عناصر الخطبة
1/منزلة العدل 2/شناعة الظلم وخطره 3/تفشي الظلم وبعض عقوباته 4/صلاح المجتمعات والدول بالعدل 5/مفهوم الظلم عند الناس وبعض صورهاقتباس
إن الله يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يُقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام؛ وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أُقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لأصحابها من خلاق في الآخرة، وإن لم تقم بالعدل لم تَقُمْ، وإن كان...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فإن الله -جل وعلا- بحكمته وعدله أقام السموات والأرض على قانون وناموس ومسار وهدي عظيم، قائم على العدل ومنع الظلم وتحريمه؛ العدل في كل شيء، ومنْع الظلم في كل شيء؛ منع الظلم من العباد لأنفسهم، ومنع الظلم من التظالم فيما بينهم، فظلم العبد لنفسه محرَّم، وظلم العبد للآخرين محرَّم، ظلمُه الذي يجعل من خلاله الأشياء في غير موضعها؛ حيث فسر العلماء وعرَّفوا الظلم كما قال الإمام الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "الظلم وضع الشيء في غير موضعه الشرعي".
وقال الإمام العيني: "الظلم أصله الجَوْر، وهو مجاوزة الحد الشرعي، ومعناه: وضع الشيء في غير موضعه الشرعي".
فالشريعة جاءت ببيان الأمور وتوضيحها، وتوضيح موضع كل شيء، فمن خالَف ذلك -ووضع الشيء في غير موضعه- فهو ظالم؛ ولذا كان أعظم الظلم وأشده وأشنعه وأبشعه هو: الشرك بالله -جل وعلا-: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13].
فأعظم الظلم على وجه الأرض هو أن تُوضَع العبادة في غير موضعها، فيُتَّجَه بها إلى غير الله المستحق للعبادة.
من أعظم الظلم: الكفر بالمنعم المتفضِّل الخالق الواهب الكريم -جل وعلا-، فيُشكَر غيرُه، ويُتَوقف عن حمده وشكره، وعن الاعتراف بإنعامه وفضله، فهذا أعظم الظلم؛ حيث يُتَوجَّه إلى غيره جل وعلا بما يجب من العبادة، وبما يجب من الشكر والامتنان، وهو المستحق لكل ذلك جل وعلا.
أيها الإخوة الكرام: إن من الظلم المحرم أيضًا أن يتظالم العباد فيما بينهم، وقد جاء في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "قال الله -عز وجل- يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، يا عبادي فلا تظالَموا".
وتأمَّلوا امتنانَ ربنا حيث أخبرنا جل وعلا أنه حرَّم الظلم على نفسه، والله -جل وعلا- يحكم لا معقِّب لحكمه، ولو أراد أن يظلم -جل وعلا وتعالى وتقدَّس- فلا مانع له من ذلك، لكن الله -جل وعلا- مُنزه عن هذا العمل؛ لأن أفعال الله -جل وعلا- كلها دائرة بين الحكمة والحق والعدل، فلا ظلم في أفعال الله -جل وعلا- البتةَ.
"يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا"، ولذا كانت عاقبة الظلم شنيعة، وكانت عاقبة العدل كريمةً معظمةً في كتاب الله، وفي سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-.
والظَّلَمة مُبغضون من الله، مستحقون للعذاب في العاجلة والآجلة، الظلمة لا يَهديهم الله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[البقرة: 258]، الظلمة لا يحبهم الله، والله لا يحب القوم الظالمين.
والظلمة بعيدون عن كل خير، فالله -جل وعلا- يمنع عنهم الخير؛ لأن الله -سبحانه- لا يرضى منهم هذا العمل، وبخاصة إذا توجَّهوا بهذا الظلم إلى عباد مستضعفين، فإن الله -سبحانه- يؤيِّد هؤلاء المستضعفين، ويهيِّئ لهم من الانتصار على ظَلَمَتهم ما هو مشاهَد عبر التاريخ.
إن الظلم -أيها الإخوة الكرام- سبب لمآسي الإنسانية، سبب لما يعيشه الناس أفرادًا ومجتمعات للحياة الكئيبة البئيسة، بينما بالعدل تَزدهر الأمور، وتزهو الأحوال، ويعيش الناس في أمنٍ واستقرار، وفي عيشٍ كريم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن العدل هو الذي أُنزِلت به الكتب، وأُرسلت به الرسل، وضده الظلم، وهو محرم في كتاب الله -تعالى-، وفي سنة نبيه محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-".
ولذلك فإن الظالمين حينما يريدون الخروج على الناموس الكوني الذي وضعه الله -جل وعلا-، فإن سُنة الله -تعالى- ماضية في الغالب أن يقصم الظلمة، وأن يُعجِّل لهم العقوبة في الدنيا قبل الآخرة؛ جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أبو داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من ذنب أجدر أن يُعجِّل الله -تعالى- لصاحبه العقوبة -مع ما يُدخَّر له في الآخرة- مثل البغي وقطيعة الرحم"، والبغي هو الظلم بكل درجاته، وقطيعة الرحم هي قطع صلة ذوي الأرحام.
ومما يُبين أن الظلم مبغض عند الله -جل وعلا-، وأن أهله مُتوعَّدون أشد الوعيد: أن المظلومين يهيئ الله لهم من فتح أبواب السماء لدعواتهم، ما يجعل الظالم قاب قوسين أو أدنى من عقوبة الله -جل وعلا-، فقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال لمعاذ -رضي الله عنه- حينما بعثه إلى اليمن: "واتَّقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "المعنى: تجنَّبِ الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم، وفي هذا تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم".
وتأمَّلوا هذه الإشارة البليغة في قوله صلى الله عليه وسلم عن دعوة المظلوم: "ليس بينها وبين الله حجاب" أي: ليس لها صارف يَصرفها، ولا مانع يمنعها، فهي مقبولة على كل الأحوال، حتى لو كان المظلوم الذي يدعو عاصيًا، فإن دعوته مستجابة؛ فقد جاء في مسند الإمام أحمد أنه عليه الصلاة والسلام قال: "دعوة الظالم مستجابة" يعني: الدعاء على الظالم؛ فدعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه، حتى لو كان المظلوم حينما يدعو ويبتهل إلى الله، لو كان فاسقًا فاجرًا، أو كان كافرًا؛ فإن الله يستجيب دعوته، والسر في ذلك والعلم عند الله أن المظلوم حينما تضيق عليه الأرض بما رحُبتْ، ويتوجَّه إلى رب الأرض والسماء، فإنه حين ذاك وفي هذه اللحظات يشعر بأنه لا مَنجي له ولا مُغيث له، ولا مُخلِّص له إلا رب الأرض والسماء، وهذا من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وهو حضور القلب والثقة بالله -جل وعلا-، وقطع الآمال في الخلق، وتوحُّدها في الحق -جل وعلا-، حينئذ تُستجاب الدعوة؛ ولذا قال الله -جل وعلا- في كتابه الكريم: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)[النمل: 62] (المضطر: المظلوم المقهور)، تنقطع آماله من الأرض ومن السماء إلا من الله -جل وعلا-، فحينئذ تكون إجابة الدعوة.
أيها الإخوة الكرام: ثم إن الظلم من شناعته أنه إذا انتشر بين الناس، سُلِّط عليهم ظَلَمَةٌ أمثالهم؛ ولذلك قال العلماء: إن الرعية الظالمة -التي يتظالم أفرادها فيما بينهم- يُولَّى عليهم حاكمٌ ظالم، يُسلَّط عليهم؛ كما قال الله -جل وعلا-: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأنعام: 129]، قال أهل العلم في تفسيرها: نُسلَّط بعضُ الظَّلَمة على بعض فيُهلكه ويُذله، وهذا تهديد للظالم إن لم يَمتنع من ظلمه، سلَّط الله عليه ظالمًا آخر يَقهره، ويتسلَّط عليه.
ويدخل في هذه الآية جميع مَن يظلم نفسه، أو يظلم الرعية، أو التاجر يظلم الناس في تجارته، فيُسلَّط عليه ما يُحرجه ويُفلسه، وهكذا في الأمور كلها، قال العلامة الفخر الرازي -رحمه الله- في تفسير الآية: "الآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين، فالله -تعالى- يُسلط عليهم ظالِمًا مثلهم، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم، فليَتركوا الظلم".
ثم إن من شناعة الظلم على أصحابه: أنهم لا يُفلحون، فإن من سِنة الله -جل وعلا- ألا يُمكِّن ظالمًا من فلاح ولا فوز؛ لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن الظالم خلاف سنة الله -جل وعلا- من إفساده في الأرض، وتسلُّطه على عباد الله الذين هم عيال الله، والذين هم معتمدون على ربهم، فمن ظلم العباد سلَّط الله عليه من القهر ومن الكبت ما هو مشاهد عبر التاريخ؛ ولذلك فإن الواجب على المؤمن أن يكون مُحاذرًا لهذه الصفة؛ لأن الله -جل وعلا- يُعجِّل العقوبة للظلمة، كما أن المجتمع الذي ينتشر فيه الظلمة تكون هذه حاله على نحو ما تقدَّم.
ثم إن مما يُطمئن المؤمن في شأن الظلمة: أنهم مهما استطالوا بظلمهم، واستَقْوَوْا بقوَّتهم، فإنما هم ضعاف حُقَراء، وقد بيَّنت سنة الله -جل وعلا- في هؤلاء أنهم كلما ازداد ظلمهم، شنعت عاقبتهم، والتاريخ شاهد بذلك، وأحوال هؤلاء مسطَّرة في الكتاب العزيز.
فرعون الذي قال ما قال، وتجبَّر وظلم العباد، واستطال بظلمه، حتى نازع الله في ملكه بغيًا وعَدْوًا: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[القصص: 38].
ثم كانت العاقبة أن الله -جل وعلا- لما أغرقه جعل جسده باقيًا؛ حتى يكون عظة وعبرة للعباد، فإن في التاريخ -من الظلمة والمتجبرين- عددًا كبيرًا، لكن كثيرًا منهم نُسوا ولم يُعرَفوا، ولم يُذكَروا؛ لأن ظلمهم كان له حدُّه، والظلم كله ممنوع مُشنَّع فيه، ولكن عندما يَستفحل الظلم، فإن الغالب أن الله -جل وعلا- يجعل أولئك الظلمة المستفحشين في ظلمهم عِبرةً للعالمين، ففرعون قال الله عنه: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)[يونس: 92].
والعجيب أن الذين يَسلكون مسلك فرعون فيَتفرعنون ويَستشيطون في التسلط على العباد لا يتعظون به، مع أنه باقٍ إلى يومنا هذا في المتاحف يُزار ويُذكر، وتتناقل خبره الموسوعات؛ ولذا فإن مما يطمئن المظلومين أن الظالم عاقبته شنيعة، وأن الواجب على المظلوم أن يرفع مظلمته إلى محكمة العدل، إلى الرب -جل وعلا-، فإن الله -سبحانه- لا يُخيِّب من رجاه، ولا يرد من سأله ودعاه.
إن الظَّلَمَة الذين يُشيعون الظلم في العباد تكون عاقبتهم عاقبة واضحة بيِّنة في استئصالهم.
ومن تأمَّل كلام الله -جل وعلا- عن عقوبة هؤلاء عَلِم أن العبارات والآيات تأتي لبيان شدة استئصالهم؛ قال الله -جل وعلا-: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)[الأنعام: 45]، تأمَّلوا لم يقل: أُهلكوا، ولم يقل: أُميتوا، وإنما هذه العبارة التي لها عُمقها اللغوي كما يدرك المتخصصون.
(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) لم تَبْقَ لهم باقية إلا باقية الذكر واللعن لهم؛ قال الله -جل وعلا- في شأن هؤلاء أيضًا: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)[يونس: 13].
كما أخبر الله -جل وعلا- في كتابه الكريم أن الأُمم الظالمة لها أجلٌ محدود، وكلما استشاطت وتوسَّعت في ظلمها، فإن عقوبة الله -جل وعلا- لها بالمرصاد، لكن كما قال الله -تعالى-: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34].
فالله -جل وعلا- يُمهل ولكنه لا يُهمل، ويُملي للظالم حتى تكون عقوبته أشدَّ وأنكى؛ جاء في صحيح الإمام مسلم عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته، ثم تلا قول الله -جل وعلا-: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود: 102]".
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم.
أقول ما سمِعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبدالله ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحْبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
أيها الإخوة الكرام: إن صلاح الأحوال للناس جميعًا أن يكونوا عادلين فيما بينهم، متباعدين عن الظلم؛ ولذا قال العلماء: إن انتشار العدل بين الناس كفيل باستقرار أحوالهم، وأن يَعيشوا عيشًا كريمًا هنيئًا.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يُقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام؛ وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أُقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لأصحابها من خلاق في الآخرة، وإن لم تقم بالعدل لم تَقُمْ، وإن كان لأصحابها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة" انتهى كلامه -رحمه الله-.
والمقصود في هذا أن الله -جل وعلا- قد أقام حقوق الخلق على المشاحَّة فيما بينهم، فلا يمكن أن يتنازل عن شيء، وأما حق الله -جل وعلا- فإنه مبني على المسامحة، فالله -جل وعلا- قد يُمهل المشرك ويؤخِّر عقوبته، وهذا المشرك ارتكب أعظم الظلم، لكن حقَّ الله -جل وعلا- مبنيٌّ على المسامحة والإمهال، أما حقوق الخلق فهي مبنية على المشاحة وعلى التعجيل؛ لأن الناس لو حصل بهم أن يَنتشر الظلم بينهم، ثم لا يجدوا عونًا ولا نصيرًا، فلربما أدخل عليهم ذلك نوعًا من الشك في وجود ربهم -جل وعلا-؛ ولذا إذا استحكم الأمر كان الفرج، ولو لم يكن الْمُفرَج عنه من أهل إيمان ولا تقوى؛ كما تقدم في الآية: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) أي مضطر كان؛ مسلمًا كان، أو فاجرًا، أو كافرًا (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)[النمل: 62]، إنه الله -جل وعلا-.
أيها الإخوة الكرام: وقد يذهب بعض الناس في تصوُّر الظلم مذاهب شتَّى لكن ينبغي أن يدرك أن كل إنسان مخاطب بهذه الآيات والنصوص، فهو ممنوع من الظلم في كل دوائره، فإن من الناس من قد يتسلَّط على مَن حوله من أهل وزوجةٍ وأولاد، يَسومهم سوء العذاب، يُصبحهم ويُمسيهم بالظلم والعدوان.
والأُبوة أو القِوامة ليست في يد الرجل لأجل تسلُّط وظُلمٍ، وإنما لإقامة العدل والإحسان إلى من تحت يده؛ ولهذا فإن المؤمن يلاحظ العدل على مَن حوله قبل غيرهم، كما أنه يلاحظ العدل مع الضعفاء قبل غيرهم؛ لأن الضعيف وكيله ونصيره، والمحامي عنه هو الله -جل وعلا-، فيَحذَر العاقل أن يواجه أحدًا نصيره الله -جل وعلا-.
ثم إن من كمال هذه الشريعة وقوامتها بالعدل: أن هذا الظلم ممنوع في كل أحواله، حتى ولو نحو البهائم؛ لأن سطوة الإنسان وتصرُّفه في كثير من الأمور، قد تُفضي به في بعض الأحوال إلى أن يتناسى أن هذه البهائم من الطير والحيوان، إنما أمرها موكول إلى الله، والله محاسب هذا العبد على ما استرعاه.
وأنتم تعلمون -أيها الإخوة الكرام- وأهل الإسلام ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في شأن امرأة مؤمنة صائمة مصلية، أُدخلت النار لما ظلَمت هِرَّة حبَستها، فلا هي أَطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، لقد رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- تُعذَّب في النار لما عُرِض عليه عذاب النار وأحوال أهلها، فنقَل لنا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذه الحال عن هذه المرأة المؤمنة التي كانت في زمانه وعصره؛ لتكون رسالة للناس جميعًا أن الحيوان والطير ممنوع ظلمُه، وأن الذي سينتصر له هو ربُّ العزة -جل وعلا-.
وبيَّن نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- فضْلَ العدل والإحسان مع البهائم فيما أخبر به؛ كما في الصحيح عن المرأة البَغِي من بني إسرائيل التي عظُم ظلمُها؛ لأنها أسخطتْ ربَّها -جل وعلا- في ممارستها للبغاء، لكن الله رحِمها وأكرَمها، وعفا عنها؛ لعدلها ورحمتها لكلب رأته يَلعق الثرى من العطش، فنزلت البئرَ، فملأتْ مُوقَها (حذاءها) ملأته ماءً، فسقَت الكلب لدى عطشه، فغفر الله لها.
إن كل هذه النصوص وما جاء في معناها مما زخرت به نصوص الكتاب والسنة: لَتُبيِّنُ للمؤمن ما يجب عليه من الحرص على العدل في كل شيء؛ كما في الحديث: "الذين يَعدِلون في أهليهم وأنفسهم وما وَلُوا"، أو كما صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام، ويُحاذر الظلم: "اتَّقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة، واتَّقوا الشح فإنه أهلَك مَن كان قبلكم".
إن هذا المسار -أيها الإخوة الكرام- مما ينبغي أن نتواصى به، فبه استقرار الأمور وصلاح الأحوال، وحُسن العُقبى في الآخرة والأولى.
ألا وصلُّوا وسلِّمُوا على خير خلق الله نبينا محمد؛ فقد أمرنا ربنا بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم وارضَ عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم واحمِ حَوزة المسلمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين.
اللهم اجْمَعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم واغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كَرْب المكروبين، واقضِ الدَّين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم بمنِّك وفضلك لا تدَع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا كربًا إلا نفَّسته، ولا دَينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفَيتَه، ولا مذنبًا إلا إليك ردَدتَه برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفِّق أئمَّتنا وولاة أمورنا.
اللهم أيِّد إمامنا خادم الحرمين، ووفِّقه لما فيه عز الإسلام والمسلمين، ولِما فيه الخير للعباد والبلاد برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك بكل من بغى على المسلمين واعتدى يا قوي يا عزيز.
اللهم إنا ندرأ بك في نُحور أعدائنا من الحوثيين وأعوانهم.
اللهم اشْدُد وطْأَتك عليهم.
اللهم اخْذُلْهم ومَن أعانهم يا قوي يا عزيز.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار.
ربنا احقِن دماء إخواننا في فلسطين وسوريا وفي ليبيا، وفي غيرها من البلاد.
اللهم عجِّل لهم بالأمن والطُّمأنينة والانتصار على مَن ظلمهم يا رب العالمين.
اللهم عجِّل بزوال وهلاك طاغية الشام، اللهم انتقِم منه.
اللهم واشفِ غيظَ قلوب المؤمنين من طاغية الشام يا قوي يا عزيز.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180 - 182].
التعليقات