عناصر الخطبة
1/ بعد الموت بعث 2/إقسام الله على البعث 3/الحكمة من البعث بعد الموت 4/تأكيد القرآن للبعث بعد الموت 5/مراحل البعث 6/يبعث المرء على ما مات عليه 7/وقفة لمحاسبة النفس قبل الحساباقتباس
وانظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة غرلاً إلى أرض المحشر، وهي أرض بيضاء نقية، لا ترى فيها مكانًا مرتفعًا يختفي الإنسان وراءه، ولا مكانًا منخفضًا يحتمي به عن الأعين فيها، بل هي صعيد واحد لا تفاوت فيه، يساقون إليه زُمَراً، فسبحان من جمع الخلائق على اختلاف أصنافهم من أقطار الأرض إلى أرض المحشر...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذاكر من ذكره، يتولى الصالحين، ويثيب الذاكرين، ويزيد من شكره، أحمده –سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، فما خاب من ذكره، وما انقطع من شكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ سيد الذاكرين، وقدوة الشاكرين، صلى الله عليه وسلم وبارك على آله وصحبه الأتقياء البررة.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، اتقوه في السر والعلن، واعملوا لما بعد الموت، فماذا بعد الصحة إلا السقم؟! وماذا بعد البقاء إلا الفناء؟! وماذا بعد الشباب إلا الهرم؟! وماذا بعد الحياة إلا الممات؟!.
أيها الإخوة: لا شك أن بعد الموت بعثًا وحياة أخرى، يجازي الله فيها المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته، فهو الحَكَم العدل الذي لا يُتصور مع عدله أن يعيش الرسل ومعاندوهم، والأنبياء وقاتلوهم، ويعيش السارق والمسروق، والظالم والمظلوم، ثم يموت الجميع دون وجود يوم آخر للحساب، فهذا ظن سيئ في عدل رب العالمين، الملك الحق المبين.
أيها الناس: كانت العرب قبل مبعث النبي -عليه الصلاة والسلام- لا تؤمن بالبعث والنشور، وترى أن اليوم الآخر خرافة، وأن البعث بعد الموت أسطورة، وأن النشور من القبور خيالٌ لا يمكن أن يصدق، وأكذوبة تأباها العقول، فأتى -عليه الصلاة والسلام- يعالج هذه القضية ليل نهار.
وكثيرًا ما تساءل أعداء الرسل عن البعث بعد الموت، يجادلون في أمر محتوم، ويناقشون في بدهيات لا شك فيها، وكثيرًا ما تناول القرآن الكريم قضية البعث بعد الموت مؤكدًا لها، فيقسم عليها، فلم يقسم الله -تبارك وتعالى- ولم يأمر نبيه بأن يقسم به في القرآن إلا في ثلاثة مواضع وعلى البعث فقط، هذه واحدة، قال الله: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) [التغابن: 7] فقال: قل يا محمد رداً عليهم: (بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [التغابن:7].
ولقد تساءلوا وقالوا: كيف يعيد الأولين والآخرين؟ قال الكفار: يمكن أن يعيدنا نحن، ولكن أولئك الذين من القدم من عاد ونوح وآدم كيف يبعثهم الله؟ قال الله -عز وجل-: (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [لقمان:28] فما خلقكم ولا بعثكم كلكم من أولكم إلى آخركم إلا كنفس واحدة، وقال -عز وجل-: (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر:57] يعني: أن السماوات وما أعد الله بها من العجائب، والأرض وما خلق الله بها من العجائب، أكبر من خلق الناس (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر:57]. فالله تعالى يقول في هذه الآية: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [التغابن:7].
والقسم الثاني: قال -عز وجل-: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) [يونس:53] يسألونك أحق هو؟ أي: هل البعث بعد الموت حق؟ قال: (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) [يونس:53] أي: البعث من بعد الموت (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [يونس:53]. وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ:3]. وفي سورة الذاريات يقول الله -عز وجل-: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) [الذاريات:23] أي: البعث بعد الموت (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات: 23] مثل ما أنك تتكلم حقاً ولا تنكر أنك تتكلم، فوالله إن البعث بعد الموت كذلك بقسم من الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال الله: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات:23] وهذه الأيمان تحتم على العبد أن يتيقن الإيمان بالبعث من بعد الموت، ولا يشك فيه مطلقًا.
أيها الإخوة: وقد شق أمر البعث على الناس في الجاهلية فلم يصدقوه ولم يعترفوا بالبعث بعد الموت، وقد أتى العاص بن وائل ففتت العظم أمام المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ونفخ هذا الفتات قال: يا محمد: أتزعم أن ربك يبعث هذا؟ قال: "نعم. ويدخلك النار" قد تولى الله الرد عليه، وأدحض حجته، وكذب مقالته، ونبه الله الإنسان إلى أن الذي خلقه من عدم أول مرة قادر على أن يبعثه من جديد بعد موته، فقال: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس:78-79] [وانظر هذا الأثر فيما أخرجه الطبري وأخرج الحاكم].
عباد الله: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤصل الإيمان بالبعث في نفوس أصحابه، ويقربه لهم بقياس عقلي، ليزدادوا إيمانًا، فعن أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى؟! فَقَالَ: "أَمَا مَرَرْتَ بِوَادٍ مُمْحِلٍ ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ خَصِيبًا" قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ خَضِرًا, قَالَ: قُلْتُ: بَلَى, قَالَ: "كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى". [مستدرك الحاكم ، وقال الهيثمي في مجمع الزائد رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون].
عباد الله: ويبدأ بعث الناس بعد موتهم كما وصف الله -سبحانه- في كتابه بالنفخ في الصور نفخة الفزع، قال -جل وعلا-: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [يس: 51-53]. وأخبر -سبحانه- أن العباد بعد بعثهم سيشعرون أنهم قضوا في الدنيا لحظات سريعة، فقال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [يونس: 45].
ويبدأ البعث بعد موت الناس جميعًا، وموت جميع المخلوقات، وعندها يأمر الله -سبحانه- إسرافيل أن ينفخ في الصور النفخة الأولى، وهي نفخة الفزع والموت، ثم ينفخ النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور كما قال -سبحانه-: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) [الزمر: 68]، فإذا نُفخ في الصور نفخة البعث خرج الناس فزعين من الأجداث والقبور ينسلون إلى ربهم خائفين، يسرعون للحضور بين يديه، جميع الناس الأولون والآخرون، والإنس والجن، يجمعهم ربهم في يوم لا ريب فيه ليحاسبهم على أعمالهم، ثم يساقون بعد الحساب بحسب أعمالهم، ففريق في الجنة، وفريق في السعير.
وتفكر -يا عبد الله- في عظمة الخالق العظيم، الذي خلق وصور وأبدع هذا المَلَك إسرافيل!! فبنفخة واحدة منه يصعق أهل السماء وأهل الأرض إلا من شاء الله، وبنفخة أخرى يحيا جميع الخلق، ويخرجون من قبورهم قيام ينظرون!! وإذا كانت هذه قوة نفخته، فكيف بقوة بدنه؟. وكيف تكون قوة خالقه الذي خلقه وَأَمَره؟ فسبحان الخلاق العليم!!.
عباد الله: وهذه النفخة وقعها عظيم على أهل القبور، فما أعظم ما يقرع سمع سكان القبور من شدة نفخ الصور، فإذا صيحة واحدة تنفرج بها القبور عن رؤوس الموتى، فيثورون دفعة واحدة، فإذا هم قيام لله رب العالمين.
فَتَوَهَّم نفسك -يا عبد الله- معهم، وقد وَثَبْتَ متغير الوجه، مُغْبَرَّ البدن، مضطرب الفؤاد، مبهوتاً من شدة الصعقة، شاخص العين نحو النداء، وقد انتفض الخلق انتفاضة واحدة من القبور التي طال فيها بلاؤهم، وقد أزعجهم الفزع والرعب، فضلاً عما هم فيه من الهموم والغموم، وشدة الانتظار لعاقبة الأمر.
وبهذه النفخة يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يلبث الخلق بعد النفخة الأولى أربعين سنة، أو شهراً، أو يوماً، فهذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ- عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ. قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ، لَيْسَ مِنْ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [صحيح البخاري 4935].
أيها الإخوة: ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر: 68]، وانظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة غرلاً إلى أرض المحشر، وهي أرض بيضاء نقية، لا ترى فيها مكانًا مرتفعًا يختفي الإنسان وراءه، ولا مكانًا منخفضًا يحتمي به عن الأعين فيها، بل هي صعيد واحد لا تفاوت فيه، يساقون إليه زُمَراً، فسبحان من جمع الخلائق على اختلاف أصنافهم من أقطار الأرض إلى أرض المحشر، لا يتخلف منهم أحد: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف: 47].
فأحضر قلبك -أخي الكريم- وانظر إلى صورتك وأنت واقف هناك عارياً ذليلاً، متحيراً، وجلاً خائفاً، منتظراً لما سوف يجري عليك وعلى غيرك، يستقبلك يوم عظيم شأنه, ترى فيه السماء قد انفطرت, والكواكب من هوله انتثرت, والنجوم قد انكدرت, والشمس قد كورت, والجبال قد سيرت, والبحار قد سُجرت, والجحيم قد سُعرت, والجنة قد أزلفت, يوم تبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات, يوم تُحمل فيه الأرض والجبال فتُدك دكة واحدة, يوم ترجّ فيه الأرض رجّاً, وتبسّ الجبال بسّاً, يوم يكون فيه الناس كالفراش المبثوث, يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت, وتضع كل ذات حمل حملها: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 2].
يومٌ لا يُسأل أحد عن ذنبه من إنس ولا جان، ولا يُسأل فيه عن ذنوبهم المجرمون، بل يؤخذ فيه بالنواصي والأقدام: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30]، يوم تعلم فيه كل نفس ما قدمت وأخرت، نسأل الله أن يجعل أسعد أيامنا يوم نلقاه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته.
أيها الإخوة: إن البعث بعد الموت عقيدة راسخة، وأصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، فإحياء الموتى وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين، حق لا ريب فيه، ومن شك في هذا وقع في خطر عظيم، والعياذ بالله تعالى. وإن أول مَن يُبْعَث وينشق عنه القبر هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْـهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ" [صحيح مسلم 2278] نسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وأن يوردنا حوضه، وأن يجعلنا من أمته في الدنيا والآخرة.
أيها الناس: وإن مما يذَكِّر العبدَ بالبعث بعد الموت وهو مبعث الخطر في نفس الوقت أن العبد إنما يُبْعَث على ما مات عليه، فعن عن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُبْعَث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه" [صحيح مسلم 2878]، فمن مات ساجدًا يُبعث يوم القيامة ساجدًا، ومن مات حاجًّا أو معتمرًا بُعث يلبّي، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتْهُ، فقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ, وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا". [صحيح البخاري 1265]، أي: يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وهذا من كرامة حسن الخاتمة.
فيا من عشت على الطاعة، ويا من عشت على التوحيد، اعلم بأنك ستموت على الطاعة والتوحيد، وستبعث يوم القيامة على الطاعة والتوحيد، فكونوا -أيها الإخوة- من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، والأعمال بالخواتيم، والمرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه.
أيها الإخوة: وللخلائق يوم القيامة منازل ومواقف كثيرة، فالناس بعد الحشر يساقون إلى الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم، فتأمل حالك -يا عبد الله- أمامه, وما يحل بك من الفزع إذا رأيت الصراط ودِقته, ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته, والناس يتعاوون فيها ويبكون, ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها, وقد كُلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك, واضطراب قلبك, وتزلزل قدمك, وثقل ظهرك بالأوزار والذنوب، فلن ينجيك اليوم إلا صالح عملك، وقبله رضا الله عنك.
فكيف حالك -أخي- عند عبور الصراط, وأنت ترى الخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون, وتتناولهم زبانية النار بالكلاليب والخطاطيف, وأنت تراهم ينتكسون على وجوههم في النار, وأرجلهم تعلو والنار تغلي بهم, تشوي وجوههم, وتحرق أجسادهم, وتقطع أمعاءهم. فيا له من منظر ما أفظعه!! ومرتقى ما أصعبه!! ومجاز ما أضيقه!! وهول ما أفزعه!!.
فانظر إلى حالك وأنت تعبر الصراط وتزحف عليه, وأنت مثقل الظهر بأوزارك, تلتفت يميناً وشمالاً إلى الخلق وهم يتهافتون في النار. فكيف بك لو زلت قدمك, ووقَعْتَ في قعر جهنم, ووقع بك ما كنت تخافه, وأنت تنادي: يا ليتني قدمت لحياتي, يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً,. يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً, يا ليتني كنت تراباً, يا ليتني كنت نسياً منسياً.
فكيف ترى -أيها العبد- عقلك الآن, وهذه الأخطار بين يديك, فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفار في دركات جهنم؟! نسأل الله السلامة والعافية.
فاتقوا الله -عباد الله- وأكثروا من ذكر هادم اللذات والقبر والحشر والحساب، وأكثروا من العمل الصالح مخلصين لرب الأرض والسموات، واعتصموا بربكم، فنعم المولى ونعم النصير.
التعليقات