُتلوا ظلمًا على أيدي السفاحين والظالمين في العالم منذ عهد آدم -عليه السلام- إلى يومنا هذا، ممن لا يحصيهم إلا الله -عز وجل-؟! هل كان قبيل على استعداد أن ينفذ الطلقة الأولى وهو يعلم أن كِفْلها ستخترق مليارات القتلى عبر الأزمان كلها تأتي يوم القيامة ينوء بها ظهره، بئست القدوة السيئة! وما أبشبع القدوة والمقتدي!!

 

أن تثور حمامات الدم من قلوب المؤمنين من أجل نعرة اختلاف، أو نزعة خلاف، فهذا ليس قدرًا يسيرًا في موازين السماء ولا موازين الأرض، ولذا فاحفظوا هذا الرقم القياسي، أول جريمة فُعلت في الأرض هي القتل، وأول اعتداء في التاريخ لم يكن بين مؤمن وكافر أو بين كافر وكافر، بل بين مؤمن ومؤمن.

 

كانت جريمة قتل كبرى كان جزاؤها أن كل قاتل نفس ظلمًا فكأنما قتل الناس جميعًا، أجل فهذه الدماء المؤمنة ليس رخيصة في مواثيق السماء لا عند الله ولا عند رسول الله، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يشتد في تشديد حرمتها في أكبر تجمع جماهيري لسماع أشهر خطبة تُلقى في التاريخ.

 

وكلماتها تتزلزل من هذا الميثاق حين يقول: "إن دمائكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"، وهو يختمها ليقول لهذه الجموع الكبيرة: "اللهم قد بلّغت؟ اللهم فاشهد".

 

ما كانت رخيصة عند الله، ولا عند رسول الله والنبي -عليه الصلاة والسلام- يطلق الوعيد الصارخ لخارقي المواثيق في كل مكان حين يقول عنهم: "لو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على قتل رجل مسلم واحد لأكبّهم الله جميعًا على وجوههم في النار" (رواه الترمذي وغيره).

 

كل شيء يمكن أن تساوم عليه، أو تفاوض حوله، أو تماري فيه إلا مسألة الدماء المؤمنة، أن تُراق بغير حق ولا برهان، وقد أثبت رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- حين قال: "إِنَّ بين يَدَيْ السَّاعَةِ الهَرْجَ"، قالوا: وما الهَرْجُ ؟ قال: "القَتْلُ"، ثم قال: "إنَّهُ ليس بقَتْلِكُمُ المُشْرِكِينَ، ولكنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، حتى يقتلَ الرجلُ جارهُ، ويقتلُ أخاهُ، ويقتلُ عمَّهُ، ويقتلُ ابنَ عمِّهِ" قالوا: ومَعَنا عُقُولُنا يومَئذٍ؟ قال: "إنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أهلِ ذلكَ الزَّمانِ، ويُخَلَّفُ لهُ هَباءٌ مِنَ الناسِ، يَحْسِبُ أكثرُهُمْ أنَّهُمْ على شيءٍ، ولَيْسُوا على شيءٍ". (والحديث الذي أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهم).

 

ما أعرف معصية تَمَارى فيها أهل السنة والجماعة في توبة فاعلها، مثل قتل النفس المعصومة، كل معصية يمكن التوبة منها حتى الشرك بالله والكفر به، وقد أجمع أهل الإسلام على ذلك، وحين تأتي مسألة سفك الدم الحرام، فإنه ينخرم الإجماع!!

 

حين تأتي هذه المسألة يتوقف ابن عباس -رضي الله عنهما- في أحد قولين ليسأله سعيد بن جبير -رحمه الله- فيقول سعيد: "قلت لابن عباس ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟"، قال: "لا ليست له توبة"، قال: "فتلوت عليه هذه الآية التي في سورة الفرقان (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الفرقان: 68- 70]".

 

فقال ابن عباس: "هذه آية مكية نسختها آية مدنية (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا..) [النساء: 93]" وقد روي ذلك عن ابن مسعود -رضي الله عنه- وابن عمر وأبي هريرة، وغيرهم.

 

ورغم عدم رجحان هذا القول، واستقرار قول أهل السنة والجماعة على قبول توبة قاتل العمد، إلا أنه يدل دلالة جلية كبرى على أن مسألة القتل ليست مسارًا للجدل في حسم بشاعتها في دين الإسلام حتى عدّها النبي -صلى الله عليه وسلم- من أكبر الكبائر، والسبع الموبقات، والمسائل المهلكات.

 

حتى إن الإمام مالك -رحمه الله- حين سُئل عن قاتل العمد ظلمًا هل له من توبة؟ فقال الإمام مالك: "مُروه أن يُكثر من شرب الماء البارد"، وهو يريد -رحمه الله- أنه سيكون في النار خالدا مخلدا فيها لن يذوق فيها بردا وشرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا.

 

أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

 

 أما بعد: كيف يقوم الأمان على ثرى الأوطان؟! سؤال كهذا لن يقطع غلة الحديث عنه مقام كهذا، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، وأقام الحجة وأبلغ البيان، كيف يقوم الأمان، أفلا يتدبرون القرآن؟!

 

من أعظم أنواع النعيم المستقر في الجنة لأصحابها: أنهم آمنون مطمئنون فيها، كم هو عظيم أن يمتن الله عليك في الجنة، ثم يذكر أن من أجلّ صفات نعيمك فيها أنك في مقام الأمين: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ) [الحجر:45- 46].

 

ويمتن عليك فيقول: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الدخان:51- 52]، ثم يقول: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [الدخان:55- 56].

 

نعيم الجنة لا لغو، ولا نصب ولا وصب، ولا هلع ولا جزع ولا صدع، ولا قلق ولا رهق وغسق، وليس به ارتياب ولا ارتعاب، ولا خوف عليك بل الأمان، وإذا كان الأمن في الجنة نعمة جلى، فَلِمَ لا يكون ذلك في الدنيا؟!

 

أرأيتم نعمة بعد الإسلام تستقر بها الأوطان، وينعم فيها السكان مثل نعمتها؟ هي أعظم موجود وأجلّ مفقود.

 

ما أكثر السامعين بالأمن ولم يروه، اسمعوا أباكم إبراهيم -عليه السلام- وهو يلقيها على الوادي السحيق في أول دعوة سجّلها كتاب الله له في موضعين: (رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [البقرة: 126]، فبدأ بالأمن قبل الرزق، فلا قيمة لرزق دونها، ولا صحة ولا مال، ولا ثروة ولا طعام، ولا ماء ولا بيت ولا فرحة ولا هناء دونها.

 

إذا ذُكر الأمن قفزت عيون الغائظين على الهدى، واستشرفوا موت الأمانة سراعًا؛ استهانة بنعمتها، والله -عز وجل- يَمُن بها على عباده.

 

 كلما ذُكر الأمن ذُكر معه الظلم والظالمون في ازدواجية خاطئة منحرفة، من هذا الذي ألقى في روعنا وعلمنا أن الكلام عن الأمن في الأوطان هو السكوت عن الظلم والظالمين، وأن مجرد الحديث عن الأمن هو مباركة وتصفيق وهدهدة للبغي والباغين.

 

اللهم إنا نبرأ إليك من كل باغٍ وظالم، وطغيان وطاغوت، ولكننا نسألك أن تحفظ علينا أمننا وديننا واطمئنانا، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت:67].

 

اللهم شكرانك لا كفرانك، نقولها ونحن نسمع أمر الله (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش:4].

 

آمنهم من خوف في كل أيام السنة، نعيشها متفيئن هذا النعيم، متقلبين في النعماء والسراء، وقد تخطفت الناس من حولنا، وضُربت على البلدان مضارب البأساء والضراء؛ خوف وجوع، وحصار ودمار، ودمار تأكله النار.

 

وفي أكثر البلدان تحول الصبح بها -من فزع- إلى مساء، وبيوتها أضحت فضاء.. إن رغد العيش والأمان والاطمئنان في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82].

 

والله -عز وجل- قال: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل:112].

 

روي أن صالح الدمشقي قال لابنه يوصيه: "يا بني، إذا مر بك يوم وليلة قد سلم فيها دينك، وجسمك، ومالك، وعيالك، فأكثر الشكر لله –تعالى-، فكم من مسلوب دينه، ومنزوع ملكه، ومهتوك ستره، ومقصوم ظهره في ذلك اليوم، وأنت في عافية". وفيه أقول: "لو أنني أعطيت سؤلي لما سألت إلا العفو والعافية، فكم فتى قد بات في نعمة فسُلَّ منها الليلة الثانية".

 

ورسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- ينتزعها نصيحة للشعوب المؤمنة الرضية الآمنة؛ "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"، وطول الإلف للنعم قد يُسقِط الإحساس بها.

 

كيف يقوم الأمان في الأوطان؟! أول ركن تستقر به الأوطان هو الإيمان، فلا أمان بلا إيمان، ومن ظن استقرار الأمم بلا صلتها بخالق الأمم فقد أعظم الفرية، الأمن المؤقت ليس هو الأمن الدائم، كل هذه المجتمعات القوية إنما استولت على أمنها بمجرد القوة وسلطة القانون فحسب، ولو انطفأ النور ساعة لرأيت الوزعة تتساقط في الظلمات، وكل وازع لا يقوم على أساس الخوف من الله وطاعته فمآله الضياع.

 

فلا أمان بلا إيمان، ولن يستقيم أمن بلدة لا تخاف الله -عز وجل-، ولا تقيم شرعه، ولا تحقق العدل، ولا تمنع الظلم، ولا تأخذ على يد الظالمين، ولا تؤدَّى فيها الحقوق لأهلها، حتى إن قدر لك أن تعصب رأسك لسماع هذه الإحصائية لما كفاك ذاك؛ أن تسمع إحصائية قُدمت من نشرة النائب العام الاتحادي عن جرائم السرقة في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد قدمت النشرة أرقامها المخيفة عن أحجام السرقات فحسب، وقد تقدمت بأنه في كل دقيقة واحدة تتم فيها ثلاث جرائم سطو على المنازل، أي: بمعدل أكثر من مليون ونصف المليون سرقة منزلية في السنة الواحدة.

 

وأيضًا ذكرت الإحصائية أنه في كل دقيقة واحدة تتم فيها جريمة سطو على السيارات، أي: بمعدل مليون ونصف المليون في السنة الواحدة أيضًا.

 

وأيضًا ذُكر في ذات النشرة الإحصائية أن جرائم السرقة في الولايات المتحدة فحسب تتم في كل دقيقتين، وتخلص النشرة إلى أن مجموع هذه الجرائم أكثر من ثلاث ملايين سرقة وجريمة.

 

اللهم شكرانك لا كفرانك، لك الحمد في الأولى لك الحمد في الأخرى.

 

ولقد أشار تقرير التنمية الإنسانية لأمريكا الوسطى الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية إلى أن أمريكا الوسطى فحسب هي أعلى مدينة في العالم من حيث نسبة جرائم القتل فيها، حتى قُدر أن معدل القتل هو 33 شخصًا من كل مائة ألف شخص، وخلال الست أعوام الماضية بلغ عدد ضحايا الاغتيالات فيها 79 ألف شخص في السنة الواحدة مما أدى إلى تهديد رهيب للمنطقة.

 

ثم أكد التقرير أن الجرائم شكَّلت ضغوطًا اقتصادية كبيرة على المجتمع، بينما أثرت على الحياة اليومية تأثيرًا شديدًا، والناس مستوفزون للقلق والهلع في سائر العام.

 

إذا مات الوازع مات حامله، وأصبح كالبهيمة القرناء، كل شيء أمامها شاة جماء، ونحن نقول:

هذه نعمة الأمان سلام *** وقرار لساكن الأوطان

أمان الرحمن لا ليس يأتي *** بلدة مات حظها الإيمان

 

والله -عز وجل- يقول في وعد قاطع لا مرية فيه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55].

فأقيموا الإيمان يقم لكم الأمان.

 

المقوم الثاني: الزم جماعة المسلم وغرزهم، فإن يد الله -عز وجل- مع الجماعة، ومن شق عصا المسلمين شق الله أمره، وبات خائفًا وجلاً، واستشرفته الفتن.

 

ولما أخبر رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- عن زمن الفتن وكثرة دعاة جهنم سأله حذيفة -رضي الله عنه- عما يفعل إن أدركه ذلك، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".

 

فتن القتل تقول لكل ساع خلفها*** أخ الجنون وإن طغا وتجبر

تأكل الأخضر واليابس ترمي *** كل من تلقاه في الدرب بنار

 

فتن كشفت أنيابها عن خُلق سوء، فتن قال عنها حذيفة -رضي الله عنه- يومًا لأصحابه "ما الخمر صِرفًا بأذهب بعقول الرجال من الفتن"، وقال عنها -صلى الله عليه وسلم-: "تَكُونُ فِتْنَةٌ تَعْرُجُ فِيهَا عُقُولُ الرِّجَالِ حَتَّى مَا تَكَادُ تَرَى رَجُلا عَاقِلا".

 

إنها الفتن التي تعترض المؤمن، وإن الواحدة منها تكفي بأن تفتك به وتذهب دينه، شعر أو لم يشعر، إلا أن يعصمه الله برحمته وفضله، اللهم اعصمنا برحمتك وفضلك.

 

وكان الصحابة إذا رءوا الفتنة مقبلة أنشدوا:

أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً *** تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ

حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا *** وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ

شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ *** مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ

 

حتى قرر كثير من أهل العلم على أن الجماعة لو اجتمعت على رأي مرجوح فيسع من يخالف رأيها ألا يعارضها، وإن رأى قوله راجحًا؛ لأن معنى الاجتماع وتحقيق الوحدة والتماسك ووحدة الصف أهم من ترك مسألة راجحة.

 

"بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا".

 

إذا ذهب الأمان استوحشت القلوب، وانتشرت أخلاق الحيوان في الطرقات، ولا يدري القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتل، ولا تطرف عين القاتل مهما قتل من الناس، ولا يأبه لمناظر القتلى والجوعى والجرحى والمتألمين، ولما دخل التتار بغداد قُتل أكثر من مليون ونصف في شهر واحد بحسب قول بعض المؤرخين.

 

وما أظن أحدًا أغمض عينيه وهو يشاهد ازدهار سوق السلاح العالمي عند كل فتنة وبلية وفوضى في بلاد المسلمين. والأمن والاستقرار لا يجربهما إلا مجنون.

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنينا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا..

 

 

 

المرفقات
قابيل والطلقة الأولى.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life