اقتباس
اختلف الأصوليون في تعريف الرخصة، أذكر منها هذيْن التعريفيْن: التعريف الأول: وهو للإمام الآمدي الذي عرَّفَ الرُّخصةَ بأنَّها: (ما شُرع مِن الأحكام لِعذر مع قيام السبب المُحَرِّم) التعريف الثاني: لِلبيضاوي وقد عرَّفها بأنَّها: (الحكْم الثابت على خلاف الدليل لِعذر)..
الحمد لله، وصلى الله على نبيِّه ومُصطفاه... وبعد..
فهذه سلسلة مقالات كتبتها منذ زمنٍ عن الرخصة والعزيمة في الفقه الإسلاميِّ، ولم يُكتب لَها أنْ تُنشرَ في حينها، إلى أن قدَّرَ الله – عزَّ وَجَلَّ – لَها أنْ تُنشرَ كي يعمَّ النفعُ بِهَا، والله أسألُهُ القبولَ والإخلاص.
وفي هذا المقال الأول مِنْ هذه السلسلة التي أسميتها: (مقالاتٌ في الرخصة والعزيمة) نتناولُ تعريفَ الرخصة والعزيمة لغةً واصطلاحًا.
أولاً: الرخصة
تعريف الرخصة لغةً:
والرخصة في اللغة: التسهيل في الأمر والتيسير.
يُقال: " رخص الشرع لنا في كذا ترخيصاً "، و: " أرخص إرخاصاً " إذا يسّره وسهّله[2].
تعريف الرخصة اصطلاحاً:
اختلف الأصوليون في تعريف الرخصة، أذكر منها هذيْن التعريفيْن:
التعريف الأول: وهو للإمام الآمدي الذي عرَّفَ الرُّخصةَ بأنَّها: (ما شُرع مِن الأحكام لِعذر مع قيام السبب المُحَرِّم) [3].
التعريف الثاني: لِلبيضاوي وقد عرَّفها بأنَّها: (الحكْم الثابت على خلاف الدليل لِعذر) [4].
والأَوْلى عندي أن تعرّف الرخصة بأنَّها: (مَا شُرع مِن الأحكام لِعذر خلاف حكْم سابق ؛ مع قيام السبب المُحَرِّم).
شرح التعريف:
• ( ما شُرع مِن الأحكام ): كالجنس في التعريف، يشمل الرخصة والعزيمة..
• ( لعذرٍ ): قيد أول، خرج به العزيمة، وهي: ما شُرع مِن الأحكام ابتداءً بغير عذر، نحو: إقامة الصلاة كاملةً بغير قصر..
• ( خلاف حكْمٍ سابق ): قيد ثان، خرج به ما ثبت على وفْق الحكْم السابق ؛ فإنه لا يكون رخصةً بل عزيمة، نحو: الصوم في الحضر، فإنَّه موافق لِلأمر بالصيام في قوله تعالى: ? فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ?[البقرة: 185]..
• ( مع قيام السبب المُحَرِّم ): قيد ثالث، خرج به ما رُفِع فيه سبب التحريم، وحينئذٍ لا مخالفة بين حُكْمَيْن متقدِّم ومتأخِّر، فتنتفي الرخصة ويكون عندنا حكْم واحد هو المتأخر بِلا معارَضة لِمتقدم، وهو معنى العزيمة.
وَأمَّا أحكام الرخصة فسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل القول فيها لاحقًا.
ثانياً: العزيمة
تعريف العزيمة لغةً:
• والعزيمة في اللغة: مصدر " عزم على الشيء "، و" عزمه عزماً " عقد ضميره على فعله.
• والعزم: الصبر والجد. ومنه: قوله تعالى: ? فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ? [الأحقاف: 35].
• والعزم: القصد.. ومنه: قوله تعالى: ? فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ? [طه: 115]..
• والعزيمة: ما عزمت عليه، وتُطلَق على الفريضة، والجمع: عزائم وفي الحديث: " إِنَّ اللَّ-هَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُه "[5].
• كما تطلَق العزيمة على الرقية[6].
تعريف العزيمة اصطلاحاً:
عرَّفَ الأصوليونَ العزيمة بتعريفاتٍ عدة، أذكر منها ما يلي:
التعريف الأول: وهو لِلإمام الغزالي.. حيث عرَّفَ العزيمة بأنَّها: (ما لزم العباد بإيجاب الله تعالى) [7].
وتَبِعَه في ذلك بعض الأصوليين: كالآمدي والأصفهاني..
فعرّفها الآمدي بأنَّها: ( ما لزم العباد بإلزام الله تعالى: كالعبادات الخمس ونحوها )[8].
وعرّفها الأصفهاني بأنَّها: ( ما لزم العباد بإلزام الله تعالى )[9].
التعريف الثاني: لِلإمام الشاطبي الذي عرَّفها بأنَّها: ( ما شُرع مِن الأحكام الكلية ابتداءً ) [10].
التعريف الثالث: للإمام ابن قدامة الذي عرَّفها بأنَّها: ( الحكْم الثابت مِن غير مخالَفة دليلٍ شرعيٍّ )[11].
وعلى ضوء ما سبق يمكن تعريف العزيمة بأنَّها: ( الحكم الشرعي الثابت بدليل لم يعارض بدليلٍ شرعيٍّ آخَر ).
شرح التعريف:
• ( الحكم ): كالجنس في التعريف، يشمل الأحكام الشرعية وغيرها.
• ( الشرعي ): قيْد أول، خرج به الحكم العقليّ.
• ( الثابت بدليل ): قيْد ثان، ذُكِر توطئةً لِلقيد الثالث ليس إلَّا ؛ لأنَّ الحكْم الشرعيّ لابُدَّ لَهُ مِن دليل، وهو يشمل الرخصة والعزيمة.
• ( لم يعارَض بدليل شرعي آخَر ): قيد ثالث، خرج به الرخصة ؛ لأنها حكْم ثابت بدليل على خلاف حكْم سابق لِعذر.
أقسام العزيمة:
وقد اختلف الأصوليون في تحديد أقسام العزيمة بين مُقِلّ ومُكثِر وما بينهما..
فمنهم مَن قَصَرها على الواجب فقط، أو الواجب والحرام..
وهذه أقسام العزيمة عند مَنْ عرَّفها بأنَّها: ( مَا لزم العباد بإيجاب الله تعالى ): كالغزالي [12] والآمدي[13] والأصفهاني[14].
ومنهم مَنْ قَصَرها على الواجب والمندوب.. وهو ما ذهب إليه القرافي الذي عرَّف العزيمة بأنَّها: ( طلبُ الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع شرعيّ )[15].
ومنهم مَنْ قَصَرها على الفرض والواجب والسُّنَّة والنفل.. وهم جمهور الحنفية[16]..
ومنهم مَن قَصَرها على الواجب والمندوب والمباح والمكروه.. وهو ما عليه الفخر الرازي ؛ لأنَّه جعل مورد التقسيم - أي الرخصة والعزيمة - الفعل الذي يجوز للمكلَّف الإتيان به، بمعنى أنَّه لا يمتنع الإقدام عليه شرعاً..
وهذا يتناول الواجب والمندوب والمباح والمكروه، ولا يخرج عنه إلَّا المحظور[17].
ومنهم مَنْ قَصَرها على الأحكام التكليفيَّة: الفرض، والواجب، والمندوب، والمباح، والحرام، والمكروه.. وهو مَا عليه السمرقندي[18]، والبيضاوي[19]، واختاره ابن ملك[20]، والتفتازاني[21]، وابن السبكي[22]. وهو مَا أميل إليه وأرجحه.
------
[1] د. عمر بن محمد عمر عبد الرحمن: مُدرس الحديث وعلومه بجامعة الأزهر.
[2] المصباح المنير 1/223، 224 وانظر: مختار الصحاح /259 والتعريفات /122.
[3] الإحكام لِلآمدي 1/122.
[4] انظر الإبهاج 1/81، 82.
[5] رواه الإمام أحمد والبيهقي عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم -.
[6] انظر: مختار الصحاح /455، والمصباح المنير 2/408، والكليات /650، والمعجم الوجيز /417، 418 ، والإحكام لِلآمدي 1/122، وحقائق الأصول 1/181، 182.
[7] المستصفى 1/98.
[8] الإحكام لِلآمدي 1/122.
[9] المستصفى 1/98.
[10] الإحكام لِلآمدي 1/122.
[11] مختصر المنتهى مع بيان المختصر 1/412.
[12] المستصفى 1/98.
[13] الإحكام لِلآمدي 1/122.
[14] مختصر المنتهى مع بيان المختصر 1/412.
[15] شرح تنقيح الفصول /85.
[16] انظر: تيسير التحرير 2/229 وشرح ابن ملك /195 والتقرير والتحبير 2/148، 149 والتوضيح مع التلويح 2/265 وأصول السرخسي 1/117 وغاية الوصول /232 ـ 234.
[17] انظر: المحصول 1/29 وحقائق الوصول 1/178.
[18] ميزان الأصول /55.
[19] انظر منهاج الوصول مع حقائق الأصول 1/175 - 178.
[20] شرح ابن ملك /195.
[21] التلويح مع التوضيح 2/266.
[22] انظر: جمع الجوامع مع البناني 1/124 وغاية الوصول /232 - 234.
التعليقات