عناصر الخطبة
1/الدعاء أعظم مظاهر العبودية 2/أقسام الدعاء وبعض أدعية الأنبياء -عليهم السلام- 3/أسباب إجابة الدعاء 4/فضائل يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعةاقتباس
الإنسان مخلوقٌ ضعيف، تعرِضُ له الحاجات، وتُكدِّرُ عليه المنَغِّصات، فهو محتاج أشدَّ الحاجة إلى ربه ليقضيَ له حاجاتِه، ويفرجَ عنه همومَه. والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وبكلا النوعين تقضى الحاجات، وتفرج الكربات، فهذا...
الخطبة الأولى:
أما بعد: يعيش المسلم حياتَه كلها في رحاب العبودية لله، ونعيمِ الإخلاص له، يتعبده بشتى أنواع العبادات، ويتقرب إليه بمختلف القربات، ولكن ثمةَ حالةٌ يعيشها العبد تتجلى فيها أعظمُ مظاهر عبوديته لله، وافتقاره إليه؛ إنها تلك الحالةُ التي يتوجه العبد فيها إلى ربه بعبادة الدعاء، حين يناجي العبد ربه ليس بينه وبين الله واسطة، يظهر له فقرَه وحاجتَه، ويثني عليه بأسمائه وصفاته، ويسأله من واسع فضله وكرمه، هذه الحالة هي أخصُّ حالات العبودية، وأوضحُ مظاهرها، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الدُّعاءُ هوَ العبادةُ"، ثمَّ قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غافر: 60]، فالذي يستكبر عن الدعاء يكون قد استكبر عن عبادة ربه، واستغنى عنه، ومن أقبل على الدعاء يكون قد طرق أعظمَ أبواب العبودية لله والتذلل له، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- مبينا فضل الدعاء: "ليسَ شيءٌ أَكْرَمَ على اللَّهِ -تعالى- منَ الدُّعاءِ"، وذلك لأن الدعاء فيه إظهار العجز والفقر والذل من العبد، والاعترافُ بالملك والقوة والغنى لله.
والإنسان مخلوقٌ ضعيف، تعرِضُ له الحاجات، وتُكدِّرُ عليه المنَغِّصات، فهو محتاج أشدَّ الحاجة إلى ربه ليقضيَ له حاجاتِه، ويفرجَ عنه همومَه، فهو سبحانه من بيده ملكوت كل شيء، ومن له ملك السموات والأرض وما بينهما، فإذا سأل العبدُ ربَّه ودعاه فهذا دليل خضوعِه وذلِّه وصدقِ عبوديته لربه، وإذا ترك سؤال الله فهذا دليل استغنائِه عن فضل ربه، واستكبارِه عن عبادته والتذلل إليه، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن لم يسألِ اللهَ يغضبْ علَيهِ".
والدعاء نوعان: دعاء عبادة، وهو الذي فيه ذكر الله، والثناء عليه بأسمائه وصفاته، ودعاء مسألة، وهو سؤال العبد ربَّه حاجتَه، وبكلا النوعين تقضى الحاجات، وتفرج الكربات< فهذا أيوب -عليه السلام- عاش في البلاء زمنا مديدا، وسنين عديدة، وحين اشتكى لربه ضُرَّه، وأثنى عليه بما هو أهله، فاستعان على مرضه بسلاح الدعاء، تبدد البلاء وانقلب الحال من الضراء إلى السراء، قال سبحانه حاكيا حاله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ)[الأنبياء: 83-84].
وهذا يونس -عليه السلام- أطبقت عليه ظلمات البحر، وظلمات بطن الحوت، فعاش في الكرب والغم، حتى أوقد ظلامه بمصابيح الدعاء وأظهر الافتقار إلى الله، فتبددت الظلمات، وكانت النجاة: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 87-88].
وهذا زكريا -عليه السلام- لم ييأس من رحمة ربه، وأيقن بقدرته سبحانه، فسأله الولد على كبر السن وعقم المرأة، فحقت الإجابة، وانهمر عليه فضل الله: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ)[الأنبياء: 89-90]، ثم قال سبحانه بعد أن ذكر أحوال هؤلاء الأنبياء، واستجابته لدعائهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء: 90]، فعندما سارعوا إلى الله أسرعت الإجابةُ إليهم، وعندما تعرَّفوا على الله في الرخاء عرفهم في الشدة.
وهكذا العبد كلما استجاب لله أكثر كلما كانت الإجابة لدعائه أقرب، قال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186]، وليس معنى ذلك أن الله لا يستجيب إلا للصالحين، بل الله قريب مجيب يستجيب للمطيع والعاصي، لكن كلما كان العبد أحبَّ إلى الله كلما كان ذلك أدعى للإجابة، ومصداق ذلك الحديث القدسي الذي يقول الله -سبحانه- فيه: "وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ".
كما نصت السنة على بعض المعاصي التي يبعد معها تحقق إجابة الدعوة، كمعصية الأكل الحرام، وذلك حين ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبِّ! يا رَبِّ! ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!".
ومن أسباب إجابة الدعاء: اليقينُ بالإجابة، فالعبد الموقن بكرم الله، الواثق بقدرته، المحسن الظن به سبحانه، أقربُ للإجابة من غيره ممن يدعو اللهَ بقلب غافل لاه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "ادْعُوا اللهَ وأنتمْ مُوقِنُونَ بالإجابةِ، واعلمُوا أنَّ اللهَ لا يَستجيبُ دُعاءً من قلْبٍ غافِلٍ لَاهٍ" قال ابن القيم: "الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أثره عنه...لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا، فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا"، ولذلك كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "إني لا أحمل هم الإجابة، إنما أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فهناك الإجابة".
ومن أسباب الإجابة: الإلحاحُ على الله وعدمُ استعجال الإجابة، فالعبد لا ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمته، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ للعبدِ ما لم يَدْعُ بإِثْمٍ أو قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لم يَستعجِلْ" قِيلَ: يا رَسولَ اللهِ ما الاستِعجالُ؟ قال: "يقولُ: قَدْ دَعَوْتُ وقدْ دَعَوْتُ، فلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لي، فَيَسْتَحْسِرُ عندَ ذلك، ويَدَعُ الدُّعاءَ"، والعبد يحسن الظن بربه، ويعلم أن الله إذا أخر عنه الإجابة أو صرفها عنه، فإن ذلك قد يكون خيرا له من تحققها العاجل: (وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216].
وكم من الدعوات التي صرفها الله عن الناس، والتي لو تحققت لكان ذلك شرا له، فكم من عبد سأل الله وظيفة أو تخصصا جامعيا أو امرأة معينة فلم يُستجب له، ثم تبين له أن ما سأله كان شرا له، ثم أبدله الله وعوضه بما هو خير له مما سأله.
قد يؤخر الله عنك العافية ليذيقك نعيم القرب منه، والالتجاء إليه، وقد يؤخر عنك رفع البلاء ليذيقك لذة الانكسار له، والافتقار إليه، وقد يحرمك غنى المال ليمنعك من الطغيان الذي قد تصل إليه به كما وصل إليه كثير من الأغنياء.
وعلى كل حال؛ فإن العبد حين يدعو الله فإنه يتعبده بعبادة من أعظم العبادات، ولذا فإن الله يشكر له عبوديته له، ويجزيه عليها حتما، ولن يرد يديه صفرا، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ربَّكم حييٌّ كريمٌ يستحيي من عبدِه أن يرفعَ إليه يدَيْه فيرُدَّهما صِفرًا" قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مبينا أنواع الإجابة المحتومة: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: "اللَّهُ أَكْثَرُ"
عباد الله: إن الدعاء من أقوى الأسباب لدفع المكروه، وجلب المحبوب، وحصول المطلوب، فإنك تطلب حاجاتِك من مسبب الأسباب، وممن بيده أمر الأرض والسماء، ولذا فإن العاجز حقا هو الذي عجز عن الدعاء، وفاته أعظم أسباب تحقق الخيرات، قال صلى الله عليه وسلم: "أعجَزُ النَّاسِ مَن عجَز في الدُّعاءِ".
فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أما بعد: ومن أسباب إجابة الدعاء -يا عباد الله-: تحري أوقاتَ الإجابة التي وردت في السنة، كثلث الليل الآخر، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبة، وآخر ساعة من يوم الجمعة، وكذلك تحري أحوالَ الإجابة كدعاء الصائم والمسافر والمظلوم والدعاء عند السجود، فكلما تحرى العبد تلك الأوقاتِ والأحوالِ كانت الإجابة أحرى له وأقرب.
ومن آداب الدعاء: البدء بالثناء على الله بما هو أهله والصلاة على النبي، كما أوصى بذلك -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ"، وحين سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد الصحابة يطبق هذا الأمر في صلاته قال: "أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تُجَبْ".
عباد الله: في يومكم هذا تجتمع العديد من الفضائل، وتهُبُّ الكثيرُ من الرحمات، فهذا يوم الجمعة الذي قال فيه الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُ يومٍ طلعَت علَيهِ الشَّمسُ يومُ الجمُعةِ"، وهذا هو يوم عرفة الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ".
هذا يوم الجمعة الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ في الجُمُعَةِ لَساعَةً لا يُوافِقُها مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فيها خَيْرًا إلَّا أعْطاهُ إيَّاهُ"، وهذه الساعة آخر ساعة من العصر كما قال ذلك كثير من العلماء.
وهذا يوم عرفة الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
في هذا اليوم يزدحم المسلمون على أبواب الكريم -سبحانه-، يرفعون إليه الدعوات، يسألونه أن يحقق لهم الخيرات، ويبعدهم عن الشرور والمنكرات.
فكم ستُقضى من الحاجات؟! وكم ستُكشف من الكربات؟! وكم ستُمطر من الرحمات؟! فانضموا لوفود المزدحمين، عسى أن تكونوا من عباد الله المقربين.
وأوصي نفسي وإياكم بالأدعية النبوية التي وردت عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي أوتي جوامع الكلم، والذي فتح الله عليه من محامده ودعائه، وحسن الثناء عليه.
التعليقات