عناصر الخطبة
1/ سرعة استجابة الصحابة لرسول الله 2/نبي الله ذو النون وخبره 3/قوم يونس يتضرعون إلى الله 4/يونس عليه السلام يفارق قومه 5/تضرع يونس في ظلمات البحر 6/نجاة يونس وإرساله إلى قومه 7/فضل التسبيح وأسرارهاهداف الخطبة
اقتباس
ثم غاصَ به في قاعِ البحرِ فلما اجتمعتْ عليه الظلماتُ - ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ- قالَ كما وصفَه اللهُ -تعالى-: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87], فَسَمِعَه الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى، وَيَكْشِفُ الضُّرَّ وَالْبَلْوَى, سَامِعُ الْأَصْوَاتِ وَإِنْ ضَعُفَتْ، وَعَالِمُ الْخِفْيَاتِ وَإِنْ دَقَّتْ، وَمُجِيبُ الدَّعَوَاتِ وَإِنْ عَظُمَتْ, فقالَ...
الخطبة الأولى:
الحمْدُ لِله رَبِّ العَالمِيْنَ، الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّمَواتِ وما في الأرْضِ ولَهُ الحمْدُ في الآخِرَةِ وهُوَ الحَكِيْمُ الخبِيْرُ، اللَّهُمَّ لكَ الحمدُ أنتَ نُورُ السمواتِ والأرضِ ومَنْ فيهِنَّ، ولكَ الحَمْدُ أنتَ قيِّمُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهنَّ، ولكَ الحَمْدُ أنتَ مَلِكُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهنَّ، ولك الحمدُ أنت الحقُّ، ووعدُكَ حقٌّ، وقولُكَ حقٌّ، ولقاؤكَ حَقٌّ، والجَنَّةُ حقٌّ، والنَّارُ حقٌّ، والسَّاعةُ حقٌّ، اللهَّمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29].
لقد سمعنا كثيراً, وقرأنا كثيراً عن استجابةِ الصحابةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- لِما يسمعونَه من النبيِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-, حتى أصبحَ واضحاً لكلِ مسلمٍ أن تلكَ المكانةَ التي بلغوها بسببِ أنهم قومٌ إذا سَمِعوا أنصَتوا, وإذا عَلِموا عَمِلوا, لذلكَ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ -عُثْمَانُ بْنُ عفانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- أَنَّهُمْ قَالُوا: "كُنَّا إذَا تَعَلَّمْنَا مِنْ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عَشْرَ آيَاتٍ، لَمْ نُجَاوِزْهَا حَتَّى نَتَعَلَّمَ مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ"، قَالُوا: "فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا", ولكن الأعجبَ من ذلك, هو ما قد يُصيبُ أحدُهم لو فاتَه شيءٌ من العلمِ عن رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-, واسمعوا معي لهذِه القصةِ:
عَن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: "مَرَرْتُ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَمَلأ عَيْنَيْهِ مِنِّي ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلامَ، فَأَتَيْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ حَدَثَ فِي الْإِسْلامِ شَيْءٌ؟ مَرَّتَيْنِ قَالَ: لَا, وَمَا ذَاكَ؟، قَالَ: قُلْتُ: لَا, إِلا أَنِّي مَرَرْتُ بِعُثْمَانَ آنِفًا فِي الْمَسْجِدِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَمَلأ عَيْنَيْهِ مِنِّي، ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلامَ، قَالَ: فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى عُثْمَانَ فَدَعَاهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَكُونَ رَدَدْتَ عَلَى أَخِيكَ السَّلامَ؟، قَالَ عُثْمَانُ: مَا فَعَلْتُ, قَالَ سَعْدٌ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: حَتَّى حَلَفَ وَحَلَفْتُ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ ذَكَرَ، فَقَالَ: بَلَى، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ إِنَّكَ مَرَرْتَ بِي آنِفًا، وَأَنَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، لَا وَاللهِ مَا ذَكَرْتُهَا قَطُّ إِلا تَغَشَّى بَصَرِي وَقَلْبِي غِشَاوَةٌ, قَالَ سَعْدٌ: فَأَنَا أُنْبِئُكَ بِهَا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ذَكَرَ لَنَا أَوَّلَ دَعْوَةٍ".
وكانَ قد قالَ لهم: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ أَوْ أُحَدِّثُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرْبٌ أَوْ بَلاَءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا دَعَا بِهِ فَفَرَّجَ عَنْهُ؟" فقَالُوا : بَلَى, ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَشَغَلَهُ حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَاتَّبَعْتُهُ فَلَمَّا أَشْفَقْتُ أَنْ يَسْبِقَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ، ضَرَبْتُ بِقَدَمِي الْأَرْضَ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: فَقَالَ: "مَنْ هَذَا, أَبُو إِسْحَاقَ؟"، قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ, قَالَ: "فَمَهْ"–أي ماذا؟-, قُلْتُ: لَا وَاللهِ، إِلا أَنَّكَ ذَكَرْتَ لَنَا أَوَّلَ دَعْوَةٍ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ فَشَغَلَكَ، قَالَ: "نَعَمْ، دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلا اسْتَجَابَ لَهُ".
فهل رأيتُم كيف يغيبُ عثمانُ -رضيَ اللهُ عنه- عن الشعورِ إذا تذّكرَ حديثاً واحداً شُغِلَ النبيُ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عن إكمالِه ولم يسألْه عنه حتى ماتَ, وكانَ يعتقدُ أن هذا الدعاءَ المُباركَ وما فيه من الفضلِ قد فاتَ الأمةَ ولم يسمعْه أحدٌ من رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-, حتى جاءَته البُشارةُ من سعدِ بنِ أبي وقاصٍ -رضيَ اللهُ عنه- بأنَه يعلمُ ذلك الدعاءَ, ولكم أن تتصوروا فرحةَ عثمانَ بالخبرِ والذي ظنَّ أنه قد دُفنَ مع النبيِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-, ولكن من هو ذو النونِ وماذا كانَ من خبرِه؟.
ذو النونِ هو نبيُ اللهِ يونسُ -عليه السلامُ- بَعَثَهُ اللَّهُ تعالى إِلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَكَذَّبُوهُ وَتَمَرَّدُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَنْ أَمْرِهُمْ، خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهَرِهِمْ، وَوَعَدَهُمْ حُلُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ.
قالَ كثيرٌ من العلماءِ: فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ وَتَحَقَّقُوا نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَى نَبِيِّهِمْ، فَلَبِسُوا الْمُسُوحَ -لباساً غليظاً من الشَعْرِ-، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ بَهِيمَةٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوَا إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَصَرَخُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَتَمَسْكَنُوا لَدَيْهِ، وَبَكَى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَالْأُمَّهَاتُ والأبْنَاءُ، وَجَأَرَتِ الْأَنْعَامُ وَالدَّوَابُّ وَالْمَوَاشِي، وَرَغَتِ الْإِبِلُ وَفُصْلَانُهَا، وَخَارَتِ الْبَقَرُ وَأَوْلَادُهَا، وَثَغَتِ الْغَنَمُ وَحُمْلَانُهَا.
وَكَانَتْ سَاعَةً عَظِيمَةً هَائِلَةً، فَكَشَفَ اللَّهُ الْعَظِيمُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي كَانَ قَدِ اتَّصَلَ بِهِمْ سَبَبُهُ، وَدَارَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) [يونس: 98] -أَيْ هَلَّا وُجِدَتْ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الْقُرُونِ قَرْيَةٌ آمَنَتْ بِكَمَالِهَا-, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ, (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس: 98], هذا ما كانَ من خبرِ قومِه.
وأما ما كانَ من خبرِ يونسَ -عليه السلامُ- فإنه ذَهَبَ غَاضِبًا بِسَبَبِ قَوْمِهِ كما قالَ تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ) [الأنبياء: 87] أي كانَ يعتقدُ أن اللهَ -تعالى- لن يُضيَّق عليه ويُعاقِبَه بسببِ خروجِه من البلادِ دونَ إذنٍ من اللهِ -تعالى-، ولذلك جاءَ التعبيرُ القرآني بقولِه تعالى (إِذْ أَبَقَ) أي هربَ من سَيِّدِه (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [الصافات: 140] فَرَكِبَ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ مَليئةً بالبَشَرِ والأمْتِعَةِ، فَلَجَّتْ بِهِمْ وَاضْطَرَبَتْ، وَمَاجَتْ بِهِمْ وَثَقُلَتْ بِمَا فِيهَا، وَكَادُوا يَغْرَقُونَ، فتَخَفَفوا من الأحْمَالِ حتى لم يبْقَ منها شيءٌ.
ثم اتفَقوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَقْتَرِعُوا، فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَوْهُ مِنَ السَّفِينَةِ، لِيَتَخَفَّفُوا مِنْهُ، فَلَمَّا اقْتَرَعُوا وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ يُونُسَ كما قالَ تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات: 141] أي من المَغْلوبينَ, فأُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ، وَبَعَثَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- حُوتًا عَظِيمًا (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) [الصافات: 142] أي وهو قد جاءَ بِما يُلامُ عليه.
ثم غاصَ به في قاعِ البحرِ فلما اجتمعتْ عليه الظلماتُ - ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ- قالَ كما وصفَه اللهُ -تعالى-: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87], فَسَمِعَه الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى، وَيَكْشِفُ الضُّرَّ وَالْبَلْوَى, سَامِعُ الْأَصْوَاتِ وَإِنْ ضَعُفَتْ، وَعَالِمُ الْخِفْيَاتِ وَإِنْ دَقَّتْ، وَمُجِيبُ الدَّعَوَاتِ وَإِنْ عَظُمَتْ, فقالَ سبحانَه: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ) [الأنبياء: 88], والبُشارةُ العظمى أن هذه الاستجابةَ ليست خاصةً بيونسَ -عليه السلامُ- بل هي عامةٌ للمؤمنينَ, (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88] أَيْ وَهَذَا صَنِيعُنَا بِكُلِّ مُؤْمِنٍ دَعَانَا وَاسْتَجَارَ بِنَا.
فَأَمَرَ اللَّهُ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ فِي الْعَرَاءِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْقَفْرُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْجَارِ كما قالَ تعالى: (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) [الصافات: 145، 146], ولما كان سَقِيماً ضَعِيفَ الْبَدَنِ كَهَيْئَةِ الصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ, أنْبَتَ اللهُ عليه شجرةَ القرعِ, قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: "فِي إِنْبَاتِ الْقَرْعِ عَلَيْهِ حِكَمٌ جَمَّةٌ، مِنْهَا أَنَّ وَرَقَهُ فِي غَايَةِ النُّعُومَةِ، وَكَثِيرٌ وَظَلِيلٌ، وَلَا يَقْرَبُهُ ذُبَابٌ، وَيُؤْكَلُ ثَمَرُهُ مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِهِ إِلَى آخِرِهِ، نِيئًا وَمَطْبُوخًا، وَبِقِشْرِهِ وَبِبِزْرِهِ، وَفِيهِ نَفْعٌ كَثِيرٌ، وَتَقْوِيَةٌ لِلدِّمَاغِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ المَنافِعِ".
ثُمَ أنعمَ اللهُ عليه بإرسالِه ثانيةً، ومَنَّ عليه بالدعوةِ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ-، كما قالَ تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [الصافات: 147، 148], ولمّا قد يقعُ في نفسِ بعضِ الناسِ مِن انتقاصِ يونسَ -عليه السلامُ- إذا قرأَ قصتَه في القرآنِ الكريمِ بأنَه لم يصبرْ على قومِه, قَالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى" أَيْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَضِّلَ نَفْسَهُ عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى, فأين يأتونَ بمثلِ فضلِ (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ الكريمِ، ونفعنَا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ, أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم وللمؤمنينَ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ المذكورِ بكلِ لسانٍ, المشكورِ على كلِ إحسانٍ, فهو ذو العرشِ العظيمِ, والخيرِ العميمِ, وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له, وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أرسلَه اللهُ -تعالى- بين يدي الساعةِ بشيراً ونذيراً, وداعياً إلى اللهِ بإذنِه وسراجاً منيراً, فصلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعد:
تأملوا معي -يا عبادَ اللهِ- في قولِه تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات: 143، 144] فولا أن يونسَ كانَ له تاريخٌ في الطاعاتِ, وتسبيحاتٌ مُبارَكاتٌ, لربِ الأرضِ والسماواتِ, لكانَ بطنُ الحوتِ له سِجناً إلى يومِ القيامةِ, فما أعظمَ التسبيحَ وهو تنزيهُ اللهِ عن كلِ عيبٍ وسوءٍ مع التعظيمِ والمحبةِ.
يا أهلَ الإيمانِ: إن كلمةَ (سبحانَ اللهِ), كلمةٌ على اللسانِ خفيفةٌ, ولكنَ لها عندَ اللهِ منزلةً شريفةً, كما قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلى اللِّسِانِ، ثَقِيلَتَانَ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلى الرَّحْمنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ", وإليكم بعضُ أسرارِها:
هي أحبُ الكلامِ إلى اللهِ -تعالى-, عَنْ أَبي ذَرٍّ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "أَلا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلامِ إِلى اللهِ؟"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْني بِأَحَبِّ الْكَلامِ إِلى اللهِ، فَقَالَ: "إِنَّ أَحَبَّ الْكَلامِ إِلى اللهِ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ".
وجميعُ المخلوقاتِ تشتركُ في هذه العبادةِ العظيمةِ, (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء: 44].
وإذا كنتَ تُريدُ أن تمسحَ ذنوبَ العُمُرِ, وتفتحُ صفحةً جديدةً مع ربِّكَ -عزَّ وجلَّ-, فالأمرُ يسيرٌ, قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللـهِ وَبِحَمْدِه فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ", وحافظْ عليها في الصباحِ وفي المساءِ لا يسبِقُكَ أحدٌ في الفضلِ, كما جاءَ في الحديثِ: "مَنْ قالَ حينَ يُصبحُ وحينَ يُمسي سبُحانَ الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ؛ لم يأتِ أحدٌ يومَ القِيامةِ بأفضلَ ممَّا جاءَ بهِ, إلا أحدٌ قالَ مثلَ ما قالَ أو زادَ عليهِ".
ولقد جاءَ في أجرِ المائةِ تسبيحةٍ قولُه -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟، فَسَألَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أحَدُنَا ألْفَ حَسَنَةٍ؟" قَالَ: "يُسَبِّحُ مِئَةَ تَسْبِيْحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أوْ يُحَطُّ عَنْهُ ألْفُ خَطِيْئَةٍ". وإذا أحببتَ أن تغرسَ نخلةً في الجنةِ, "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللـهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ". إذا ضاقَ صدرُكَ فَسَبِّحْ, قالَ تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) [الحجر: 97، 98].
قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "مَنْ هَالَهُ اللَّيْلُ أَنْ يُكَابِدَهُ، وَبَخِلَ بِالْمَالِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَجَبُنَ عَنِ الْعَدُوِّ أَنْ يُقَاتِلَهُ، فَلْيُكْثِرْ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ جَبَلِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ يُنْفَقَانِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-". فهل رأيتُم تقصيرَنا مع هذه العبادةِ اليسيرةِ, وتفريطَنا في تلكَ الأجورِ الكثيرةِ؟.
فسُبْحَانَ منْ يُسبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ والملائِكَةُ منْ خِيْفَتِهِ, سُبْحَانَ منْ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَواتُ بأفْلاكِهَا والنُّجُوْمُ بأبْرَاجِهَا، والأرْضُ بِسُهُولِهَا وَفِجَاجِهَا، والبحَارُ بأحْيَائِها وأمْوَاجِهَا والجِبَالُ بقِمَمِهَا وأوْتَادِهَا، والأشْجَارُ بِفُرُوعِهَا وَثِمَارِهَا، والسِبَاعُ فِي فَلَوَاتِهَا وَالطَيرُ في وَكَنَاتِهَا.
يَا مَنْ تُسَبِّحُ لَهُ الذَّرَّاتُ عَلَى صِغَرِهَا، وَالمَجَرَّاتُ عَلَى كِبَرِهَا، يَا مَنْ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوِاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وإِنْ مِنْ شَيءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه وِلَكِن لانَفْقَهُ تَسبِّيحَهُم.
اللَّهُمَّ وَحِّدْ صفوفَ المسلمينَ, وأَلِّفْ بين قلوبِهم, وآمنْهم في أوطانِهم, وأَصْلِحْ أحوالهَم, واقضِ ديونَهم, وعافِ مرضاهم, وانصرْ جيوشَهم, واذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهم, وانْصُرْهُم على عَدوِك وعدوِهِم, واحْفَظْ الأمةَ الإسلاميةَ, واجْمَعْ شملَ أمتِنا في كُلِّ مكانٍ من أرضِ الإسلامِ, وكنْ مع إخوانِنا في كُلِّ أرضٍ يُحاربُ فيه الإسلامُ يَاربَّ الْعَالمِين.
اللهم امضِ بنا على سُننِ الهدى, واجْعَلْ القرآنَ لنا خيرَ معينٍ, ومَكِّن لنا ديننَا الذي ارتضيتَ لنا, وهيئ لهذِه الأمةِ أمرَ رُشدٍ يُعزُ فيه أهلُ طاعتِك, ويُهدى فيه أهلُ معصيتِك, ويُؤمرُ فيه بالمعروفِ, ويُنهى فيه عن المنكرِ.
التعليقات