فضائل الصبر وعواقبه الحسنة

ماهر بن حمد المعيقلي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/موعظ وعبر في ابتلاء الله تعالى لنبيه أيوب 2/بعض فضائل الصبر 3/المفهوم الحقيقي للصبر 4/الأجر العظيم للصابرين وسبب ذلك 5/أمثلة للصابرين المحتسبين 6/مواقف ومشاهد من صبر النبي صلى الله عليه وسلم 7/العاقبة الحسنة للصابرين 8/بعض المعينات على الصبر

اقتباس

إنَّ الصبرَ من أركان الإيمان، وطريق إلى رضى الرحمن، فالصَّبر من الدِّين بمنزلة الرأس من الجسد؛ فلا إيمان لِمن لا صبرَ له، فلذا أكَّد الربُّ في طلبِه، وجعَلَه من عزم الأمور، ورتَّب عليه مزيدَ حُبِّه، ووعَد مَن اتصف به عظيمَ الأجور...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي حث على الصبر، وجعله مفتاحًا لأسمى المطالب، وأعظم للصابرين الأجر، وأنالهم أسنى الرغائب، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جعل عاقبة الصبر الظفر، والنصر مع الصبر، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أفضل مَن ابتُلي فصبر، وأعطي فشكر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الأطهار، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقب الليل والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ، مَعاشِرَ المؤمنينَ: فأوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله -تعالى-، في السر والعلن، والعُسْر واليُسْر؛ (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[الْبَقَرَةِ: 197].

 

أُمةَ الإسلامِ: ابتلى اللهُ -تعالى- نبيَّه أيوب -عليه السلام-، في نفسه وماله وأبنائه، ولم يبقَ له من عافية بدنه، إلا قلبُه ولسانُه، وهو صابِر محتسِب، لا يفتأ عن ذِكر ربِّه المجيب، ومكَث في مرضه ثماني عشرةَ سنةً، حتى عافَه الجليسُ، وأَوْحَشَ منه الأنيسُ، ولم يَبقَ أحدٌ يحنو عليه سوى زوجه، فكانت ترعى له حقَّه، وتحفظ قديمَ إحسانه، وهي صابرةٌ محتسِبةٌ، مع ما حلَّ بها من فِراق المال والولد، وضِيق ذات اليد، وغدَا بلاءُ أيوب -عليه السلام- سلوى لكل صابِر مُدَّكِر، وعابِد معتبِر، واللهُ قد يبتلي عبدَه الصالحَ، من غير هوان به عليه؛ ولكن ليبلغ بصبره واحتسابه منزلةً في الجنة أعدَّها اللهُ له، وفي مسند الإمام أحمد، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: "الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ"، (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص: 41-44].

 

مَعاشِرَ المؤمنينَ: إنَّ الصبرَ من فضائل الأعمال، وأجلّ أخلاق الكرام، وهو نصفُ الإيمان، فالإيمان نصفانِ: صبرٌ وشكرٌ، ولأهميةِ الصبرِ وعُلُوِّ منزلتِه، جاء بيانُ فضله في القرآن الكريم، في أكثرَ من تسعين موضعًا، يَقرِنُه -سبحانه- تارةً بالصلاة: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)[الْبَقَرَةِ: 45]، وبحبه تارة: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 146]، والفوز بمعيته الخاصَّة تارةً: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 153]، ويوجب -سبحانه- للصابرين أجرَهم بغير حساب: (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)[الزُّمَرِ: 10]، ولقد خصَّ اللهُ -تعالى- الصابرينَ بأمور ثلاثة، لم يَخُصَّ بها غيرَهم: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم، وحسبُك قولُه -جل جلاله-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 155-157]، فالصبر خَيْرٌ كُلُّهُ: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)[النَّحْلِ: 126]، وكم مِنْ صابر على البلاء، رحَل بلاؤه، وبقي له حُبُّ اللهِ ومعيتُه، ولربما بقي البلاءُ، حتى فارَق المرءُ الدنيا، فينال الفوزَ يومَ القيامة، بجنةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ، حتى أنَّ أهلَ العافية، يتمنَّوْن أنهم أُصيبوا في الدنيا؛ لِمَا يرون ما أعدَّ اللهُ للصابرين من النعيم؛ ففي (سنن الترمذي): قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ"؛ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السَّجْدَةِ: 17].

 

إخوةَ الإيمانِ: إن مفهوم الصبر عند بعض الناس مرتبط غالبًا بالأحداث التي لا يمكن ردها، والنوازل التي لا يستطيع دفعها، بينما الصبر زينة يتحلى بها المرء، في غدوه ورواحه، مع أهل بيته وأُجرائه، وجيرانه وأصحابه، فإن المخالَطة مظنة حدوث الأذى، فلا بد من الصبر على أخلاق الناس وطبائعهم، وجهلهم واستعدائهم؛ (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)[آلِ عِمْرَانَ: 120]، وفي (مسند الإمام أحمد) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمن الذي يُخالِط الناسَ ويصبر على أذاهم أعظمُ أجرًا مِنَ الذي لا يُخالِط الناسَ ولا يصبر على أذاهم"، فيتعلَّق الصبرُ بجميع أمور العبد وكمالاته، وكلّ حال من أحواله؛ كالصبر على الطاعة؛ (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)[مَرْيَمَ: 65]، والصبر عن المحرَّمات، من شهوات النفس ونزواتها، ورغباتها ومطامعها؛ (قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يُوسُفَ: 90]، وأعظمُ الصبر هنا ما كان دافعه في المرء قويًّا، ومناله سهلًا، فكيد امرأة العزيز والنسوة وما صاحبَها من إغواء وفتنة، وقد غلَّقَت الأبواب، وهيأت الأسبابَ، وتزيَّنَت ودعت، والعقوبة قد أُمِنَتْ، فاجتمعت على يوسف -عليه السلام- دواعي الفتنة، فصَبَر عن معصية ربه، ولاذ بحماه، واعتَصَم بتقواه، (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بها لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يُوسُفَ: 23-24].

 

وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: "وما أُعطي أحدٌ من عطاء خير وأوسع من الصبر"، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "وإنَّما كان الصبر أعظم العطايا لأنَّه يتعلَّق بجميع أمور العبد وكمالاته، وكل حالة من أحواله تحتاج إلى صبر؛ فإنَّه يحتاج إلى الصبر على طاعة الله، حتى يقوم بها ويؤديها، وإلى صبر عن معصية الله؛ حتى يتركها، وإلى صبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يتسخطها، بل إلى صبر على نعم الله ومحبوبات النفس، فلا يدع النفس تفرح وتمرح الفرح المذموم، بل يشتغل بشكر الله؛ فهو في كل أحواله يحتاج إلى الصبر".

 

وبالصبر يُنال الفَلَاح؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 200]؛ فالصبرُ زادُ المسلمِ في كل أمر من أمور حياته، وفي كل مرحلة من مراحل إنجازاته، وكلما كان العبد صابرًا، وصَل -بإذن الله- لمراده، وتحققت آماله، فالصبَّار: هو الذي يُعوِّد نفسَه الهجومَ على المكاره، فيجاهد نفسَه على الصبر؛ لبلوغ هدفه، فيُقدِّم مالَه وجُهدَه ووقتَه؛ ليبلغ غايتَه، فمحبةُ موسى -عليه السلام- للعِلْم، قادَتْه لأَن يقول لِفَتاهُ: (لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)[الْكَهْفِ: 60]؛ أَيْ: أسير زمنًا طويلًا، فمضى في طريقه حتى قال: (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)[الْكَهْفِ: 62]، ولَمَّا وجَد الخَضِرَ -عليه السلام-، لم يَعِدْهُ بأن يكون صابرًا لتلقِّي العلم عنه فحسبُ، بل ومطيعًا لأوامره: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)[الْكَهْفِ: 69-72].

 

مَعاشِرَ المؤمنينَ: إن الصبر ديدن الأصفياء، وخُلُق الأنبياء، وزادُهم في عبادةِ ربهم، وبلاغِ رسالتهم؛ ولذا جاء نداءُ اللهِ -تعالى- لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أن يقتديَ بصبر أُولي العزم منهم، فقال -جل جلاله-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)[الْأَحْقَافِ: 35]، فامتَثَل -صلى الله عليه وسلم- أمرَ ربِّه؛ فكان يقتدي بهديهم، ويتصبَّر بذِكر سِيَرِهم، حتى فاق بصبره مَنْ كان قبله، وسيرةُ رسولِنا الكريمِ -صلوات ربي وسلامه عليه- شاهدةٌ بالعناء والتعب، وأطوار من المشقَّة والنَّصَب، سواء في مكة أو المدينة؛ مِنْ تكذيب قومه له، واتهامه بالكهانة والسحر، والجنون والشِّعْر، واستهزؤوا به وسخروا، وهمزوا ولمزوا، وناصبوه العداءَ، وآذَوه أشدَّ الإيذاء، فطرحوا الشوكَ في طريقه، وسلَا الجزورِ على ظهره، وحاصَرُوه في الشِّعب ثلاثَ سنين، لقي فيها البأسَ والجوعَ والشدةَ، بل تآمَرُوا على قتله، (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الْأَنْفَالِ: 30]، وفي سنن الترمذي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أُخِفتُ في الله، وما يخاف أحد، ولقد أُوذيت في الله، وما يؤذى أحد"، فخرج -صلى الله عليه وسلم- من مكة، وهي أحب البقاع إليه، وقال: "علمتُ أنكِ خيرُ أرض الله، وأحبُّ الأرض إلى الله -عز وجل-، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ"(رواه أحمد)، ومات بنوه كلهم في حياته، بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-، سوى فاطمة -رضي الله عنها وأرضاها-، فاحتسَب وصبر، وكان يمر عليه الهلالُ والهلالُ والهلالُ، ثلاثة أهِلَّة، وما أُوقدت في بيوته نار، وفي صحيح مسلم خرَج رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله. قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما"، وفي مسند الإمام أحمد أن فاطمة -رضي الله عنها- ناولت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كسرةً من خبز شعير فقال: "هذا أول طعام أكلَه أبوكِ من ثلاثة أيام"، بل خرَج رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من الدنيا ولم يَشبَع من خبز الشعير"(رواه البخاري).

 

وأما صبره على الطاعة ومواصلة العبادة في الحضر والسفر، والعلن والسر، والصحة والسقم، والحرب والسلم، فتبين لنا الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنها- شيئًا من ذلك؛ ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: "لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا؟".

 

فيا إخوةَ الإيمانِ: اصبروا على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله؛ أسوةً بإمام المتقينَ، وطمعًا فيما أعدَّه اللهُ -تعالى- للصابرين: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)[الْإِنْسَانِ: 12].

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرَّعْدِ: 22-24].

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنَّه كان غفَّارًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي رَضِيَ من عباده باليسير من العمل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، إمام المتقين، وقائد الغُرّ المُحجَّلين إلى جنات النعيم، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد أيها المؤمنون: إنَّ الصبرَ من أركان الإيمان، وطريق إلى رضى الرحمن، فالصَّبر من الدِّين بمنزلة الرأس من الجسد؛ فلا إيمان لِمن لا صبرَ له، فلذا أكَّد الربُّ في طلبِه، وجعَلَه من عزم الأمور، ورتَّب عليه مزيدَ حُبِّه، ووعَد مَن اتصف به عظيمَ الأجور، فأهلُ الصبرِ: هم أهل العزائم والهمم العالية: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لُقْمَانَ: 17]، وأهلُ الصبرِ: هم أهلُ التفكرِ والتدبرِ، والانتفاعِ بالآيات والعبر: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[الشُّورَى: 32-33].

 

والإمامة في الدِّين لا تُنال إلا بالصبر واليقين: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السَّجْدَةِ: 24]، بل سعادةُ الدنيا والآخرةِ، لا تكون إلا بالصبر واليقين، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَجمَعَ -سُبْحَانَهُ- بَينَ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ؛ إِذْ هُمَا سَعَادَةُ العَبْدِ، وفَقدُهما يُفقِدُه سعادتُه، فَإِن الْقلب تَطرِقُه طوارقُ الشَّهَوَات الْمُخَالفَة لأمر الله، وطوارقُ الشُّبُهَاتِ الْمُخَالِفَة لخبره، فبالصبر يَدْفَعُ الشَّهَوَاتِ، وباليقين يَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ، فَإِنَّ الشَّهْوَةَ والشُّبهةَ، مضادتانِ للدِّينِ من كل وَجه، فَلَا ينجو من عَذَاب الله، إِلَّا مَنْ دفَع شهواتِه بِالصَّبرِ، وشُبُهاته بِالْيَقِينِ".

 

إخوةَ الإيمانِ: مَنْ لم يكن مجبولًا على الصبر فليستعن بالله وليتصبَّر بمجاهَدة نفسه على تحقيق مقامه، فمَنْ عوَّد نفسَه الصبرَ تعوَّدت وأخذَت به وتدرَّجت؛ حتى يفوز بأعلى منازل الصابرين، وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: "ومن يتصبر يصبره الله".

 

وإن ممَّا يُعين على الصبر التحلي به لوجهِ اللهِ، ولأجلِ احتسابِ ثوابِه، وتحقيق مرضاته، (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)[الْمُدَّثِّرِ: 7]، (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)[النَّحْلِ: 127]، فمَن صبَر بالله، هانَ صبرُه، وخفَّ بلاؤه، وجمَّل اللهُ أيامَه، وأحسَن عاقبتَه، وأعانَه على طاعته، وصرَفَه عن معصيته، وممَّا يُعين على الصبر، حثُّ النفس وأَطرُها، وإلزامُها بمجالَسة الصالحينَ، ومصاحَبة الأخيار المتقين، فالله جلَّ جلالُه يقول لنبيه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)[الْكَهْفِ: 28].

 

ومَنْ تذكَّر بأن الدنيا عمرها قصير، ومتاعها حقير، وإنَّما هي ساعة من نهار، كما ذكَر ذلك العزيزُ الجبارُ، قضى هذه الساعةَ في الصبر، فغزوةُ تبوك، أمضى فيها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- خمسينَ يومًا في مشقَّة وعُسر، حتى قِيلَ لِلفاروق -رضي الله عنه-: حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ الْعُسْرَةِ، قَالَ: "خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ، فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ، فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ، وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ"، ومع ذلك سمَّى اللهُ -تعالى- تلك الغزوةَ بساعة العُسرة، قال الإمام البقاعي -رحمه الله-: "وسمَّاها ساعةً تهوينًا لأوقات الكروب، وتشجيعًا على مُواقَعة المكارهِ؛ فإنَّ أمَدَها يسيرٌ، وأجرها عظيم خطير، فكانت حالُهم باتباعه في هذه الغزوة، أكملَ مِنْ حالهم قَبلَها".

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

 

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمينَ، اللهم أَصْلِحْ أحوالَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهم إنَّا نسألُكَ بفضلِكَ ومِنَّتِكَ، وجودِكَ وكرمِكَ، أن تحفَظَنا مِنْ كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، اللهم ادفع عَنَّا الغلا والوبا والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن، اللهم إنَّا نعوذ بكَ من جَهد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وسوء القضاء، اللهم إنَّا نسألك من الخير كلِّه، عاجِلِه وآجِلِه، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بكَ من الشرِّ كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، اللهم إنَّا نسألكَ الجنةَ وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ، اللهم أحسِنْ عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأَجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وكن للمستضعَفين منا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، وفق خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، واجزه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، اللهم وفقه وولي عهده الأمين، لما فيه خير للإسلام والمسلمين، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ شباب المسلمين من الفِرَق الضالَّة، والمناهج المنحرفة، اللهم جنبهم التفرق والحِزبيَّة، وارزقهم الاعتدال والوسطية، اللهم حبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم من الراشدين، اللهم انفع بهم أوطانهم وأمتهم، برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم مَنْ أرادَنا وبلادَنا وأمنَنا وشبابَنا بسوء، فأَشْغِلْهُ بنفسه، واجعَلْ كيدَه في نحره، بقوتك وعزتك يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، عاجلًا غير آجل، برحمتك يا أرحم الراحمين، لا إله إلا أنتَ سبحانك، إنا كنا من الظالمين.

 

ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا؛ (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life