فن التعامل مع الناس (إن منكم منفرين)

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2023-05-13 - 1444/10/23
التصنيفات:

 

 

موقع الراشدون

 

التَّنْفِير هو أن تَلْقَى النَّاس أو تعاملهم بالغِلْظَة والشِّدَّة ونحو ذلك؛ ممَّا يحمل على النُّفور مِن الإسلام .

 

مناسبة قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إن منكم منفرين”

 

عن أبي مسعود الأنصاري قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنِّي والله لأتأخَّر عن صلاة الغداة مِن أجل فلان ممَّا يطيل بنا فيها، قال: فما رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قطُّ أشدَّ غضبًا في موعظة منه يومئذ، ثمَّ قال: يا أيُّها النَّاس، إنَّ منكم مُنَفِّرِين؛ فأيُّكم ما صلَّى بالنَّاس فليوجز، فإنَّ فيهم الكبير والضَّعيف وذا الحاجة)

 

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة فبلغ ذلك معاذاً فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلّى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوّزت فزعم أني منافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ – قالها ثلاثاً -، اقرأ {والشمس وضحاها} و { سبّح اسم ربك الأعلى } . ونحوها) متفق عليه واللفظ للبخاري .

 

نواضحنا: جمع ناضح وهو البعير الذي يستعمل في سقي الزروع.

 

وفي رواية أخرى: ( فلولا صليت بسبح اسم ربك والشمس وضحاها والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة) .

 

وفي رواية مسلم : ” فانحرف (أي انفرد في صلاته) رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف”.

 

معاذ بن جبل من أفقه الصحابة وأعلمهم بالحلال والحرام ، وأحد النفر الستّة الذين جمعوا القرآن الكريم في العهد النبوي، كان يصلّي مع النبي –صلى الله عليه وسلم- صلاة الفريضة، ثم ينطلق مسرعاً إلى مسجدٍ في نواحي المدينة ليصلّي بهم تلك الصلاة إماماً، غير مبالٍ بمشقّة الذهاب والإياب كلّ يوم.

 

 وفي إحدى الليالي وبعد أن فرغ رضي الله عنه من صلاته مع النبي –صلى الله عليه وسلم-، انطلق إلى المسجد الآخر كعادته ليؤم المسلمين، وشرع في قراءة سورة البقرة، واستطرد في قراءتها، وفي القوم رجلٌ من المسلمين الذين يكدّون طوال اليوم بالأعمال الحِرَفيّة الشاقة، والتي تتطلّب منهم جهداً ووقتاً؛ ولذلك استثقل الرجل طول الصلاة ، فانفرد الرجل فأتمّ الصلاة لوحده ثم انصرف.

 

ويصل الخبر إلى إمام القوم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن أحد المصلّين ترك الصلاة خلفه فأنكر فعله؛ فمثل هذه التصرّفات مشهورةٌ عن المنافقين ؛ ولذلك لم يتردّد معاذ رضي الله عنه في الحكم على الرجل بأنه من المنافقين.

 

ويُصدم الرجل بمقولة معاذ رضي الله عنه، فانطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُخبره بما دار، ويعتذر مما صنع، محتجّاً بما يتطلّبه العمل في الزراعة من أوقات كثيرة لا يمكن معها الاسترسال في الصلاة والتطويل فيها، فلماذا إذن يصدر عليه معاذ ذلك الحكم الجائر بالنفاق؟!.

 

ولا تسل عن غضب النبي –صلى الله عليه وسلم- واستيائه من موقف معاذ ، والذي يُنبئ عن التسرّع في الحكم، وعدم تقدير ظروف الآخرين، فيُعاتبه لذلك أشدّ عتاب: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ – قالها ثلاثاً -) ثم يوجّهه إلى قراءة السور القصار كالشمس والليل والأعلى ونحوها مما يتناسب مع كبار السنّ والضعفة من المسلمين وأصحاب الحاجات، وكان الجواب العمليّ لمعاذ رضي الله عنه السمع والطاعة، وسرعة الرجوع إلى الحق والتزامه، وهذا هو شأن النفوس الكريمة، فرضي الله عن ذلك الجيل العظيم.

 

ومعنى الفتنة هاهنا أن التطويل يكون سببا لخروجهم من الصلاة استثقالا للصلاة في الجماعة ، وروى البيهقي في الشعب بإسناد صحيح عن عمر قال لا تبغضوا إلى الله عباده يكون أحدكم إماما فيطول على القوم الصلاة حتى يبغض إليهم ما هم فيه .

 

مبدأ النبي مراعاة الأعذار :

الكثير منا بحسن نية وبدافع حب الخير والعمل الصالح ينفر الناس من حب الله ومن طاعته ؛ فنصحنا رسول الله في شخص معاذ أن نراعي أحوال الناس ومراعاة أعذارهم ، وللأسف البعض منا لا يفهم هذا التوجيه النبوي فيتهمك بضعف الإيمان ورقة الدين في قلبك ، وربما وصل به إلى اتهامك بالبدعة ….. لكن النبي يعلمنا أمر هاما ألا وهو التأكيد على ضرورة أن يعلم الإمام أحوال المأمومين خلفه وأن يراعيها؛ فالناس ليسوا على شاكلة واحدة، والمجتمعات تختلف، والظروف تتباين، فقد يقع المسجد في وسط السوق أو قرب المصانع أو بجانب المزارع والحقول فيتوجّه حينها قصر الصلاة وعدم تطويلها، وقد يكون في موطن يغلب فيه طلّاب العلم وأصحاب العبادة فيمكن حينها للإمام أن يزيد من مقدار صلاته.

 

فالحاصل أن الإمام يوازن بين مقدار قراءته وبين طبيعة المصلّين خلفه ونشاطهم، وبإدراك هذه القضيّة نستطيع أن نفهم التفاوت المذكور في مقدار قراءات النبي – صلى الله عليه وسلم- في صلاته الواردة في كتب السنة، فلربما قرأ في المغرب بالطور، ولربما قرأ فيها بالمعوذتين، وكم بين الطور وبين المعوذتين من تفاوت.

 

ومما ينبغي للأئمة التنبّه له: أن كثرة المصلين مظنّة وجود ذوي الأعذار، ومتى ما تبيّن له وجود ذوي الأعذار خلفه –ولو بعد الشروع في الصلاة- فعليه أن يُخفّف من صلاته، ولقد كان من هدي نبيّنا –صلى الله عليه وسلّم- أنه كان يدخل الصلاة وينوي الإطالة، فيسمع بكاء الأطفال فيخفّف لأجل ذلك من صلاته رحمةً بأمّهاتهم.

 

عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه ” رواه البخاري

 

 

وفي قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ ) نهيٌ عن كل ما يُنفّر عن الدين ويصد عن سبيله أو يوقع الناس في الفتنة سواءٌ أكان بالقول أم بالفعل، وقلّ ما يتنبّه الدعاة لهذه اللفتة النبويّة خصوصاً عند التعامل مع المهتدين الجدد.

 

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لبلال “أرحنا بها يا بلال “أي بالصلاة ولم يقل له عذبنا بها !!!

 

وعن أبي موسى الأشعري أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذًا إلى اليمن فقال: (يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنَفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا)

 

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا)

 

عن أَبِي بُرَيْدَةَ قال  ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا) رواه الترمذي

 

وكان الحسن يركب على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل بين رجليه فعن عبد الله بن الزبير: ” قد رأيت الحسن بن على يأتى النبى صلى الله عليه وسلم و هو ساجد فيركب ظهره فما ينزله حتى يكون هو الذى ينزل ، و يأتى و هو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر”

 

 ويطيل الصلاة أحياناً لأن أحد ولديه على ظهره كراهة أن يعجله حتى يقضي حاجته ؛ فعنعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ وَهُوَ حَامِلُ حَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا قَالَ إِنِّي رَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ فِي سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَيْ الصَّلَاةِ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ قَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي( ركب فوق ظهري) فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَه)

 

وهنالك صور للتنفير أخرى غير الإطالة في صلاة الجماعة منها :

 

2- التنفير بالتشدد والغلو

 

الحق دائما لا يكون مع التشدد بترك الأخذ بالأيسر والأخذ بالأحوط وترك الرخص يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدِّين يُسْرٌ، ولن يُشَادَّ الدِّين أحدٌ إلَّا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا) وسلوك الغُلَاة مِن الغلظة والجفوة، وأسلوبهم مِن التَّشدُّد والتَّعْسِير؛ كلُّ ذلك ينفِّر النَّاس مِن الاستجابة للدَّعوة، ويصدُّهم عنها ، والأخذ بالعزيمة والحمل على الأخذ بها، والإعراض عن الرخص التي شرع الله الأخذ بها مما يوقع الناس في المشقة، مع أنَّ الله -تبارك وتعالى- يحبُّ أن تُؤتى رُخَصه كما يحبُّ أن تُؤتى عزائمه ، وهذا السلوك يجعل الناس ينفرون مِن صراط الله المستقيم .

 

هم يزيّنون أقوالهم وممارساتهم، بكثير من النصوص، ولكن ليس وفق معانيها الأصلية إذا كانت ثابتة الدلالة، أو وفق ما فهمه الجمهور من العلماء من أهل الذكر قديما وحديثا إذا كانت ظنيّة الدلالة، إنّما يزيّنون ما يرونه بتأويلات مَن خالف بتأويله النصوص أو شذّ عن الجمهور، ولم يأبه بروح الإسلام ، ولا بقواعد الاستنباط التشريعية، ولا بقواعد تفسير النصوص وشرحها.

 

ومن أسوأ ما نشرته ظاهرة التشدّد والتنطّع الزعم القائل إنّ “التحريم” هو “الأحوط” والأقرب إلى الصواب، فباتت كثرة التحريم مقترنة عندهم بأن يُعتبر المسلم أتقى وأورع بمقدار ما يحرّم على نفسه أكثر من سواه، فكأنّه هو الأشدّ إسلاما من سواه!..

وأخطر من ذلك ادّعاء المتشدّدين المتنطّعين أنّهم يعودون بذلك إلى “الإسلام الصحيح”!..

 

إنّ الإسلام الصحيح هو الذي يقول: لا حرج في الدين، إنّ مع العسر يسرا، بشّروا ولا تنفّروا، يسّروا ولا تعسّروا، ما شادّ الدينَ أحدٌ إلاّ غلبه، هلك المتنطّعون، ما جعل عليكم في الدين من حرج، رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه، إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ تؤتى عزائمه.

 

والإسلام الصحيح هو الانطلاق من النصوص البيّنة الظاهرة، وما أجمع عليه الجمهور، وهو ما يجعل الإسلام محبّبا إلى النفوس، ميسّرا في التطبيق، مريحا في العبادة، هيّنا في المعاملة، البسمةُ فيه صدقة، والكلمة فيه حسنة، والمعشر فيه طيّب، والمظهر فيه جميل، يفتح أبواب الجنّة لمن يريد الاكتفاء بالفرائض، ولا يفرض النوافل إلاّ على مَن يلزم بها نفسَه بنفسه، وخير له فيها أن يخلو بأدائها بينه وبين ربّه.

 

الإسلام الصحيح هو الإسلام الذي أنزله الله تعالى على قلب محمّد صلّى الله عليه وسلّم فانتشر دينا محبّبا إلى النفوس، وليس هو ذاك الذي بات عن طريق الغلاة المتنطّعين المتشدّدين سببا من أسباب تخويف المسلمين منه، وتنفير سواهم عنه، وذريعة يستغلّها من يشكّكون في صلاحيّته لكلّ زمان ومكان. 

 

عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “هلك المتنطعون ” قالها ثلاثاً. “رواه مسلم، ونسبه السيوطي إلى أحمد وأبي داود أيضا ً.

ومعنى المتنطعون أي المتعمقون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.

 

3- ومن صور التنفير الزام الناس بمذهب معين والإنكار على من خالفه: 

ليس من الإنصاف أن نتهم إنساناً بالتطرف في دينه لمجرد أنه اختار رأياً من الآراء الفقهية ، ما دام يعتقد أنه الأصوب والأرجح، ويرى أنه ملزم به شرعاً، ومحاسب عليه ديناً، وإن كان غيره يرى رأيه مرجوحاً أو ضعيفاً، لأنه ليس مسؤولاً إلاّ عما يراه ويعتقده هو.

 

ويكفي المسلم في هذا المقام أن يستند رأيه الذي تبناه إلى مذهب من المذاهب المعتبرة عند المسلمين، أو يعتمد على اجتهاد صحيح قائم على استدلال شرعي سليم؛ ومن هنا لا نستطيع أن ننكر على مسلم، أو نتهمه بالتطرف، لمجرد أنه شدد على نفسه، وأخذ من الآراء الفقهية بما يراه أرضى لربه، وأسلم لدينه، وأحوط لآخرته.

 

وليس من حقنا أن نجبره على التنازل عن رأيه ونطالبه بسلوك يخالف معتقده. كل ما نملكه أن ندعوه بالحكمة، ونحاوره بالحسنى، ونقنعه بالدليل، عسى أن يدخل فيما نراه أهدى سبيلاً، وأقوم قيلاً.

 

وقد يقبل من المسلم أن يشدد على نفسه، ويعمل بالعزائم، ويدع الرخص والتيسيرات في الدين، ولكن الذي لا يقبل منه بحال أن يلزم بذلك جمهور الناس، وإن جلب عليهم الحرج في دينهم، والعنت في دنياهم، مع أن أبرز أوصاف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في كتب الأقدمين، أنه (يُحِلّ لهم الطيبات ويُحرِّم عليهم الخبائث ويَضعُ عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) الأعراف:156.

 

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى لنفسه، حتى إنه كان يقوم بالليل فيطيل القيام حتى تتفطر أو تتورم قدماه عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان أخف الناس صلاة إذا صلى بالناس، مراعياً ظروفهم وتفاوتهم في الاحتمال، وقال: “إذا صلى أحدكم بالنّاس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما يشاء ” رواه البخاري 

 

ومن التشديد على الناس محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض، وعلى المكروهات كأنها محرمات، والمفروض ألاّ نلزم الناس إلاّ بما ألزمهم الله تعالى به جزماً، وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه، إن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا تركوا.

 

وحسبنا هنا حديث طلحة بن عبيد الله في الصحيح، في قصة ذلك الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عما عليه من فرائض، فأخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة ، وبصوم رمضان، فقال: هل عليّ غيرها ؟ فقال لا، إلاّ أن تطوع، فلما أدبر الرجل قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق “.

 

4- ومن صور التنفير : التشديد في غير مكانه وزمانه:

 

 كأن يكون في غير دار الإسلام وبلاده الأصلية، أو مع قوم حديثي عهد بإسلام، أو حديثي عهد بتوبة.

 

فهؤلاء ينبغي التركيز معهم على الكليات قبل الجزئيات، والأصول قبل الفروع، وتصحيح عقائدهم أولاً، فإذا اطمأن إليها دعاهم إلى أركان الإسلام، ثم إلى شعب الإيمان، ثم إلى مقامات الإحسان.

 

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: “إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم… “الحديث متفق عليه.

 

فانظر كيف أمره أن يتدرج في دعوتهم، فيبدأ بالأساس، وهو الشهادتين : الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ثم إذا استجابوا دعاهم إلى الركن الثاني، وهو الصلاة، فإن أطاعوا انتقل إلى الركن الثالث، وهو الزكاة… وهكذا.

 

5- ومن صور التنفير : الغلظة في التعامل، والخشونة في الأسلوب :

 

 خلافاً لهداية الله تعالى، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فالله تعالى يأمرنا أن ندعو إلى الله بالحكمة لا بالحماقة، وبالموعظة الحسنة، لا بالعبارة الخشنة، وأن نجادل بالتي هي أحسن (ادْع إلى سبيلِ ربِّك بالحكمة والموعِظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) النحل:125.

ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: “لقدْ جاءكُمْ رسولٌ منْ أنفسِكم عزيزٌ عليه ما عنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمِنين رؤوفٌ رحيم “التوبة:128 

 

وخاطب رسوله مبيناً علاقته بأصحابه: (فَبِما رحمةٍ مِنَ الله لِنْت لهمْ ولوْ كُنْت فظًّا غلِيظ القلْبِ لانْفضُّوا مِنْ حولك ) آل عمران: 159.

في مجال الدعوة، لا مكان للعنف والخشونة، وفي الحديث الصحيح: “إن الله يحب الرفق في الأمر كله “، وقال صلى الله عليه وسلم : “ما دخل الرفق في شيء إلاّ زانه، ولا دخل العنف في شيءٍ إلاّ شانه “.

 

وفي الأثر: “من أمر بمعروف، فليكن أمره بمعروف “

 

ولا شيء يشينه العنف إذا دخله، مثل الدعوة إلى الله، فإنها تحاول أن تدخل إلى أعماق الإنسان، لتجعل منه شخصاً ربانياً في مفاهيمه ومشاعره وسلوكه، وتبدل كيانه كله وتنشئ منه خلقاً آخر، فكراً وشعوراً وإرادة، كما أنها تهز كيان الجماعة هزاً، لتغير عقائدها المتوارثة، وتقاليدها الراسخة، وأخلاقها المتعارفة، وأنظمتها السائدة. .

 

وهذا كله لا يمكن أن يتم إلاّ بالحكمة ، والمعرفة بطبيعة الإنسان وعناده، وجموده على القديم، وأنه أكثر شيء جدلاً، فلابد من الترفق في الدخول إلى عقله، والتسلل إلى قلبه، حتى نلين من شدته.

 

وهذا ما قصه علينا القرآن من مسالك الأنبياء والدعاة إلى الله من المؤمنين الصادقين، كما نرى في دعوة إبراهيم لأبيه وقومه، ودعوة شعيب لقومه، ودعوة موسى لفرعون ، وغيرهم من دعاة الحق والخير.

وحسبنا وصية الله تعالى للرسولين الكريمين موسى وهارون: (اذهبا إلى فِرعون إنَّه طغى فقولا له قولاً ليِّناً لعلّه يتذكّرُ أو يخشى ) طه:43-44.

 

أما طريقة بعض الشباب المخلصين التي يتعاملون بها مع الناس في السلوك، أو يتحاورون بها مع المخالفين في الفكر، فقد غلب عليها المخاطبة بالخشونة والشدة، والمواجهة بالغلظة والحدة، ولم يعد جدالهم لمعارضيهم بالتي هي أحسن، بل بالتي هي أخشن، ولم يفرقوا في ذلك بين الكبير والصغير.. ولم يميزوا بين من له حرمة خاصة كالأب والأم، ومن ليس كذلك.. ولا بين من له حق التوقير والتكريم كالعالم الفقيه، والمعلم المربي، ومن ليس كذلك، ولا بين من له سابقة في الدعوة والجهاد، ومن لا سابقة له.. ولم يفصلوا بين من له عذره إلى حد ما -كالعوام والأميين والمخدوعين – من الجماهير المشغولة بمعاشها ومتاعبها اليومية، ومن لا عذر له، ممن يقاوم الإسلام عن حقد، أو عمالة وخيانة، ويقتحم النار على بصيرة، وقد حدث بأحد مساجد مصر أن رجلا كبيرا في السن بعد انتهاء الصلاة قال لأحد الشباب (على عادة المصريين ) حرما فلم يمد الشاب يده وإنما نظر له بتجهم وقال : “برما ” فقال له يعني ايه برما ياابني ؟

 

فقال الشاب بحدة : أصل حرما لم ترد ؛ فقال الرجل وكله ضيق يعني قلة الأدب هي التي وردت !!!!

 

6- ومن صور التنفير :ســـــوء الظــن بالنـــاس

والله تعالى يقول: (يا أيّها الذين آمنوا اجتنِبوا كثيراً مِن الظنِّ إنَّ بعْض الظنِّ إثمٌ ) [الحجرات:12 ]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إيّاكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ” متفق عليه.

 

سوء الظن بالآخرين، والنظر إليهم من خلال منظار أسود، يخفي حسناتهم، على حين يضخم سيئاتهم. فالأصل هو الاتهام، والأصل في الاتهام الإدانة، خلافاً لما تقرره الشرائع والقوانين: إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

 

تجد المنفرين دائماً يسارعون إلى سوء الظن والاتهام لأدنى سبب، فلا يلتمسون المعاذير للآخرين، بل يفتشون عن العيوب، والأخطاء، ليضربوا بها الطبل، ويجعلوا من الخطأ خطيئة، ومن الخطيئة كفراً!!

 

وقد كان بعض السلف يقول: إنّي لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين ثم أقول: لعلّ له عذراً آخر لا أعرفه!

 

من خالف هؤلاء في رأي أو سلوك – تبعاً لوجهة نظر عنده – اتهم في دينه بالمعصية أو الابتداع أو احتقار السنة، أو ما شاء لهم سوء الظن.

 

فإذا أفتى فقيه بفتوى فيها تيسير على خلق الله، ورفع الحرج عنهم، فهو في نظرهم متهاون بالدين.

 

وإذا عرض داعية الإسلام عرضاً يلائم ذوق العصر، متكلماً بلسان أهل زمانه ليبين لهم، فهو متهم بالهزيمة النفسية أمام الغرب وحضارة الغرب.. وهكذا.

 

وحسبنا في التحذير من هذا الاتجاه، الحديث النبوي الصحيح: إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهلكهم. رواه مسلم.

 

جاءت الرواية بفتح الكاف “فهو أهْلكهم ” على أنه فعل ماض، أي: كان سبباً في هلاكهم باستعلائه عليهم وسوء ظنه بهم، وتيئيسهم من روح الله تعالى.

 

وجاءت بضم الكاف أيضاً؟ “فهو أهلكهم ” أي أشدهم وأسرعهم هلاكاً، بغروره وإعجابه بنفسه، واتهامه لهم.

 

 

 

7- ومن صور التنفير :التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر:

 

في الأمور الاجتهادية والأمور المحتملة ، وكثيرا ما يجعل الأمور الاجتهادية أمورا مقطوعة ويقينية ليس فيها الا قول واحد وهو قوله ، ويزداد الأمر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالعصا الغليظة ،  بالاتهام بالابتداع أو بالاستهتار بالدين أو بالكفر والمروق ، إن هذا الارهاب الفكري اشد تخويفا وتهديدا من الارهاب الحسي .

 

والله تعالى يقول : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وعائشة رضى الله عنها تقول : ( ماخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين الا اختار أيسرهما ما لم يكن أثما )

 

8- ومن صور التنفير : إبراز العيوب والسلبيات وكثرة النقد :

 

فالناس يكرهون الإنسان الذي ينظر إلى عيوبهم ويترك الحسنات، بل وأحياناً ينساها. 

 فما أحد يسلم من العيوب فلا توجد زوجة بلا عيوب، ولا صديق بلا عيوب، ولا رئيس ولا مرؤوس بلا عيوب .

 

مثلاً علاقة المرأة المسلمة بزوجها ، والتي يمكن أن يعمم مغزاها في كل قضايا التعامل ؛ يقول صلى الله عليه وسلم: “لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر” رواه مسلم .

 

يقول سعيد بن المسيب: ” ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا فيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه ، فمن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله، ولا تذكر عيوب أهل الفضل تقديراً لهم.

وقد نكره أشياء في بعض الناس، ولكن عندما نفتقدهم ونخالط من هم أسوأ منهم ندرك الخير الذي كان فيهم ولم نعبأ به.

والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا المثل فيُذَكِّر بفضل الأنصار؛ لأن البشر بطبعهم ينسون الحسنات، فقد أخرج البخاري قوله عليه الصلاة والسلام: “أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي (يعني: بطانتي وخاصتي) فقد قضوا الذي عليهم (يقصد أنهم وفوا بما تعهدوا به في بيعة العقبة) وبقي الذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم” رواه البخاري

إن هذا قمة الإنسانية والعدل.

 

والتعالي في النصح يُشعر بالتوبيخ والتأنيب أكثر مما يظهر النصح، وقد قيل لبعض السلف: “أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك؟ “، فقال: “إن كان يريد أن يوبخني فلا“.

 

والنبي عليه الصلاة والسلام ، أثناء دعوته كان يمر بالقبائل ؛ يمر ببني أسد ،يمر ببني سلمة ، يمر ببني النجار ، مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبيلة إسمهم بنو عبد الله , فوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم وقال : يابني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم فأسلموا.

 

بحث عن شيء حسن يثني به عليهم فوجد ذلك في اسمهم فاستعمله في الثناء عليهم .

 

وكذلك سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن خالدين الوليد وكان -رضي الله عنه- ممن فروا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء يعتمر، فخرج خالد من مكة وقال لا أتحمل أن أرى المسلمين يطوفون بالكعبة !!

 

سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن خالدا ابتعد عن مكة لما علم أن المسلمين قادمون . فقال -صلى الله عليه وسلم- كلمة كانت هي السبب في أن خالدا دخل الإسلام .قال -صلى الله عليه وسلم- “إن خالدا رجل عاقل  كيف يفوته الإسلام ؟ أما والله لوجاءنا لأكرمناه”  .

 

أنظر إلى هذه العبارة وهذا المدح !!! مباشرة حمل الناس هذا الكلام  حتى وصل إلى خالد ، وكان أخو خالد من المسلمين .. أول ماسمع هذه الكلمة أخذ صحيفة وكتبها …. قال: ياخالد ، ترى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول :إن خالد رجل عاقل ، كيف يفوته الإسلام . لو جاءنا لأكرمناه .

 

وصل الكتاب إلى خالد -رضي الله عنه- . أقبل بالكتاب حتى دخل المدينة على النبي -صلى الله عليه وسلم- .فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- قادما من بعيد ، تبسم في وجهه حتى أقبل إليه ، ثم دخل في الإسلام .

 

وأول ما جلس قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : الحمد لله الذي هداك ، قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير ، ثم أسلم -رضي الله عنه- وكان له ما كان في الإسلام .

 

9- ومن صور التنفير : تقنيط النَّاس مِن رحمة الله -تبارك وتعالى-، وتيئيسهم مِن التَّوبة :

 

في مواقف كثيرة قد يزدري المرء من يراه ، ويظن نفسه خيرا منه عند الله منزلة ، وأعظم مكانة ، وربما أعلنت جهارا ، أو أسررت إسرارا: أنهم لن ينالهم الله برحمة ، مثلما قال الواعظ للذي نصحه مرارا فلم يقبل النصح ورد على التعنيف قائلا إليك عني لست علي بوكيل ، فقال الواعظ: والله لا يغفر الله لفلان. وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك. .

 

وقد ترجم مسلم في صحيحه لهذا الحديث فقال: باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى ، وأخرج غير واحد من أئمة الحديث ، منهم الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه، من رواية أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : ( أُتي النبي – صلى الله عليه وسلم- برجل قد شرب ، قال : اضربوه . قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله . فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا ، لا تعينوا عليه الشيطان )، وفي لفظ آخر من حديث أبي هريرة : (… قال رجل : ماله أخزاه الله ! فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-:” لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) وفي رواية: (فقال رجل من القوم : اللهم العنه ، ما أكثر ما يؤتى به ! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- : ( لا تلعنوه ، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله).

 

وأخرج الإمام مالك في موطئه على لسان عيسى بن مريم أنه قال لمن حوله: لا تنظروا في أعمال الناس كأنكم أرباب بل انظروا في أعمالكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى ، فاحمدوا الله على العافية ، وارحموا أهل البلاء.

 

ومرأبو الدرداء بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته.

 

ويسجل القرآن موقفا عجيبا يوم القيامة حينما يشاهد بعض أهل الموقف أشخاصا كانوا يظنونهم أقرب إلى النار والخذلان ، وأنهم ليسوا أهلا للرحمة والإحسان ، فيدخلهم الله الجنة ، ويقول مبكتا لمن زكى نفسه وازدرى غيره: (أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). 

 

وكأن الآية تخاطب بعضنا حين يزكي نفسه ويزدري غيره ويظن أنه أقرب إلى الله تعالى منه ، بل يكاد يقسم: أن الله لن ينال ذلك العاصي برحمة ويخشى على أولئك حينئذ من هذه الآية: (أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

 

ولو تأملنا كتاب الله عز وجل لذهب ما في نفوس أكثرنا من ذلك ولرحم بعضنا بعضا ولم يزدره فربنا يقول: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه}  (فاطر : 32) .

 

أي : ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم ، المصدق لما بين يديه من الكتب ، الذين اصطفينا من عبادنا ، ثلاثة أنواع : (فمنهم ظالم لنفسه) وهو : المفرط في فعل بعض الواجبات ، المرتكب لبعض المحرمات .

 

( ومنهم مقتصد) وهو: المؤدي للواجبات ، التارك للمحرمات ، وقد يترك بعض المستحبات ، ويفعل بعض المكروهات . ( ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) وهو: الفاعل للواجبات والمستحبات ، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات. عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية ” هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة. ومعنى ذلك إن صح كما قال ابن كثير: أنهم من هذه الأمة ، وأنهم من أهل الجنة ، وإن كان بينهم فرق في المنازل فيها الجنة.

 

 

 

يقول الإمام الغزالي في كتابه (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) ” وحظ العبد من اسم (الرحمن) أن يرحم عباد الله الغافلين، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله بالوعظ والنصح بطريق اللطف دون العنف، وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة، لا بعين الإيذاء، وأن يرى كل معصية تجري في العالم كمعصية له في نفسه، فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه؛ رحمة لذلك العاصي من أن يتعرض لسخط الله تعالى، أو يستحق البعد عن جواره.

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life